مجلة الرسالة/العدد 739/تعقيبات
→ نشوة الخيام | مجلة الرسالة - العدد 739 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1947 |
فارس الخوري الشاعر:
استفاض الحديث في مصر وفي الشرق العربي، بل في العالم أجمع عن فارس الخوري ممثل سورية في مجلس الأمن ورئيس المجلس في دورته الحالية، واستفاض الثناء عاطراً في جميع الدوائر على ما أبدى في هذه الرياسة من أصالة وكياسة، وشهدت البرقيات التي أذيعت في العالم بأنه (خير من رأس المجلس إلى الآن، وأنه يدير دفة الاجتماعات بدقة فائقة تتلخص في التقليل من الكلام والإكثار من العمل وحسم الأمور حتى استطاع أن يعمل في ثلاثة أسابيع ما لم يستطعه أحد من رؤساء المجلس السابقين. .).
وفارس الخوري - بارك الله في حياته - في الثامنة والستين من عمره الآن، وهو من الرعيل الأول من رجال الوطنية في سورية. وكان محامياً في دمشق، وكان أستاذاً في كلية الحقوق، وكان وزيراً مراراً، ورئيس وزارة =، ورئيس المجلس النيابي، ولكن قلَّ من أبناء هذا الجيل من يدري أن هذا السياسي المحنك كان في مطلع حياته من الشعراء النابغين والكتاب المبرزين، وأنه في مطلع هذا القرن، أي منذ أربعين عاماً، كان يملأ صحف مصر وسورية بمنظوماته وكتاباته، وإني لأذكر له من ذلك تخميساً لنونية ابن زيدون المشهورة نظمه في سنة 1906 وفيه يقول:
الطيف في النوم يرضينا إذا عبرا ... إن عزت العين صرنا نطلب الأثرا
لا تعجبوا إن صبرنا نحمل القدرا ... إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
نرضي الهوان بديل العز أكمله ... والجسم ينحل سقماً من تحمله
ونرتضي وشلاً عن فيض جدوله ... أما هواك فلم نعدل بمنهله
شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
أعرضت عنا وأعرضنا على وصب ... نكتم الناس ما في القلب من لهب
فما اتخذنا تجافينا بلا سبب ... ولا اختياراً تجنبناك عن كثب
لكن عدتنا على كره عوادينا
ضاقت على رحبها الدنيا فلا سعة ... تحوي فؤاداً وأحشاءاً مقطعة نأسى إذا الشمس جازتنا مودعة ... نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا فغنينا
لا شئ يسكن شيئاً من بلابلنا ... ولا نرجى عزاء من وسائلنا
ظمائن الأنس شالت عن منازلنا ... لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تسلينا
وفي سنة 1905 قامت الحرب بين روسيا واليابان، وحدث فيها ما حدث من الوقائع والفظائع، ومنيت فيها روسيا بهزيمة منكرة لم تكن في الحسبان، فاتخذ فارس الخوري من مشاهد تلك الحرب الضروس موضوعاً لملحمة شعرية تتألف من أربع قصائد ألم فيها بالأسباب التي دعت إلى إشهار تلك الحرب وذكر المعارك والمواقع البحرية والبرية التي جرت بين الصفر والبيض، وفتح للانفعالات النفسانية والتخيلات الشعرية مجالاً رحباً في الوصف حتى جاءت تلك الملحمة مزيجاً من التقرير التاريخي والخيال الشعري، ولما كان ولي عهد روسيا يومذاك قد ولد أثناء تلك الحرب فقد ختم ملحمته متوجهاً إليه بهذه الأبيات:
ها أنت تنمو في رعاية والد ... حان يذود السوء عنك ويطرد
والبعض من أبناء جيلك لا أب ... يحنو عليهم إن بكوا وتنهدوا
آباؤهم سقطوا بساحات الوغى ... ليوسعوا لك دولة ويمهدوا
فإذا نموا وملكت فارفق ذاكراً ... حق الذين على ولاك استشهدوا
وعساك تنشأ عادلاً لا تدعي ... أن الجميع لأجل عرشك أوجدوا
فالملك جسم والعدالة درعه ... درع بمحبوك الحديد مسرد
والملك بستان أعز سياجه ... عدل به ريح المخاوف تركد
يتوقع الإصلاح منك وليتنا ... نحيا لنعرف ما يجيء به الغد
ولقد تمت الأمنية للشاعر، فعاش - بارك الله في حياته - حتى رأى ما جاء به الغد، وعلم ما كان من مصير وولي العهد، فغيرت الدنيا وتبدلت الأوضاع، فقامت دولة مكان دولة وظهرت شريعة على أنقاض شريعة، ولكن غريزة الوحش في الإنسان لم تتغير، فما زال يستعمل نابه وظفره في قتل أخيه الإنسان، وماذا كانت تلك الحرب (الروسية اليابانية) أيها الشاعر إلى جانب ما شاهدت ورأيت بعد ذلك من أهوال حربين عالميتين لا تزال آثارهما ماثلة للعيان، أنت اليوم أيها الشاعر رئيس لمجلس الأمن، فقل لأندادك في ذلك المجلس من ممثلي الدول: أحقاً أنتم أيها الإخوان حراس الأمن، أم مبررون للظلم وأن الحقيقة المرة هي كما يقول شوقي:
وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويودي جيشاً كالحصى ويمير
شيوخ وشبان. . .
قال لي الأستاذ العقاد: (إنني لا أفهم معنى لهذا الكلام الذي يقال عن الأدباء الشيوخ والأدباء الشبان، وإني لأعجب لفئة من الشبان يتهمون الأدباء الشيوخ بأنهم يظلمونهم ويسدون أمامهم باب الشهرة والظهور، ويصورون المسألة على أنها حزازة بين الفريقين، وعداوة بين الطائفتين، إلى آخر ذلك الكلام الذي يثار ويقال، والواقع أنه ليس هناك أدب شيوخ وأدب شبان، وإنما هناك أدب قوة وأدب ضعف، فالقوة هي عامل الظهور والشهرة، وضمان البقاء والخلود، ولن يتأتى هذا إلا بالدراسة والاطلاع وبذل الجهد في ذلك إلى آخر ما تحتمله الطاقة، لكن إخواننا الشبان يحسبون أن من الكفاية في إدراك هذا قراءة كتاب أو كتابة مقالة في صحيفة، هذا هراء في التفكير، وهراء في التقدير. .).
(لقد كنا شباناً، فما وجدنا من أخذ بأيدينا، أو أفسح لنا الطريق، ولكننا صعدنا وشققنا طريقنا بدافع القوة والجهد، ولا زلنا إلى اليوم على هذا، فأدباء الشيوخ أشد شغفاً بالقراءة والدراسة وبذل الجهد، وهم يسيطرون على الحياة الأدبية لأنهم يواجهون الحياة الأدبية بما تستحق من حشد القوة وطول الصبر وخير للأدباء الشبان أن يدركوا هذا، وأن ينصرفوا إلى تقويم شخصياتهم، وأن يدخروا لأنفسهم قوة من المحصول الثقافي يمكنهم أن ينالوا بها الشهرة التي يريدون. .).
وإني - وأنا من فريق الشبان - لأوافق الأستاذ الكبير على ما قال، فالقوة هي ضمان الشهرة والبقاء، فإذا ملكها الشبان فلن يكون الشيوخ عائقاً أمامهم، ولكن يظهر أن إخواننا الشبان لا يدركون المسألة على حقيقتها، ولا يحبون أن يدركوها على حقيقتها، ويحسبون أن في استطاعتهم الصعود إلى القمة بخطوة قدم، ويحسبون أن هؤلاء الشيوخ قد بلغوا ما بلغوا من المجد والشهرة بمثل هذه الخطوة!!
كلا أيها الإخوان. . .
لقد حدثني الأستاذ المازني قال: لقد قرأت كتاب الأغاني في مطلع حياتي، وقد عمدت إلى فك أجزائه إلى ملازم ليسهل عليّ حملها أينما سرت، وقد عنيت أثناء القراءة بتصحيحه وإكمال القصائد التي فيه، ونسبة الأبيات المجهولة إلى قائليها والاستدراك على تراجم الشعراء، وكنت أكتب هذا كله في ورق أبيض وألحقه بالمطبوع، ثم جلدت الكتاب فكان في ضعف حجمه، وكانت هذه النسخة عزيزة على نفسي، ولكني فقدتها في محنة من محن الدهر، فأورثتني حسرة لا تزال عالقة بقلبي إلى اليوم.
حدثني الأستاذ المازني بهذا الذي صنعه في مطلع شبابه، وكنت منذ أيام أتحدث إلى أحد الشبان الأدباء عن كتاب الأغاني هذا فشمخ عليّ قائلاً إن من العبث ضياع الوقت في كتاب الأغاني وغيره من تلك الكتب القديمة البالية التي أصبحت لا تجدي. . .
مرة أخرى أقول لكم: كلا أيها الإخوان، إن الأمر أشق مما تقدرون، فاصرفوا هذا التمرد إلى ما يجدي من الجهد النافع.
سؤال:
في العدد السابق من الرسالة قرأت في مطلع المقال الخامس من تلك السلسلة التي يدبج حلقاتها الأستاذ علي الطنطاوي بعنوان (على ثلوج حزرين) ما يلي:
(أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكف، مفداة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة، ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب).
وأنا أحب أن أسأل الصديق الفاضل: مادامت ليلى في هذه الحالة النفسية (لم تر حسن ما هي فيه) إذن كيف كانت (لا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً؟).
هذا السؤال الذي بدا لي، وإني لفي انتظار الرد من الصديق الكريم.
(الجاحظ)