الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 733/لسان الدين بن الخطيب

مجلة الرسالة/العدد 733/لسان الدين بن الخطيب

مجلة الرسالة - العدد 733
لسان الدين بن الخطيب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 07 - 1947


الصفحة الخيرة من حياته

للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

مد الليل أروقته السوداء في غرناطة الأندلسية العظيمة، واتشحت سماؤها المرصعة بالنجوم الزاهرة تلك الليلة بالغمام، وتضاحك البرق من عربدة الرعد المدوي، وتهادى الثلج نازلاً بأناة وكرم يكسو بالبياض كل ملون. . . ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض، وخلت الدروب من كل صوت ونأمة. . .

وسرت عدوى السكون العميق إلى قصر أبن الخطيب الباذخ فما كان يسمع فيه شيء مما اعتاد أن يزخر به إلى القصر العتيد من صوت القيان أو نداء المزاهر، وما كان يري في أكنافه الرحيبة من وراء الكوى، إلا ضوء واحد يمرق من نافذة في غرفة رب القصر، وان كان قد انتصف الليل من وقت طويل.

وهدر الرعد من جديد، ففتحت على أبن الخطيب بابه فتاة في مقتبل العمر وانزاحت من الباب رفيقه إلى حيث يجلس الكهل، وتقدمت إليه تحييه وتقول له في دل:

- أو لا تزال يا عماه مسهد الجفن تكتب والناس رقود؟

فيرفع أبن الخطيب رأسه ويمد بصره إلى ابنة اخية، وقد أضنى عينيه ضوء الشموع وصفحة الكتاب ويقول لها:

- إن الذي ميزني يا ابنتاه عن الناس الذين تسمين، إنما هو هذا السهاد وهذا الاعتكاف، وما بلغ امرؤ يا بنتاه في غطيطه ما يبلغ الساهر في سبيل العلم، ولو درى أولئك السادرون في غوايتهم أية لذة أطعم، وأية العادة أذوق، لاستبدلوا بالفراش المحابر، ولأوغلوا فيما أنا في سبيله. . . ألا يستوي جاهل وعالم، وساع إلى الراحة ومتشبث بأذيال العلم. . . وهذه غرناطه تعلم أن شيخها يسهر والناس حوله نيام، فيصيب من سهرة ما يميزه عن النائمين والغافلين. . .

ثم يعود الشيخ إلى نفسه ويستدرك ويقول:

- وأنت يا ابنتي ما بالك بارحت الخدر وأنت إلى الرقاد أحوج من شيخ غرناطه؟. . . اهو حلم لذيذ أرسلك إلى عمك تقسمينه خبره؟ فتجيبه: لقد أيقظتني جلجلة الرعد، فم استطعت من اليقظة إغفاءة!

وتجلس الفتاة، فيسألها عمها أن تكتب له الصحائف الباقية من كتابه (الأصول لحفظ الصحة من الفضول). فتكتبها وهو يميلها عليها. . . وتنتهي فتعلق الفتاة عليه بأنه عمل متعب قد يؤذي صحته الغالية. فيقول لها: (يا بنتاه، العجب حتى مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، فإني لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي). فتقول مجيبة: (ولكنه يا عماه أرق مفيد على كل حال، وهل تنكر فضل الأرق الذي أخرجك في الفلسفة والطب والتفسير والحديث والفقه والتاريخ وعلوم العربية من شعر بارع ونثر بديع؟

فيبتسم الشيخ ابتسامة استكبار وتيه. . . ولم تكن الفتاة مجاملة ولا مراوغة في هذا الذي قالت، فقد عرفته الليالي طالب علم ورجل جد، وعرفه أساتيذ غرناطة ذكي الفؤاد، واعي البصيرة، سديد التفكير.

ويغرق لسان الدين في فكره طائرة، وتسهم مقلتاه الزرقاوان في غير وعي. . . فتقول له ابنة أخيه: (لقد فرغت يا عم من مطالعة ما زودتني به من كتاباتك، فراقني منك شعر الغزل الجميل في هذه الموشحات التي رصعتها بما يعيا به الصاغة الماهرون، وأعجبني كلام الأتقياء، ولكني وجدت في رسائلك التي تتندر بها على الحال الاجتماعية سجعا غريبا، وإطالة لا عهد لك بمثلها، فقد أطلت فيما كتبت وأطنبت في التصوير إطنابا خيل إلى معه انك قد ملئت من الفكرة الصغيرة صفحات، فهل ستنسيك السياسة ذياك الأسلوب والنغمة التي فتنت بها غرناطة ورقصت عذاراها زمنا؟

وهنا يتبسم لسان الدين مرة أخرى، ويهيب بفتاته أن تعود إلى مخدعها، فقد انقطع الرعد، ولم يبقي من الليل إلا رمق، وانه ليرى أن السهاد قد يضر جمالها الضحيان. . . وإذا تذهب يقيم لسان الدين يفكر، ويعمل الرأي في هذه الأحداث التي توالت ادراكا، ويبحث هذا القلاقل السياسية التي أوشكت أن تؤدي بأدبه الغض وخياله الرائع. . . لقد صدقت بنت أخيه، فأن السياسة التي فتنته قد انبرت تخرس تلك النغمة السائغة المنسابة التي أرقصت عذارى غرناطة زمنا، وهذه الفتنة لا يدري هو أيضاً كيف استحوذت عليه، فتبدل بالعلم والأدب السياسة ومشتقاتها، وأقام برهة يتفكر في عواقب الأمور وما قد تجره عليه من وبال، ووقر في نفسه أن ينتقل إلى هامش أن هو استطاع إلى ذلك سبيلا.

ثم يعود فيمد بصره في الماضي، حيث كان السلطان أبو حجاج يوسف يعطف عليه، ويقرب مجلسه، ويستأنس برأيه، وقد اختصه بكتابته، واجرى عليه صنوف الرفد والعطاء، فانتج ما شاء له الإنتاج، وأبدع ما وسعه الإبداع.

ثم يموت أبو الحجاج يوسف، فيخلفه ابنه محمد بن أبي الحجاج وهو الفتي الذي خدمه أبن الخطيب اصدق خدمة ووفاه أقصى حقوق الولاء، فجزاه معروفا بمعروف وخيرا بخير، وأبقاه في مكانه وضاعف له الرعاية، ولكن الفتنة الراقدة تململت، وحجب الناس لأخي الملك الجديد أن يناوئ أخاه ويزعج نفسه، فهو لا يدري كيف يأخذ ولا ماذا يصنع. وقد قال له هذا الأمير المحق أن يتبين له وجها من الرأي ودربا من الرشاد ينفذ منهما إلى صرع الباطل والحسد الاثيم، ولابد لابن الخطيب من نصيحة يسديها لمولاه ضحى الغد، وهو الذي عرف عنده أصالة الرأي وسداد الفكر، فماذا تجدي عليه هواجسه من السياسة ومشتقاتها ومغبتها، وهي مفروضة عليه يحتمها الولاء والوفاء لمن والاه ووفاه حقوقه.

هنا ينبلج الصبح ويقطع على لسان الدين التأمل رسول الملك فقد جاءه يخبره بأن الملك يريد البراح بعد أن أخفقت كل محاولة في تحسين الحال، فيخف إليه أبن الخطيب تاركا المهاة في خدرها والكتب في أدراجها ويبارحان المملكة. . . وقد تقطع قلب لسان الدين لكلمة وداع لابنة أخيه المساعفة وكلمة وصية بكتبه فما افلح.

ولم يكن الهروب لينجي أبن الخطيب، فقد وقع في قبضة السلطان الجديد، وأراد التنكيل به لولا أن سلطان المغرب الذي شغف بأدبه وعلمه يحميه من البطش، ويمهد له من مدينة فاس أرضاً صالحة خصيبة تواتي قريحته، فيرسل زفرته الخالدة:

جادك الغيث إذا الغيث ... همي يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن ووصلك إلا حلماً ... في الكرى أو خلسة المختلس

وتلفقها أبنة أخيه، وتقرؤها على أترابها، وتتيه بها إعجاباً وفرحا. . فلقد ارقص لسان الدين عذارى غرناطة من جديد.

هنا يتأزم الوضع في غرناطة تأزماً جديدا ضد لسان الدين، ويعمل العلماء والفقهاء من أعدائه ضده ويرسلون فيه هجر القول ويرمونه بكل نقيصة، ويرجون فيه إنه كافر، وهم إذ يفعلون ذلك ينتقمون لمنازلهم التي احتلها هو في قلب السلطان الماضي، وينافقون للسلطان الحاضر، وكلا الآمرين يؤتي بالثمرة المحرمة، التي يريدونها.

وأمر ما لقي لسان الدين من هذه البلوى أن يقود هذه الفئة المعادية والفتنة العمياء تلميذه أبن زمرك وهو الذي نشا وترعرع على يديه. . فقد وكل هذا المخلوق المنحوس قلمه في شرح وتبسيط كفر لسان الدين الذي علم الله إنه منه براء.

ويعود لسان الدين - وهو لا يدري بما حدث، ويجتمع الفقهاء والعلماء يقررون مصير لسان الدين. ولا بد من الفتيا وقد أقام لسان الدين ينتظرها في السجن الذي زجوه به حتى إذا جاءته كانت تحتم قتله.

عرف لسان الدين أن الأمر قد تم، وان السهم وقد نفذ، وان لا مرد لأمر الله، فحن من بين مصائبه واحنه وسلاسله وأغلاله إلى نظرة في كتبه، والى كلمات يريد أن يضيفها على آخر كتاب لما يكلمه. وتلهف إلى جامع غرناطة وجامعتها، حيث كان يلقى دروسه قبل أن يقرر كفره.

وقطع هذه التأملات جلجلة السلاسل، وجاءه قوم غلاظ يحملون المشاعل يتقدمهم رجل فيه بسطة في الجسم لا قبل للسان الدين وهو في الثالثة والستين من العمر بمثلها. تقدم هذا العملاق من السياسي الشيخ الفيلسوف الطبيب العالم الفقيه الشاعر الأديب يزيح لحيته التي خطها الشيب، فلم يبق من سوادها إلا ما بقي من سواد تلك الليلة. . يزيح لحيته ليمهد لقبضته الخشنة القوية من عنقه مكانا يخنقه منه، ووضع ركبته على صدر الرجل وأخذ عنقه وتحسس فيه البلعوم فقبض عليه قبضة شديدة منكرة تزايلت لها وتلاينت وتقلص وجه الرجل واختلفت سحنته ورفس من احتباس النفس رفساً شديداً فما رحمه. واحتقن الدم احتقانا مروعا وجحظت عيناه جحوظا غريبا كأنها تفتش عن الكفر الذي رما به. . . ثم تخافتت نفسه. . . وفاضت روحه التي ملأت الأندلس أدباً وعلماً وفناً.

وزفت بشرى خنقه إلى من حكم بقتله فأمر بإخراج جثته وإحراقها علناً. . . وهكذا كان. . . فما بقي للسان الدين غير اسم عظيم وتراث خالد.

وعرفت ابنة أخي لسان الدين هذا. . . . فاتشحت بالبياض حداداً. . . وخرجت هي وأترابها حيث أحرق. . . وهناك قرأت عليهن قوله:

لم يكن وصلك إلا حلماً ... في الكرى أو خلسة المختلس وأسكبت على الأرض التي قد يكون فيها شئ من رماده دمعات من مقلة زرقاء.

منيبة الكيلاني