مجلة الرسالة/العدد 74/محاولات أفلاطون
→ بين فن التاريخ وفن الحرب | مجلة الرسالة - العدد 74 محاولات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
ذكرى ميلاد ← |
بتاريخ: 03 - 12 - 1934 |
2 - محاولات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أخذت ألتمس الناس رجلاً فرجلاً وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن عن المضي فيها محيص. إنها كلمة الله، ويجب أن أُحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لابد أن أحاور أدعياء العلم جميعاً لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم - فواجبي أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاماً رجالاً بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بازائهم أشد جهلاً. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئاً. أفأنتم مصدقون ما أقول؟ واخجلتاه! أكاد أستحيمن القول لولا أني مضطر إليه، فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والوحي. إنهم كالقديسين أو الأنبياء الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئاً استناداً إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاماً، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة. وأخيراً قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلاً بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدي هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيباً فيما ظننت، إذ كانوا يعلمون كثيراً مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب.
ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلابد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة الغرور بحسنة الحكمة. لهذا ساءلت نفسي بالنيابة عن الراعية: أكنت أحب أن أظل كما أنا، لا أملك ما يملكون من علم، ولا أكبو فيما كبوا فيه من الخطأ، أم كنت أحب أن أكون شبههم في العلم والجهل على السواء؟ فأجبت نفسي، وأجبت الراعية: إنني خير منهم حالاً
وهذا الذي انتهيت إليه قد حرك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءاً وخطراً، كما نسج حولي طائفة من الدعاوى الباطلة. ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم إذ خيل إليهم أنني ما فتئت أحمل الحكمة التي كانت تعوزهم. ولكن الله - أيها الأثينيون - هو الحكيم الأوحد، ولعل الله حين أجرى على لسان راعيته ما نطقت به، أراد أن الحكمة في البشر ضئيلة أو معدومة. إنه لم يتحدث قصداً عن سقراط، إنما ضرب باسمي مثلاً، كأنما أراد أن يقول إن من يدرك كما أدرك سقراط أن حكمته في حقيقة الأمر لا تساوي شيئاً، يكون أحكم الناس. فأنا كما تروني أسير وفقاً لما يرسمه لي الله، أفتش عن الحكمة في كل من يدعيها، لا أبالي أكان من أبناء الوطن أم غريباً، فان لم أجده كما أدعى، صارحته بجهله كما أمرتني الراعية. ولقد انصرفت إلى هذا الواجب انصرافاً لم يبق لي معه من الوقت ما أبذله فيما يشغل باب العامة، أو أنفقته في شئوني الخاصة؛ وهكذا كرست حياتي لله فعشت فقيراً معدماً
أما أن الشبان الأثرياء الذين لا تضنيهم شواغل الحياة كثيراً، قد التفوا حولي، فهم قد جاءوا يسعون من تلقاء أنفسهم، ليشهدوا امتحان الأدعياء؛ وكثيراً ما انطلقوا بدورهم يلتمسون أدعياء الحكمة ليجروا عليهم التجربة نفسها. وما أكثر ما صادفوا رجالاً ظنوا في أنفسهم العلم، فإذا بهم لا يعلمون إلا قليلاً، أو هم لا يعلمون شيئاً؛ فلا يلبث هؤلاء الذين امتحنهم الشبان أن يصبوا عليّ جام غضبهم، وأنفسهم أحق بهذا الغضب، ويستنزلون اللعنة على سقراط لأنه أفسد الشبان. فان سألهم سائل فيم هذه اللعنة، وأي جريرة أتى، وأي رذيلة علم، لما حاروا جواباً، لأنهم لا يعرفون لغضبهم سبباً. ولكي يستروا علائم الحيرة تراهم يعيدون التهم المعروفة التي قذف بها الفلاسفة جميعاً، من أنهم يعلّمون ما يتصل بالسحاب، وما هو دفين تحت الثرى، وأنهم كافرون بالآلهة، وأنهم يُلبسون الباطل صورة الحق؛ والحقيقة أنهم جاهلون ويأبون الاعتراف بجهلهم المكشوف. ولما كانت تلك الفئة كثيرة طامعة نشيطة، وقد تصدوا جميعاً للنزال بما لهم من ألسنة حداد تلعب بالنفوس، فقد ملأوا أسماعكم بهذا الاتهام الباطل. وكان أن ناصبني العداء هؤلاء المدعون الثلاثة: مليتس، وأنيتس، وليقون. فقد ناهضني مليتس ليمثل جماعة الشعراء، وأنتيس ليمثل طبقة الصناع، وليقون ليمثل الخطباء. وأنني كما قدمت لا آمل في أن أمحو في لحظة كل ما علق بي من تهم باطلة. أيها الأثينيون! لقد رويت لكم الحق كل الحق، لم أُخف شيئاً، ولم أشوه شيئاً، ومع هذا فأنا أعلم أن صراحتي في الحديث ستصدكم عني، وما هذا الصد إلا برهان على أني أقول الحق. تلك هي دعواهم وذاك منشؤها، ولن تسفر هذه المحاكمة ولا أية محاكمة مقبلة عن غير هذا
حسبي هذا دفاعاً للفريق الأول من المدعين. وهأنذا أتوجه الآن بالحديث نحو الطائفة الأخرى وعلى رأسيهم مليتس، ذلك الرجل الطيب، الوطني، كما يقول عن نفسه. وسأحاول أن أدفع عن نفسي ما أتهمني به هذا الفريق الجديد. وجدير بنا أن نبدأ بتلخيص دعواهم، فماذا يزعمون؟ إنهم يقولون: أن سقراط فاعل للرذيلة، مفسد للشباب، كافر بآلهة الدولة، وله معبودات اصطنعها لنفسه خاصة. تلك هي دعواهم، وسبيلنا الآن أن نناقشها تفصيلاً.
أما الزعم بأني فاعل للرذيلة مفسد للشباب، فأنا أقرر أيها الأثينيون عن هذا الرجل مليتس، أنه هو صاحب رذيلة. ورذيلته أنه يتفكه حيث يجب الجد، وهو لا يرى غضاضة في أن يسوق الناس إلى ساحة القضاء متستراً وراء الحماسة المصطنعة والاهتمام المتكلف بأمور لا تعنيه بشيء؛ وسأقيم لكم الدليل على صدق هذا
- اقترب مني يا مليتس لألقي عليك سؤالاً. هل تفكر طويلاً في إصلاح الشباب؟
- نعم، إني أفعل
- أذن فقل للقضاة من هو مصلح الشبان، فأنت لابد عالم به ما دمت قد عانيت آلاماً في اكتشاف مفسدهم، فها أنت ذا قد سقتني إلى القضاء متهماً. تكلم إذن وقل للقضاة من هو مصلح الشبان. وما لي أراك يا مليتس لا تحير جواباً؟! أفليس هذا دليلاً قاطعاً، مزرياً بك، يؤيد ما ذكرته من أن أمر الشبان لا يعنيك في شيء؟ تكلم يا صديقي وحدثنا عن مقوم الشباب!
- هي القوانين
- ولكن ليست القوانين هي ما عنيت يا سيدي، إنما أردت أن أعرف ذلك الشخص الذي يحفظ القوانين قبل كل شيء
- هم من ترى في المحكمة من قضاة يا سقراط
- ماذا تريد أن تقول يا مليتس؟ أتعني أن القضاة قادرون على تعليم الشبان وإصلاحهم؟
- لست أشك في أنهم كذلك
- أكلهم كذلك، أم بعضهم دون بعض
- القضاة جميعاً
- قسماً بالآلهة إن هذا الخبر سار. إذن فهناك طائفة من المصلحين، وماذا تقول في النظارة؟ أهم يصلحون الشباب؟
- نعم هم يفعلون
- وأعضاء الشورى كذلك؟
- نعم أنهم كذلك يصلحون
- ولكن قد يكون رجال الدين لهم مفسدين؟ أم هم كذلك يقومون الشباب؟
- إنهم كذلك من المصلحين
- إذن فكل الأثينيين يصلحون الشبان ويرفعون من قدرهم، ما عداي. فأنا وحدي الذي أفسدت الشباب. أهذا ما أردت أن تقول؟
- وذلك ما أؤيده بكل قوتي
- يالبؤسي إذن إن صح ما تقول!. ولكني أُريد أن أسألك سؤالاً: أيصح هذا القول كذلك على الجياد؟ أيمكن أن يقدم لهم الأذى فرد واحد، بينما يقدم الخير العالم أجمع؟ ألست ترى العكس هو الصحيح؟ فرجل واحد يستطيع أن يعمل لها الخير، أو قل هي فئة قليلة، وأعني أن مروض الجياد هو الذي يقدم لها الخير، أما بقية الناس الذين يستخدمونها في أعمالهم فهم لها مسيئون. أليس هذا صحيحاً يا مليتس بالنسبة إلى الجياد وكل أنواع الحيوان؟ نعم ولا ريب، سواء رضيت أنت وأنيتس أم لم ترضيا، فذلك لا يعنينا. اللهم أنعم بحياة الشبان لو كان عليهم مفسد واحد فحسب. وكانت بقية العالم مصلحين. وأنت يا مليتس، لقد أقمت لنا الدليل ناصعاً على إنك لم تكن تفكر في الشبان؛ فإهمالك إياهم واضح حتى فيما ذكرت في صحيفة الدعوى. والآن يا مليتس، لابد أن أسألك سؤالاً آخر: أيهما خير، أن يكون أبناء وطنك الذين تعيش بينهم فاسدين أم صالحين؟ أجب يا صاح فذاك سؤال ميسور الجواب! ألا يقدم الصالحون الخير لجيرانهم بينما يسئ إليهم الفاسدون؟
- نعم ولا ريب
- وهل هناك إنسان يفضل أن يساء إليه على أن يُحسن إليه ممن يعيش بينهم؟ أجب يا صديقي، فالقانون يتطلب منك الجواب. أيحب أحد أن يصيبه الضر؟
- كلا ولا ريب
- وأنت حين تتهمني بإفساد الشبان والحط من شأنهم، أتزعم أني أتعمد ذلك الإفساد يجئ عني عفواً؟
- أنا أزعم أنه إفساد مقصود
- ولكنك اعترفت الآن أن الرجل الصالح يقدم الخير لجيرانه، وأن الفاسد يقدم لهم الشر، أفتظن أن هذه الحقيقة قد أدركتها حكمتك البالغة وأنت لا تزال من الحياة في هذه السن الباكرة، وأنا، وقد بلغت من الكبر عتياً، مازلت أخبط في ظلام الجهل فلا أعلم أني أفسدت أولئك الذين أعيش بينهم فيغلب أن يصيبني منهم الضرر؟ أفاكون عالماً بهذا ومع ذلك أفسدهم، وأفسدهم متعمداً؟ هذا ما تقوله أنت، فلا أحسبك مقنعني به ولا مقنعاً به كائناً من كان. إحدى إثنتين: إما إنني لا أفسد الشبان، أو أنني أفسدهم من غير عمد؛ وسواء أصحت هذه أم تلك فأنت كاذب في كلتا الحالتين
فان كانت جريمتي بغير عمد فلا يحاسب عليها القانون، وكان خليقاً بك أن تسدي لي النصح خالصاً، محذراً ومؤنباً في رفق ولين، فان انتصحت بك، أقلعت ولا ريب عما كنت آتيه بغير قصد؛ ولكنك أبيت لي نصحاً وتعليماً، وآثرت أن تجئ به متهماً في ساحة القضاء، وهي محل العقاب لا مكان التعليم
لقد تبين لكم أيها الأثينيون أنه لا يعنيه أمر الشبان في كثير ولا قليل، ولكني مازلت أود يا مليتس أن أعرف منك فيم كان إصراري على إفساد الشباب؟ لعلك تعني كما يبدو من اتهامك أني حملتهم على إنكار الآلهة التي اعترفت بها الدولة، ليقدسوا في مكانها معبودات جديدة أو قوى روحانية. أليست هذه هي الدروس التي زعمت أني أفسدت بها الشباب؟
- نعم، هذا ما أقوله وأؤكده - إذن فقل لي يا مليتس، وقل للمحكمة في عبارة واضحة، أي آلهة أردت في دعواك، لأنني حتى الساعة لا أفهم ما تأخذه عليَ. أكنت أعلم الناس الأيمان بآلهة معينة؟ وإن كان هذا فهم مؤمنون بآلهة ما، ولم أكن إذن كافراً تمام الكفران. إنك لم تشر إلى ذلك في الدعوى واكتفيت بالقول أنها ليست نفس الآلهة التي تعترف بها المدينة. ما تهمتي؟ أهي الدعوة إلى آلهة مخالفة أم تزعم أني ملحد ومعلم للإلحاد؟
- أردت الأخيرة، فأنت ملحد غاية الإلحاد
- هذا قول عجيب لم نعهده يا مليتس، ماذا تعني به؟ ألست أومن بإلهي الشمس والقمر، وهي عقيدة سائدة بين الناس جميعاً!
- إني أؤكد لكم أيها القضاة أنه لا يؤمن بهما، فهو يقول إن الشمس كتلة من الحجر، وأن القمر مصنوع من تراب!
يتبع
زكي نجيب محمود