مجلة الرسالة/العدد 735/اُمّان
→ حجة تاريخية | مجلة الرسالة - العدد 735 اُمّان [[مؤلف:|]] |
من وحي الصوم: ← |
بتاريخ: 04 - 08 - 1947 |
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
لا ادري أين قرأت أن اجمل منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة، هو قول ينطبق عل الواقع كثيرا؛ غير إني في الوقت ذاته أراني أتصور أن اقبح منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة أيضاً!
هذه الفتاة الشابة الجميلة تمر من هذا الشارع كل يوم في ردائها الأسود الجميل فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها، في قامتها الأنيقة وانسدال السواد عليها، وفي عينيها الباهرتين وتجللهما بالصمت المبين، وفي شعرها الذهبي الرائع وإهمال تنسيقه على نحو ما يليق به. تثير جدالا بين الناظرين إليها فينبري دعي يقول بان هذه الفاتنة احتسبت أباها أو ماتت عنها أمها فهي تتشح بالسواد على أحدهما. ويقول دعي آخر أن ظهور الحزن عليها وتطامنه في عينها الساجيتين ليومئ بأنها احتسبتهما جميعا. وإن القلب لا ينضح بما فيه دائما، فتسير الغانية من دارها إلى حيث تريد، وتعود إلى دارها من حيث انتهت لا يجد في استشفاف أمرها جديد. والراجح في الظن أن الغانية جاءت هذا البلد وافدة من مواطن الذكريات لتطوي ماضيا بأحداثه الكثيرة طي السجل للكتاب، ولتجد في هذا المنهج ذي الوتيرة الجديدة المحدودة بلسما للجرح في صيدلية الزمن، فإنها فيها أنجع الأودية لأخبث الجراح.
وما كان ليفوتها أن تلج بيت الله في أيام الآحاد تنفض في ساحته الكبرى خلجات الضمير وتمد بصرها راجية راحة النفس وطمأنينة الحس، وتسأله العون وتستر فده الرعاية، فقد ذهب الراعي فبدلها ذهابه من حال إلى حال. . .
الأمن يكون راعيها الذي تشكو خلو مكانه إلى الله آسى القلوب المحطمة التي لا تشعب؟ ومن يكون راعيها هذا الذي تلتقي بطيفه في ساحة الله الكبرى فتنعم بالذكرى تحيط بالطيف، وبأنغام الأرغن والصلاة الصاعدة إلى ملكوت السماء تحيط بالذكرى. ثم تخضل عينان من دون العيون بأدمع قليلة بالغة السخونة. . ثم تنفرج شفتان من دون الشفاه بصلاة قصيرة. . ثم تنهنه الدمعة. . وتطبق الشفتان ثم تستدير القامة الفارعة الجميلة فتيمم شطر الباب ثم تمتد اليد بالصدقات للفقراء والمساكين؛ ثم يتكرر المنهج اليومي محاطا بالذي يقول أنها فقدت أمها أو فقدتهما جميعا.
وإنه ليوم من أيام الآحاد في الربيع الباسم وقد انتثرت فراشات الحقول وتحمل النسيم رسائل الفل والياسمين وجاءت الساعة التي تقف فيها الغانية في ساحة الله بقلب رققته الذكرى المفعمة هذه المرة بمعاني الربيع، وانكفأت الحسناء كعهدها كل مرة ولكنها ساقها التوت وسقطت على الأرض سقطة غير متوقعة فأنهضها رجل بجانبها ورافقها حتى الباب. . . ثم تمنى لها العافية وانصرف.
ورآها مرة أخرى فسال عنها ثم كان طريقهما واحد فتحادثا. وقد يلذ للإنسان أن يتحدث عن نفسه، وقد يلذ أن يسمع. . فتحدثت وسمع. . ثم تحدث فسمعت. . وقد تقابلا من بعد فعرف منها ما استعصى على المدعي من قبل وما كان خليقا به وبغيره أن يستعصي عليه؛ فقد عرف أنها أرمله وان الذي فقدت هو زوجها الذي بنت به في الربيع الخامس عشر من عمرها والذي تخلو بطيفه في ساحة الله الكبرى على نغم الأرغن وصلاة الكاهن خلوة الروح. . . بالروح!. . وقالت له فيما قالت أنها أم لابنة أيضاً وكان الرجل يصغي لها وهو يرتشف الكلام ارتشافا ويسكر من جرسه سكرا لا يعرفه إلا صرعى العواطف المؤججة. وأحيط قلب الرجل بشغاف من حسنها وإخلاصها وعرف انه باخع نفسه على آثارها أن هو لم يحط الخطوات الأخرى في إخراجها من دنياها السابقة إلى دنياها اللاحقة، وينعم بها ويبذل لها النعيم المقيم وفاتحها في الأمر مفاتحة الخائب المترقب رفضاً أو إعراضاً وأعاد عليها المفاتحة صابرا متفائلا، ثم أعاد حتى انتهى معها إلى خاتمة البداية فمهدت له زورة في دارها يحتسيان فيها الشاي ويبحثان الموضوع بحثا جديا جديداً.
وكان هذا - فرأى الرجل أن يجمل لابنة الحبيبة هدايا يعقد بها معاهدة التحالف وحسن الجوار فقد تحدجه الطفلة غيري. وقد يحز في قلبها اللدن الغرير أن تجد رجلا يحل من قلب أمها الحلوة الشابة مكانا ودخل الرجل خميلتها موقرا بهداياه لابنتها هدايا من الألاعيب لبنات خمس أو دونهن قيلا. . . وحفت للقائه. . ثم كان كلام وحديث ثم عرض هداياه سال عن الطفلة فأخبرته أنها في حاشية الحديقة تلهو وتلعب وان من الخير له أن يذهب بالهدايا إليها ويفاجئها فان هذا قد يكون ادعى لبهجتها وسرورها. فعل الرجل هذا وانتهى إلى الطرف الذي أشارت إليه الأم وهتف باسم الطفلة فردت عليه كاعب على العشب في السابعة عشرة من عمرها وقد استلقت تردد طرفها الأزرق البهي في أكناف كتاب، وانبهر الرجل وأسقطت اللعب من يده وفهمن الفتاة القصة وتضاحكت من فعلته؛ ولكن لغة أخرى تتحدث بغير اللعب لان لغة الكلام انتهت رسالتها. . ووقفت الأم الشابة الحلوة ترقب قيام المعجزة وتمددها وطغيانها وجمعها القلبين على طرف الحديقة فلم لا تأتي هي بمعجزة اكبر ولم لا تقول ما يخشع له الطرف وقد رأت ابنتها تستملح الفتى ورأت هذا ينعقد لسانه ويزوغ طرفه. . دلفت الأم تجمع اللعب وقالت وهي تعود إلى البناية سأحتفظ بهذه اللعب ملهاة الأطفال ستلهون بهم كثيرا وانقلبت مسرورة فقد أسعدت قلبين وقد سعدت بالتضحية سعادة لا يعرفها إلا ذوو القلوب الكبرى التي تستطيب الحرمان لتذود عن غيرها اجمل منظر في الدنيا في ثوبها الأسود وقامتها الهيفاء. . وعينيها الصافيتين وفعلتها السامية. . . وستنعم كل يوم بدموعها وتضحيتها لأنها أحيت قلبين وجمعت نفسين.
وهذه فتاة شابة دون الجميلة قيل لها أنها جميلة تمشي من هذا الشارع كل يوم فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها فينبري مدع يقول بان هذه الفتات أجنبية جاءت هذا البلد مع الحرب كأنها علة من عللها. . . فركنت إلى هذا المنزل الذي تديره هذه البدينة الأجنبية لصلة بين الاثنتين. ويقول مدع آخر بل هي من أهل البلد تنهز مع الغواة بدلوهم وتسوم سرح اللهو حيث أساموا، فتعود في أخريات الليالي حينا وفي أواسطها أحيانا أخر، وتحتسي الخمر حتى تتقطع أحشاؤها ويغيض ماؤها، ثم تستدرك الفائت على يد الطبيب، ثم توغل في حركات منعكسة بعضها عن بعض لا ينتظمها تدارك ولا يخترمها نظام فيضل المدعون لان السر لا يطفو على الوجوه جميعا وان القلب لا ينضح بما فيه دائما فتذهب الوجناء من نزلها حيث تريد وترجع إلى نزلها لا يجد في استشفاف ما بها جديد، ويرجح أمرها أنها جاءت هذا البلد وافدة تتبدل زمانا ومكانا كانا بالمساعفين وقد قيل لها أنها جميلة. وإنها مرهفة الحس عصبية كنود بينها وبين أن يجهز عليها الموت شعرة. . . شعرات ثلاث بينها وبين الحياة فلتمرح ولتطرب فهي جميلة قصيرة العمر لو شاءت. . . مديدته لو شاءت، فحملتها في قلبها وفكرت بهذين جميعا فأولدتهما أفانين من الأعمال وضروبا من الأقوال. وخيل إليها أن الناس كلهم خاطبون وان دنياها ملئت بالمدلهين هذا بينه وبين الانتحار بسببها قليل وهذا خطبه في رفضها ودلالها جليل. . فلتنأ بنفسها عن الماضي نايا ولتطو ذكريات حبها وزواجها. . . وولادة طفلين حبيبين وأمومة وفشلا وطلاقا جاهدت من اجله واستحقته استحقاقاً طي السجل للكتاب. ولتمش في هداة الليل البهيم في ثوب اسود حتى لا يراها الشيطان الذي استأجرها لروحه ومغداه ولتسر طويلا، ولتعبر النهر خائفة مذعورة ولتنظر من ورائها ومن جانبها وليرها القمر الآفل خيالها المعقب المتأثر الملحاح المستهزئ ولتسر من شارع إلى شارع لا ترى إلا النوافذ المغلقة ولا تبصر إلا السكون المتمطي، ولتغذ السير حافية إن أرادت منتعلة أن شاءت ولتمش في نفس المسالك التي مشت فيها سيارة الخاطب الموهوم أو الكاذب المشئوم ذلك الذي اتخذت منه مدلها ممعنا في الغلام ولتسمع ضحكاتها من السيارة التي مرت في دماغها ولتذهب إلى ساحة كبرى ليست من سوح الله لا لتفض همومها وآلامها، بل لتقف وقفة المدان تستنزل عليها اللعنة الكبرى باردة في هجمة الليل وهداة الظلام لتذهب فقد اخذ مدى عينها يستوعب بنية سوداء في المبنى المحيطة بها تحدق بها حديقة ساهمة هاجعة. . والكوي راجعة إلى طبعها السادر الحالم في أخريات الليالي لا نفضي بأسرارها. وهنا؟ هنا. رأت نفسها غير مرة على متن سيارة إلى جانب قريب أو خاطب. . في ألوان زاهيات لا تقربها من الأمومة أبداً. . فهي توكل السيدة البادنة ربة المنزل بخصائص الأمومة التي برئت نفسها منها. . تنساب هي مع مقتضيات الحديث من جانبها جادة أو هازلة حتى تنقضي الزيارة المبتورة بأن حمل للطفلين عن الأم المحمولة على غارب الهوى. فاكهة يطعمانها عن غير يدها وغير قلبها. فلتقف هنا. . ولتنتظر نزول اللعنة في منبلج الفجر.!
وجاوزت السياج واتقت إلى الكوة ارتقاء مزعجا، فالكوة لا تريدها، ونظرت عل خيوط الشفق البيضاء الأولى بين الأطفال الهاجعين في ذلك الملجأ. . طفلين. . هما الوحيدان اللذان فيهما معنى اليتم. . وما هو باليتم من فقدان الأبوين بل من فقد العطف ولاحمان عند هذه الأم الأغلف قلبها فلا يعقل. . الصم آذانها فلا تسمع. العمى عيونها فلا تبصر، وطفلاها اللذان حملتهما كرها ووضعتهما كرها. . في ملجأ الأطفال الغافلين العاثرة جدودهم. . الطائشة حيلتهم. . صبرهم هباء. . وأفئدتهم هواء.
وتشرق الشمس فتتمطى هذه الأم مفيقة من الحلم الذي أسرى بها ليلا من المنزل إلى الملجأ. . من حيث لم تبرح فراشها وإن الأسس بشرابه وسهره وألحانه ودعاباته قد أورثها صداعا لا بد له من الطبيب والحبيب والقريب والخطيب، ولا بد من صحب ولدات يرون هذا فيغبطون أو يرثون، ولا بد أن تبدأ عندما تساعفها أصابعها الواهنة في خنق شئ. . هو حب الطفلين. . وإنكار عطفها أو علاقتها بهما. . للخطيب الموهوم ليتم اقبح منظر في الدنيا منظر أم شابة مؤتزرة بتضحيتها لأنها ضحت بقلبين، وقربت طفلين للصم الذي خيل إليها انه يهب الخير ويتم النعمة. . وستبقى هكذا ما بقى خيالها وخيالها ورجالها.
الأم الشابة! اجمل منظر في الدنيا. . واقبح منظر في الدنيا. . لا ادري أين قرا هذا، ولكني قرأته وعرفته. . وأمنت به. . فلننظر الأم أين هي؟ أهي اجمل منظر؟ أم اقبح منظر؟ أما الوسط في هذا فمحال!
منيبة الكيلاني