الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 74/ذكريات

مجلة الرسالة/العدد 74/ذكريات

بتاريخ: 03 - 12 - 1934


دمه العربي. . .

للأديب حسين شوقي

حينما كنت في باريس أتلقى دراسة القانون تعرفت بالفندق الذي كنت أقيم فيه بالحي اللاتيني (حي الطلبة) بطالب أسباني، وقد دفعتني إلى حب التعرف به معرفتي اللغة الأسبانية، (فقد قضيت خمس سنوات بأسبانيا)، والميل إلى التمرن عليها. . كذلك جذبتني إليه سيماه العربية كسمرة بشرته، وعيونه السوداء، وهي في حدتها كعيون البدو في الصحراء، وجذبتني إليه اسمه العذب الذي ينتهي بحرف (الثاء) إذ كان يدعى مونيوث، وهذا الحرف لا يوجد على ما أعلم - إلا في اللغة العربية، فورثته الأسبانية عنها. . كنا نقضي الليل أنا وهو في كثير من الأحيان، في مقهى ليلي جميل يديره بعض الصينيين بالحي اللاتيني، ذلك الحي الذي لم يكن تخلى بعد لحى مونبرناس (حي الشعراء والفنانين) عن إمارة الليل. .

وكان مجلسنا يضم أيضاً طالبين أسبانيين، وطالباً أخر من جزر الفلبين. .

وا آسفاه على تلك الليالي الغابرة التي قضيناها في المتاع واللهو! بينما كنا ذات ليلة جالسين كالعادة في المقهى ننعم بالرقص والموسيقى، إذا بأحد الشبان يصفع صديقته وقد رآها تتبادل النظرات غير المشروعة مع شاب آخر. . فغضب مونيوث لهذا المنظر، وهم بالتدخل في الأمر لولا أننا أمسكنا بسترته لأننا كنا نخالفه الرأي اشفاقاً على العاشق المخدوع الذي لم يقدم على عمله في اعتقادنا، إلا تحت سلطان الغيرة. . وقد دفعنا هذا الحادث إلى الخوض في موضوع الغيرة فأطبق رأينا على أنها شعور طبيعي يلازم الحب، وعلى أنه مقياس حرارته الصادق، بخلاف مونيوث الذي كان يرى في الغيرة شعوراً أولياً همجياً يمكن القضاء عليه بالتربية والتهذيب كما قضت المدينة من قبل على بعض عيوب البشر الأولى. .

فقال عندئذ فرناندو - الطالب الفلبيني - موجهاً الكلام لمونيوث:

إذا كنت يا صديقي لا تغار فما بالك تحجب عنا حبيبتك نانيت؟

فبُهت مونيوث لهذا السؤال المفاجئ وتلعثم قائلاً: أنا لا أحجب نانيت بل هي التي تعرض عن الحضور لأنها لا تحب الرقص. .

فصاح ريكاردوا، أحد الطالبين الآخرين:

يا للعذراء! هل هناك فتاة تبغض الرقص؟ إن رجلي البائستين لم تعودا تحملانني من كثرة ما رقصت مع صديقتي سيمون!

فقلت بدوري لمونيوث:

ولكني لم أشاهد صديقتك نانت هذه!

فتدخل فرناندو قائلاً: إنه يخاف عليها يا عزيزي كما تخاف القطة على صغارها

ثم استمررت موجهاً كلامي لمونيوث:

لا يمكن إلا أن تكون غيوراً يا صديقي، ففي عروقك الدم. الشرقي العربي الفائر. .

ولكن مونيوث أصر على إنكاره الغيرة كما أنكر الدم العربي، واعداً إحضار نانيت معه في أقرب فرصة. . .

ولكن مونيوث طبعاً لم يف بوعده. .

تعرفت بعد ذلك بأيام بنانيت هذه بالفندق، إذ أتت لتزور مونيوث وكان إذ ذاك معتل الصحة، فعذرت عندئذ صديقي لحرصه على نانيت، لأنها كانت جميلة إلى حد بعيد، بشعرها الذهبي المنفوش، وعينيها الخضراوين اللتين كأنهما عينا قطة أنقرية. . ولما كنا في ذلك الوقت في أواخر شهر ديسمبر، وضعنا ذات ليلة برنامج سهرة في ليلة رأس السنة، ووعدنا مونيوث باصطحابه نانيت في تجوالنا تلك الليلة بمقاهي باريس الليلية. . على أننا شككنا في هذا الوعد أيضاً. . ولكن حينما جاءت الليلة الموعودة، أقبلت نانيت متأبطة ذراع صديقها! بدأنا طوافنا بالذهاب إلى ملهى (الطاحونة الحمراء) حيث كانت الممثلة الأسبانية الرشيقة (راكل ملر) تخلب الباريسيين بصوتها الشجي ورقصها السماوي. . ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مقهى قريب من (الطاحونة الحمراء) يديرها بعض أشراف الروس الذين هاجروا من بلادهم على أثر قيام النظام الشيوعي في روسيا؛ وكان المحل غاصاً بالأجانب والفرنسيين على سواء الذين أتوا ليستقبلوا السنة القادمة بين المرح والسرور عساها تأتي لهم بالسعادة. . .؟!

جلسنا في البار الذي كان مرتفعاً حتى نستطيع أن نشرف على المرقص بأجمعه. . ثم شهدت بعض أصدقائي من المصريين جالسين بالقرب من حلبة الرقص، فانتقلت إلى مائدتهم لتحيتهم. . . ولكن لم يمضي زمن طويل على وجودي معهم حتى سمعنا جلبة قوية آتية من جهة البار، فذهبت لفوري إلى هناك فإذا بأصدقائي الأسبان يتشاجرون مع بعض الفتية الفرنسيين، وقد تمكن الحاضرون من تفريقهم بعد جهد كبير دون الالتجاء إلى البوليس. . أما سبب المعركة فكان نانيت! والمحرك الأول هو مونيوث!

غازل شاب فرنسي جميل نانيت، ولكن مونيوث لم يفعل شيئاً وقتئذ برغم ملاحظته الأمر، وذلك عملاً بمبادئه السلمية وتغلباً على الغيرة المرذولة! ولكن مونيوث المسكين لم يطق صبراً حينما شاهد نانيت تبتسم بدورها لمغازلها، فأفلت منه جواد الغيرة الجامح. . فأمسك مونيوث بكرسي وقذف به الشاب الفرنسي عندئذ هب بعض الفرنسيين الحاضرين للدفاع عن مواطنهم، وكان بغض الفرنسيين للأجانب شديداً في ذلك العهد، فهب الأسبان بطبيعة الحال للدفاع عن مونيوث.

انتقلنا بعد ذلك إلى صيدلية ضمدت فيها الجراح وأهمها جرح بليغ في شفة مونيوث السفلى، إذ كنا عازمين على السهر إلى آخر الليل حتى لا نستقبل السنة الجديدة بمثل هذا الحادث المكدر. . ثم قصفنا طويلاً في أحياء باريس المختلفة.

سألت مونيوث ونحن في طريق العودة إلى الفندق ألا يزال ينكر الغيرة ولا يؤمن بدمه الشرقي العربي؟ فأومأ برأسه اعترافاً بهزيمته أمام الغيرة، وبما يخالط دمه الأسباني من دم عربي حر. . واكتفيت بهذا الإيماء، فان الكلام كان يؤلمه، لأن فمه لا يزال دامياً، ولعل قلب مونيوث المسكين كان أدمى من فمه!. .

كرمة ابن هانئ

حسين شوقي