مجلة الرسالة/العدد 740/أدب العروبة في الميزان
→ مع ميخائيل نعيمه في (زاد المعاد) | مجلة الرسالة - العدد 740 أدب العروبة في الميزان [[مؤلف:|]] |
من ذكرياتي في بلاد النوبة: ← |
بتاريخ: 08 - 09 - 1947 |
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
من كتاب هذا الكتاب الأستاذ كامل محمد عجلان، وأشهد أن لهذا الأستاذ قلماً، وأن له كتابة تنبئ عن مستقبل وتبشر بآمال، وأحسب أن مرد ذلك لا إلى أنه يتولى تدريس علوم البلاغة في الأزهر، ولكن لأنه أديب مطبوع له قلب وفيه خيال زادتهما الدراسة عمقاً وأصالة وصقلا، أنظر إلى قوله عن الربيع إنه (أنفاس الجنة وريش حمائمها، ونثار الملائك، وغراس القدرة، تطله العناية لنمسح بمراياه لغوب الحياة المكافحة، وهو خطوط رفعها الله معالم، وصوى تهتف بالقلوب وتنزع عنها لباس الجمود فتبسل إيماناً بالجمال الذي يرقص الإنسان على هدهدات الظلال كلام له قيمة وله وزن وتغاريد الطيور وخرير الماء.)
هذا كلام له قيمة وله وزن عندما توزن الأقوال، وهذا كلام أديب أصيل في الأدب يعرف كيف يصوغ الألفاظ وكيف يصطفيها. وفي الكتاب أربع كلمات أخرى عن الربيع لأدباء آخرين لا توزن جميعها بهذه الكلمة إذا وضعت معها في ميزان!
وانظر إليه وهو يخاطب القمر فيقول له (ما أنت يا قمر؟ أنت راهب الأحلام وسواق الأماني تلقيها في قلوب الحيارى وتشعشع بها عواطف العاشقين، وتداعب بها الساهدين فتكون برداً على أفئدتهم الهواء، وسميراً إذا طال أمد الحبيب، وشدت الأضالع بالأنفاس المبهورة والزفرات الأسيفة.
يا ابن السماء: إذا غابت عنا شموس الفتنة أرسلتك صفحة تنبشر سحرها وتفتن العابد وتسل عليه من سيوف الأحلام ما يبعث اليقظة الثائرة وتهز القلب وتراود الواهي بين الحنايا فينقاد ويعود إلى محاريب الجمال وملاعب الصبوات). أين من هذا الكلام الجميل كلام صاحب له في القمر أيضاً يقول فيه (هات الناي فصلاتنا اليوم ألحان، وشرابنا رحيق من كوثر الإيمان طوبى للقمر إنه آية في الفرقان، ويمين أقسم به الديان تسبح في الأكوان، وتنادي يها أيها الإنسان، أعبد الله لا تكن قرين الشيطان، فحياة القلوب في عبادة الرحمن.) هذا كلام مرصوص كالبنيان، ليس وراءه قلب ولا وجدان، ولكنه السجع الذي شغف به وعبده الكثير من أدباء هذا الزمان!!
والشعراء في كتاب (أدب العروبة) هم الكثرة الغالبة فيه حتى كان يمكن أن يسمى هذه الكتاب (شعر العروبة) ووكيل الجماعة الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم له في الكتاب سبع قصائد لكل مهرجان قصيدة! ولقد قرأتها جميعاً في أناة ومهل، وقرأتها أكثر من مرة، وفتشت جاهداً على أجد فيها شعراً جميلا يستحق النشر والإعلان بله التنويه والإشادة فما وجدت والله من ذلك شيئا! فشعره - ولا حياء في القول - ليس فيه سمة واحدة من سمات الشعر إلا أنه موزون مقفى! أستغفر الله فقد انحرف عن استقامة الوزن في بعض شعره كقوله في قصيدة الهجرة:
هيا أترعى وامنحي الظمأى حلاوتها ... هاتي لنا الدنيا. . . هاتي لنا الدنيا
فالشطر الثاني غير مستقيم الوزن، وكقوله في قصيدة مهرجان الفيوم:
بشراً عبقريا بأني أغنى ... فأشيع النبوغ في الأكوان!
فالشطر الأول غير مستقيم الوزن، وكقوله في مهرجان المنصورة:
الشعر جند لا سبيل لصده ... لا يخشى ناراً أو يخاف أسوداً
فالشطر الثاني غير مستقيم الوزن كذلك.
وشعر الأستاذ فوق بعده عن الرنين والإيقاع والموسيقى، وفوق أنه لا يعنى مطلقاً باختيار ألفاظه بل يسوقها سوقاً من أي واد يتفق له ساعة ينظمها فهو لا يحفل بالمعاني ولا يقف عندها ويتأتى لها حتى تخرج للناس شيئا يمكن أن يقال عنه شعر، فهو يقول عن القمر مثلا إنه:
عطوف حدبه وسع البرايا ... ويشفى هديه الجفن القريحا!
ويسهر دائباً طول الليالي ... ويكبح سحره البحر الجموحا!
فهل يشفى القمر الجفن القريح؟ وهل يكبح القمر البحر الجموح؟ أم هل كلام موزون وكفى؟؟ ويقول أيضاً إنه: -
صموت لا تزعزعه العوادي ... وكان بصمته معنى فصيحا (كذا)
ويفضى عن عيوب الناس طراً ... ويفسح للمحاسن كي تفوحا
فما للصمت وللعوادي؟ أو ما للقمر وللعوادي؟ وما إغضاء القمر عن عيوب الناس طراً؟ هذا خلط من القول يجب أن يوارى. ويقول في مهرجان الهجرة عن صاحبها السلام:
مواكب الخير دنيا وآخرة ... كانت لدعوته العليا ميادينا
حتام نشكو الضنا والسعد في يدنا ... يكفى جيمع الورى طراً ويكفينا؟
فإن كلمة (السعد في يدنا) هذه أقرب إلى كلام العامة من الناس، وهل كانت مواكب الخير في الدنيا والآخرة يوماً ميداناً لدعوة؟
ويقول في مهرجان الفيوم عن مصر:
قد بنينا الحياة علماً ومعنى ... لزكاة الأرواح والأبدان
إلى أن يقول عن مدينة الفيوم:
هاهنا السحر، هاهنا الشعر والآ ... داب والدين والمنى والأماني!
فأي حشد من الكلام هذا؟ وأي شعر فيه؟
ويقول في مهرجان (الفاروق): -
بالعدل والخلق والإيمان منزله ... قد جاوز النجم والأقمار والشهبا (كذا)
قد كنت أعلم أن الشمس عالية ... مهما الخيال ارتقى للشمس ما اقتربا
جمعت كل معاني المجد قاطبة ... العدل والملك والأخلاق والحسبا
فهذا كلام عام لا سمة فيه ولا معنى له إلى أنه ركيك العبارة فاسد التركيب.
ويقول مخاطباً الناس منبهاً لهم إلى ارتياد الجمال:
فخذوا الجمال إلى الكمال وسيلة ... وتفيئوه بأقدس النظرات
ومُذْ اطمأنت للجمال نفوسكم ... ووصلتم الحسنات بالحسنات
ترثون كنز الأنبياء فضائلا ... وتبادولن الطهر خير صلات!
أنا أرجو القراء الكرام أن يدلوني في على معاني هذه الأبيات ومدى ارتباط بعضها ببعض فقد عييت بفهمها وإدراك ما يقصد الشاعر إليه فيها. ولا أسرف أكثر من ذلك في سوق النماذج من شعر الأستاذ فكل شعره من هذا الطراز هلهلة وتفككا واضطراباً، وسيجد القارئ مصداق كلامي أن هو اعتمد على الله واحتسب عنده تعالى ساعة يقرأ فيها قصائد الأستاذ في الكتاب! ولست أحصى كذلك أخطاءه اللغوية والنحوية فيبدوا لي أن الأستاذ لا يأبه كثيراً لذلك ويجد الأخطاء اللغوية والنحوية من الهنات التي لا يقام لها وزن كبير! وهل يحفل بالأخطاء النحوية واللغوية من يقول مخاطباً القمر (وأرجع مجدنا الضخم الفسيحا) بهمزة القطع مع أنه قرأ قول الله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) وقوله تعالى (قال رب ارجعون) بهمزة الوصل؟ ثم هو يعكس الأمر حسب هواه أو حسب هوى الوزن الشعري فيقول (هيا أترعى وامنحني الظمأى حلاوتها) بهمزة الوصل والصواب أن يقول (أترعى) بهمزة القطع فيركب السيئتين معاً؟
وهل يعنى العناية الواجبة بلغته من يقول (لكنه وهب الحياة خلوداً) والله تعالى يقول (رب هب لي من لدنك ولياً) ويقول (ووهبنا له) أو من يقول مثل عبارته عن القمر (ولكن يضرب المثل النصوحا) أو عبارته عن القمر أيضاً إنه (يفسح للمحاسن كي تفوحا)؟ أو يقول عنه أيضاً: -
ولو شاء لستكان إلى قعود ... ولم يسمع لعاوية نبوحاً (كذا)
أنا اطلب إلى معالي الرئيس الشاعر الذواقة أن يواري هذا الكلام ولا يأذن بنشره على الناس، أو أن يلزم أصحابه التجويد ولأناة والمهل أن كان بهم طاقة على ذلك وإلا فليس الشعر هزلا وليس الشعر كلاماً يلقى على الناس دون حساب ودون ضابط فيكون شعراً بإذن الله!
ولو شاء الأستاذ لرأى في صديقنا الدكتور إبراهيم ناجي من أصالة الشاعرية وسمو الخيال وموسيقى اللفظ ما لو نهج فيه نهجه لكان مثله من الشعراء المجيدين ولكن الله يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور!
وللأستاذ الدكتور إبراهيم ناجي في الكتاب ثلاث قصائد فقط لا تعدل قصائد الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم السبع واحدة منها والدكتور ناجي شاعر بالفطرة وشاء، باللفظ وبالمعنى وبالخيال الفسيح البعيد، وبالموسيقى التي تشيع في جو قصائده. والقصائد الثلاث التي احتواها كتاب (أدب العروبة) لا تعبر عنه تمام التعبير ولا تدل عليه تمام الدلالة فأنا أعرف له الكثير من الشعر العذب الرصين السائغ السامي ولكنني لست إلا بصدد الكلام عن كتاب (أدب العروبة) فأنا أعرف نماذج من شعره فيه ليرى القارئ معي ما أرى من جمال الشعر وسمو الخيال، فهو يقول عن نفسه في قصيدة (الربيع): -
إني فراش خميلة قد جنَّ في ... عرس الربيع الضاحك المختال خلق الربيع له حناجىْ نشوة ... وسقاه كأسىْ فرحة وخيال
حسن وقفلت على سناه مبالياً ... وأنا الذي ما كنت قبل أبالي
غنيته حتى إذا حجب النوى ... أنواره وجبينه المتلالى
غنيته في القلب محتفلاً به ... مترقباً عود الربيع التالي. . .
ألا ترى أن ذلك شعر يوشك أن يكون غناء؟ وأن له جرساً وموسيقى ورنيناً؟
ويقول في قصيدة الفيوم هذه الأبيات البديعة حقاً يخاطب مصر: -
تالله لو في الخلد كنت بوضع ... أو في المجرة مصبحي ومهادي
لرنت لشطيك النواظر من عل ... وهفا إليك من الجنان فؤادي
إلى أن يقول: -
خير الوثائق ما كتبت سطوره ... بدم الضحايا المحض لا بمداد
تمليه إملاء القوى محطماً ... بيديك أنت مذلة الأصفاد!
ويقول في مهرجان (الشرقية) من قصيدة عنوانها (المجد الحي) ما يأتي: -
أين الغزاة الألى مروا بنا زمراً ... وأين بالله تيجان ودولات؟
مروا ومصر على التاريخ باقية ... كصفحة حولها للنور هالات
يد تخط وأخرى غير وانية ... لها على الدهر توكيد وإثبات
هذا هو المنطق العالي وأعجبه ... محض من الزور وشته الضلالات
ومسرح في الليالي لا جديد به ... لكن يعاد عليه الذئب والشاة!
أو لرأى في صديقنا الشاعر المرح الطروب الأستاذ محمد مصطفى حمام مثلا عالياً في هذا اللون الطريف من الشعر في عبارة رنانة أخاذة وموسيقى تأخذ بمجامع القلوب، انظر إليه وهو يقول في (فلسفة الربيع) هذا الكلام الجميل السهل: -
لي وللناس في الربيع معاني ... ولنا في الربيع أحلى الأماني
فربيع الحياة عصر التصابي ... وشباب الأرواح والأبدان
وربيع (الجيوب) إحراز مال ... وامتلاء بالأصفر الرنان!
وربيع (الموظفين) علاوا ... ت ورزق يأتي بغير أوان!
وربيع الأديب لقيا عروس ... رفها الشعر من عذارى المعاني كم لهذا الربيع فلسفة تح ... لو وكم للربيع من ألوان!
فهو يصدر في شعره هذا عن طبيعته المرحة الطروب، وهو الذي لا تفارق الابتسامة ثغرة، ولا النكتة حديثه! وانظر إليه وهو يقول في قصيدته (مناجاة القمر) هذا الشعر الجميل: -
يا بدر. . . يا سلوة للقلب شافية ... إذا ألح عليه الهم والضجر
ويا رقيباً على العشاق مؤتمناً ... السر عندك مكنون ومدخر
ويا حسيباً جرت أسطار صفحته ... بالخير والشر مما قدم البشر
يا من تموت وتحيا. . ثم لا هرم ... يبدو عليك ولا ضغف ولا كبر
يا من تعيش بأعمار مجددة ... وكل يوم ترى الأعمار تهتصر
يا قيصراً عرشه الدنيا وما وسعت ... وجنده الأنجم الوضاءة الزهر
يا صورة من جمال الله مشرقة ... والشاعر الحق تسبى لبه الصور!
دعني أسامرك في جد وفي هذر ... ففي لياليك يحلو الجد والهذر
كم ليلة لحت فيها شاحباً أرقاً ... كأنما شفك التطويف والسهر
أو ضقت بالظالم يغشى الأرض قاطبة ... أأنت مثلي طريد الظلم يا قمر؟
وبعد: فإن كتاباً يضم بين دفتيه أمثال هذين الشاعرين يجوز أن يتخرص عليه المتخرصون ويأفك به الأفاكون، ويقولون طبعوه في مطبعة حكومية؟ إلا ليت المطابع الحكومية تخرج للناس - على نفقتها لا على نفقة المؤلفين - كل يوم كتاباً هكذا فذلك أجدى على الناس وعلى الدولة مما تخرج من إحصاءات وأرقام ومناشير لا غناء فيها ولا طائل وراءها. . . .
علي متولي صلاح