مجلة الرسالة/العدد 737/واضع علوم البلاغة
→ خواطر مسجوعة: | مجلة الرسالة - العدد 737 واضع علوم البلاغة [[مؤلف:|]] |
سمو ← |
بتاريخ: 18 - 08 - 1947 |
رأي ابن خلدون فيه
للأستاذ علي محمد حسن العماري
تهيأ للبحث التاريخي أن يهتدي لمولد كثير من العلوم، وأن يتعرف على واضعيها؛ فهو يعين أول من تكلم في النحو، ويؤكد أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو واضع علم العروض، وأن أبا معاذ الهراء أول من أفرد الصرف بالتأليف. . . وهكذا. ولكن أصحاب تاريخ العلوم لا يتفقون على رأي في واضع علوم البلاغة، ولعل منشأ ذلك كثرة الكاتبين فيها في أزمة متطاولة، كما أن تأخر التقعيد فيها وظهورها أول الأمر في مظهر النقد الأدبي جعل الأنظار تتجه وجهات مختلفة، وسنقدم بين يدي بحثنا كلمة عن نشأتها: -
تكاد تتفق كلمة العلماء على أن القول في البيان كان مبكراً؛ فالخليل المتوفى سنة 170هـ تحدث عن الاستعمال المجازي والجناس والمطابقة، وتلميذه سيبويه المتوفى سنة 177هـ تكلم عن التقديم والتأخير ومجاز الحذف؛ ثم استفاضت هذه البحوث فيما كتبه الجاحظ (255) وأبو هلال (395) وابن رشيق (447) فكتبوا كتابات ذات بال ولكنها كانت مختلطة بالمباحث الأدبية. فلما جاء عبد القاهر الجرجاني (474) وضع كتابين (أسرار البلاغة) و (دائل الإعجاز) وتحدث في الأول بإفاضة عن مباحث علم البيان، ومال قليلاً إلى بعض مباحث البديع، وخص الثاني بمباحث علم المعاني. وهذان الكتابان من أحسن ما كتب في هذين العلمين إلى يوم الناس هذا؛ فشواهدهما كثيرة، وأسلوبهما من أقوى الأساليب وأنصعها، وفيهما ميل واضح إلى التقعيد والتقنين. ونستطيع أن نقول أن مباحث العلوم الثلاثة قد تميزت بعد عبد القاهر، فابن المعتز (296) ألف كتاباً في البديع ذكر فيه سبعة عشر نوعاً منها مباحث علم البيان، وأبو هلال ذكر خمسة وثلاثين نوعاً من البديع وبذلك أصبح لهذا العلم كيان مستقل، وأما البيان فقد أفاض فيه عبد القاهر فكان صاحبه، وكذلك علم المعاني إذا أضفنا ما كتبه العسكري، ولو أن علوم البلاغة وصلت إلينا على الحال التي كانت عليها في عهد عبد القاهر لكانت ذات غناء وجدوى، ولكنها منيت بالقيود والأغلال فظلت سجينة فيها حقباً طوالاً، وكان ذلك على يد العالم الجليل أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي المتوفى سنة 626هـ فوضع كتابه (مفتاح العلوم) وكان صاحب فلسفة فأخضع علم البيان لذهنيته الفلسفية، وقد نظر فيما كتب السلف من بحوث فنظمها في قواعد جافة كمواد القانون، ومنذ ذلك الحين ودراسة البلاغة لا تعدو هذه الدائرة التي صب فيها السكاكي مباحث البيان والمعاني والبديع، وكذلك التأليف لم يعد أن يكون اختصاراً أو شرحاً أو تحشية على المفتاح أو ما تفرع منه. ونستطيع أن نستثني بعض كتب قليلة ككتاب الطراز فإن صاحبه لم يطلع على شيء مما كتبه السكاكي فيما يحدثنا عن نفسه.
نستطيع أن نتبين بعد هذا من غير كبير عناء أن صاحب علمي المعاني والبيان هو عبد القاهر وأن صاحب البديع هو عبد الله بن المعتز، وقد يعيننا على ذلك أمران:
(1) ما كتبه العلوي في مقدمة كتابه الطراز (وأول من أسس من هذا الفن وقواعده وأوضح براهينه، وأظهر فوائده، ورتب أفانينه الشيخ العالم التحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني)
(2) ما كتبه السكاكي في فصل أخير من كتابه بعد أن تحدث عن عمله في علمي المعاني والبيان قال (هذا ما أمكن تقريره من كلام السلف رحمهم الله في هذين الأصلين، ومن ترتيب الأنواع فيهما، وتذييلهما بما كان يليق بها، وتطبيق البعض منها بالبعض، وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة) ثم قال (وعلماء هذا الفن - وقليل ما هم - كانوا في اختراعه، واستخراج أصوله، وتمهيد قواعدها، وإحكام أبوابها وفصولها، والنظر في تفاريعها، واستقراء الأمثلة اللائقة بها، وتلقطها من حيث يجب تلقطها، فعلوا ما وفت به القدرة البشرية إذ ذاك) وإذا أردنا أن نعرف من هم السلف الذين قصدهم السكاكي هدانا البحث في كتابه إلى أن عبد القاهر هو المقدم فيهم، وعليه اتكأ السكاكي فهو يصرح في موضع من فضل كتابه بفضل عبد القاهر فيقول عند اختلافهم على أن الاستعارة مجاز عقلي أو لغوي (ومدار ترديد الإمام عبد القاهر قدس الله روحه لهذا النوع بين اللغوي تارة وبين العقلي أخرى على هذين الوجهين جزاه الله أفضل الجزاء فهو الذي لا يزال ينور القلوب في مستودعات لطائف نظره لا يألو تعليماً وإرشاداً) وهو يترسم خطاه في مواضع كثيرة حتى لينقل سطوراً من كتبه بنصها، وأن تأثره بها لبعيد المدى وسنفرد هذا ببحث خاص إن شاء الله.
كل ذلك لا يدع عندنا مجالاً للشك في أن عبد القاهر صاحب الفن وممهد قواعده ومهذب مسائله. لكن ابن خلدون هذا الألمعي النابغة برأي في مقدمته أضل بعض الكاتبين بعده، وهو رأي ذو خطر لأنه يسلب الإمام الجرجاني كل أثر في وضع هذه العلوم قال: (وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول من تكلموا فيه، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب جعفر ابن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن فحص السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المفتاح في النحو والصرف والتعريف والبيان).
ولننظر أولاً فيما فعله السكاكي حتى نكون على بينة. نظر فيما كتبه المتقدمون فوجد أبحاثاً في النظم في النظم والتشبيه والاستعارة وغيرها من مباحث الفن، ولكنها لا ترجع إلى ضوابط وقوانين، فكان كل همه أن يقعّد هذه المسائل ويخترع لها الاصطلاحات العلمية، وهذا المسلك واضح كل الوضوح في عمل السكاكي وفي قوله، فهو فيما نقلنا آنفاً يقول: (وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة). ويقول في موضع آخر: (ثم ما لهذا العلم من الشرف الظاهر، والفضل الباهر، لا ترى علماً لقي من الضيم ما لقي، ولا مني من سوم الخسف بما مني، أين الذي مهد له قواعد ورتب له شواهد، وبين له حدوداً يرجع إليها، وعين له رسوماً يعرج عليها، ووضع له أصولاً وقوانين، وجمع له حججاً وبراهين وشمر لضبط متفرقاته ذيله، واستنهض في استخلاصها من الأيدي رجله وخيله).
ومع أن صدر هذا الكلام متابعة للإمام عبد القاهر في حديثه عن الضيم الذي لحق هذه العلوم - ولا يزال يلحقها إلى عصرنا هذا - إلا أن آخره يدلنا على النهج الذي سلكه السكاكي. وقد تدهش حين تسأل السكاكي ما هي هذه المتفرقات التي لم يشمر لها أحد ذيله؟ فيجيبك بأنها علم أصول الفقه، وعلم الحد، وعلم الاستدلال. وفي ذلك يقول: (علم تراه أيادي سبا، فجزء حوته الدهور، وجزء حوته الصبا، انظر باب التحديد - فإنه جزء منه - في أيدي من هو؟ بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه من أي علم هي؟ ومن يتولاها؟).
ولا عجب، فهو يتحدث في كتابه عن تكملة علم المعاني، فيذكر باب الحد وباب الاستدلال، وفي ذلك يقول (الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال. ولولا كمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني، وعظم الانتفاع به لما اقتضاها الرأي أن نرخي عنان القلم فيه. اعلم أن الكلام في الاستدلال يستدعي تقديم الكلام في الحد) ولكنه يشعر أن صاحب علم المعاني لا حاجة به إلى هذا المنطق، وأنه لن يتقبل كلامه بالقبول فيقول (وكأني بكلامي هذا - وأين أنت من تحققه؟ - أعالج من تصديقك به، ويقينك لديه باباً مقفلاً، لا يهجس في ضميرك سوى هاجس دبيبه، فعل النفس اليقظى إذا أحست بنبأ من وراء حجاب). ونخلص من كل هذا إلى أن السكاكي رأى علوم البلاغة غير مضبوطة فضبطها ومتفرقة - في نظره - فجمعها، وإن كان لم يلحق بكتابه علم أصول الفقه، والنظرة الفاحصة تدلنا على أن ابن خلدون لم يرد برأيه أن يعطي السكاكي أكثر من هذا، فإنه أجمل القول في أول الفصل، وتحدث عن رءوس مسائل علوم البلاغة ثم قال: -
(وترتيب الأبواب على ما ذكرته آنفاً) وهو إنما تحدث عن تمييز هذه العلوم وضبطها، وحينئذ تسقط حجة الذين يستدلون برأي ابن خلدون، فلا وجه له، ولا حجة فيه غير ما ذكرنا، لكنهم يقولون إن إهماله لعبد القاهر يدل على أنه لا يراه واضعاً لعلوم البلاغة وإلا لذكره مع أصحابه. وهل يراه دون جعفر وقدامة والجاحظ في أمر هذا الفن؟ وللإجابة عن هذا افترض أن ابن خلدون لم يطلع على جهود عبد القاهر في علم البيان والمعاني ويؤكد هذا الافتراض عندي أمور: -
1 - أن كثيراً من أصحاب التراجم لم يترجموا له؛ فابن خلكان لم يذكره في كتابه (وفيات الأعيان) وياقوت لم يترجم له في معجم الأدباء مع أنه ترجم لنكرات كثيرة، بل لم يذكره في كتابه إلا عرضاً عندما ترجم لمحمد بن الحسين الفارسي فقال (ثم استوطن جرجان وقرأ عليه أهلها منهم عبد القاهر وليس له أستاذاً سواه). وكذلك لم يذكره في معجم البلدان مع أنه نزل جرجان وذكر جماعة من جلة علمائها.
2 - والذين ترجموا له كالحافظ الذهبي في تاريخه (دول الإسلام) وكالسبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) وكصاحب (شذرات الذهب) وصاحب (فوات الوفيات) والسيوطي في (بغية الوعاة) لم يذكروا أنه واضع هذه العلوم، بل لم يذكروا كتابيه في البلاغة، ولم يشيروا إلى شيء فيهما.
3 - ويحيى بن حمزة بن علي العلوي أمير المؤمنين وصاحب كتاب الطراز (669 - 749هـ) - وهو الذي ذكر أن عبد القاهر صاحب هذا الفن - لم يطلع على كتابيه وفي ذلك يقول (وله من المصنفات فيه كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما، وشدة إعجابي بهما إلى ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما) وهو بعد قريب عهد بعبد القاهر، وفي مكنته أن يبعث من يجوب الآفاق يبغيهما له.
ويبدو أن الكتابين كانت لهما شهرة في بلاد الشرق، ومن ذلك أمكن السكاكي والزمخشري وهما من جرجان، أن ينتفعا بهما، كما أمكن سعد الدين التفتازاني وغيره من علماء البلاغة المشارقة أن يتتلمذوا على عبد القاهر في البلاغة، أما ابن خلدون فقد انتهى به المطاف إلى مصر ولم يجاوزها إلى المشرق إلا في رحلته إلى تيمورلنك وهي رحلة قصيرة ولذلك لم يتهيأ أن يطلع عليهما، وقد يقال أنه رأى شيئاً منهما في كتب العلماء ولاسيما الإيضاح للخطيب القزويني فقد أشاد به ولكنا نقول أنه لم يكن يعرف حقيقتهما، ولو عرف لكان له مسلك آخر في تاريخ علم البيان.
ولعل السر في خمول الكتابين أن الإمام لم يخرج من بلده على عادة العلماء في الرحلة، كما كان لشهرته (بالنحوي) أثر في ذلك، فقد طغى نحوه الواسع العريض على بلاغته.
وإنا لنأخذ على ابن خلدون أن نسب تهذيب البديع إلى السكاكي، والحق الذي لا يمارى فيه أن المصطلحات البديعية عرفت في كتاب ابن المعتز كما عرف كثير منها في كتاب (الصناعتين) لأبي هلال العسكري.
علي محمد حسن العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي