مجلة الرسالة/العدد 733/تعقيبات
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 733 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 21 - 07 - 1947 |
جناية أدبية
لكل شئ في مصر حمي يرعى من رادع القانون أو زاجر الضمير أو
حرمة التقاليد إلا مسالة الملكية الأدبية، فإنها لا تزال كالكلأ المباح
ينتبه الناهبون تحت سمع الناس وبصرهم في غير تحرج ولا تأثم،
وكان أثر الفكر، وهو الغالي العزيز، كتب عليه في هذا البلد أن يكون
كالطفل اللقيط، يصح لأي عقيم من الناس أن يتبناه. . .
على أني قد استسيغ انتهاب الأثر الفكري يتأتى من جاهل يريد أن يتحلى بالانتساب إلى العلم، لأنه يكون كجرم من عالم إذا يسرق ليأكل، ولكن كيف يستساغ هذا الجرم من عالم يجب أن يتحلى بأمانة العلم وكرامة العلماء، وبخاصة إذا وقع من الحي نحو الميت، ومن الصديق مع الصديق، وكان الأمر في هذا معلما لسائر الناس؟
وهذه قصة من قصص الجنايات الأدبية التي تقع كثيراً في مصر، ولكنها غريبة في أطوارها مريبة في تفصيلها، وان الأمر فيها ليتجاوز كل ما ألف الناس في هذا السبيل.
يرجع الفصل الأول من هذه القصة إلى اكثر من عشرين عاما مضت، إذ كان أستاذنا وصديقنا الأستاذ محمود مصطفي رحمة الله عليه قد تملكته الرغبة في نقل كتاب قصص اللغة العربية بأسلوب جزل يقوي ملكة الإنشاء في الشباب ويقوم ألسنتهم في التعبير، وما كان الأستاذ محمود مصطفي يعرف لغة أجنبية، أو قل إنه كان لا يدرك من ذلك القدر الذي يعينه على النقل والترجمة، ولكنه رأى أن السيد مصطفي لطفي المنفلوطي وهو أيضاً لم يتعلق بلغة أجنبية قد نقل إلى العربية عدة روايات عن الفرنسية وغيرها، إذ كان يعتمد في هذا على مترجم ينقل له نقلا حرفيا، ثم يأخذه فيصقله صقلا عربيا مبينا، بعد أن يتصرف فيه على هواه ويجري به في السرد كما يرى، ومن ثم قوبلت روايات المنفلوطي بالارتياح والتقدير من ناحية أسلوبها العربي ولكنها قوبلت بالاستنكار من ناحية ارتباطها بالأصل الأجنبي، حتى قال أحد الأدباء أن من الخطأ والإسراف أن يسمي المنفلوطي عمله هذا نقلا وترجمة وإنما الأحرى أن يسميه مسخا وتشويها.
ثم كان أن نهض الأستاذ الزيات (صاحب الرسالة) بترجمة (رفائيل) و (آلام فارتر) عن الفرنسية بأسلوب عربي هو أسلوب الزيات، وفي رعاية دقيقة للأصل الأجنبي مكنه منها حذقه للغة الفرنسية، فقوبل هذا العمل ببالغ التقدير والثناء في الدوائر الأدبية؛ وكان هو الباب الذي دخل منه الزيات) إلى ما بلغ من مجد أدبي.
وعلى نهج الأستاذ الزيات أراد أن يسير الأستاذ محمود مصطفى في تنفيذ رغبته، وان يراعي في نقل الكتاب الذي يريد نقله دقة الارتباط بالأصل الأجنبي حتى يتقي ما وجه إلى المنفلوطي من نقد وان يكسب ما كسب الزيات من تقدير، وقد كان المختار (يوميات الفيلسوف القانع) واعتمد على الأستاذ اسعد عبد الملك - وكان زميلا في وزارة المعارف - في نقل هذا الكتاب نقلا حرفيا، ثم ترك أهله وداره وسكن مصر الجديدة ليتفرغ إلى صقل الكتاب في الأسلوب الذي يريد، وقد تم له ما أراد وظهر الكتاب في طبعته الأولي وعليه اسم الأستاذ محمود مصطفي - وفيه الأسلوب وروحه وجهده، والي جانبه اسم الأستاذ اسعد عبد الملك الذي نقله عن الفرنسية نقلا حرفيا. . . وكان الأستاذ محمود مصطفي شديد الاعتزاز بهذا الأثر، وكان يحدثني كثيراً عما لاقي فيه من العناء، وقال لي: لا تحسب يا فلان أن الترجمة الصحيحة عمل سهل، بل إنه عمل اشق من التأليف. . .
وفي هذه الأيام ظهر كتاب (يوميات الفيلسوف القانع) في طبعة ثانية، ولكنه يحمل اسم الأستاذ اسعد عبد الملك وحده، ويعلل حضرته هذا الاستئثار بملكية الكتاب بأنه أولا رأى أن أسلوب الكتاب في طبعته الأولى أشبه بأسلوب الجاحظ وابن المقفع وكتاب الصدر الأول فعمد إلى تبسيطه وحذف ما فيه من كلمات وتعبيرات رآها غريبة عميقة مما لا يناسب روح العصر كما يقول، ومن جهة ثانية لأن الأستاذ محمود مصطفي نزل له عن الإسهام في الترجمة بعقد مؤرخ في 5 - 9 - 1927م.
أما مسالة تغيير الأسلوب فانه جناية على الأستاذ محمود مصطفي لأنه مسخ لجهده، وجناية على الكتاب لأنه حط قيمته، على أني قابلت بين الطبعتين فلم أر هذا التغيير إلا في كلمات وتعبيرات كان الأستاذ محمود مصطفي يشرح معناها، فحسبها صاحبنا غريبة لا تلائم العصر.
أما مسالة العقد فقد حدثني الأستاذ محمود مصطفى رحمة الله إنه لما فرغ من الكتاب اتفق مع زميله على أن يتقاضى منه قدرا من المال وينزل له عن الحق المادي فيه ليتولى هو تصريفه وجمع نقوده لأنه لا يصبر على المساومات المادية، وقد كان هذا شأن الأستاذ محمود مصطفى في جميع ما ألف من الكتب، وهب أن الأستاذ مصطفى نزل عن حقه الأدبي فهل يكفي هذا العقد لنقل هذه الملكية، وهل يصح يا أخي لدور النشر التي تشتري حق تأليف الكتب من المؤلفين أن ترفع أسماءهم من عليها وتدعي إنها من تأليفها وعبقرية أموالها؟!
إنه الواقع عمل غير مستساغ، إنها تجارة بأكفان الموتى إنها جناية أدبية أضع تفاصيلها تحت الأنظار ليرى الناس فيها رأيهم.
أستاذي يا صاحب الرسالة. أرجو ألا تغير حرفا من هذا الكلام فيما يخصك أو يخص غيرك، فانه حق الأدب والتاريخ، وإني لأكتب للأدب والتاريخ، وقد عاش الأستاذ محمود مصطفى يقاسي أهوالاً من الجحود، وأنا لا ارضي - وأنا تلميذه الوفي - أن يلاحقه هذا الجحود في قبره، نضر الله قبره، ورحمة رحمة واسعة. . .
ولكنها الأوضاع المقلوبة:
كتب صديقنا الأديب الأستاذ (وديع فلسطين) في جريدة الإنذار التي تصدر بإقليم المنيا يقترح على جامعة فؤاد الأول أن تأخذ بتلك السنة التي استنتها الجامعات الغربية بمنح الأفذاذ من العلماء والساسة درجة الدكتوراه الفخرية دون أن تكفلهم أعداد رسالة خاصة أو أداء امتحان شفهي كما يحدث مع سائر الذين يظفرون بالدكتوراه.
وبعد أن سرد الأديب أسماء بعض العظماء الذين منحوا الدكتوراه الفخرية من الجامعات الغربية والأمريكية مثل الرئيس ترومان والمستر مارشال والمستر بيفن والدكتور تشارلس واطسون والدكتور فارس الخوري ممثل سوريا في مجلس الأمن قال: (أما في مصر فلا نكاد نشعر بأن جامعاتنا تقدر هذه الدرجة الفخرية، ولذلك لم تمنحها إلا إلى أفراد لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة مع أن في مصر عشرات من الأدباء والعلماء والساسة الذين يخلق أن تفكر الجامعة في منحهم الدكتوراه الفخرية أمثال الأساتذة عباس العقاد وفؤاد صروف واحمد أمين واحمد حسن الزيات وأنطون الجميل باشا وخليل ثابت بك وخليل مطران بك ومحمود تيمور بك وإسماعيل صدقي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، فأن جميع هؤلاء وغيرهم يستحقون عن جدارة أن تكرمهم الجامعة هذا التكريم الرمزي بأن تمنحهم شهادة الدكتوراه الفخرية اعترافا منها بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة).
وهذا اقتراح حميد في ذاته، وأنا أرجو أن تأخذ الجامعة بهذا التقليد، لا لأن الدكتوراه سترفع من قيمة هؤلاء الأساتذة، بل لأنه سيكون دلالة على أن الجامعة عندنا قد نضجت وإنها تحسن تقدير القيم الفكرية وتعترف للموهوبين بمواهبهم، وإلا فإن هؤلاء الأساتذة قد أخذوا مكانتهم في تقدير الأمة وفي تقدير الأجيال القادمة، ولن تستطيع أية دكتوراه في العالم أن تفرض لإنسان مكانة في هذا وان فرضت له مكانة في وظائف الدولة وأفسحت له مكانا في مكاتب الحكومة. . .
ولكني أرجو أن لا يتم هذا التقليد في هذه الاونة، لاننا في وقت أفسدت فيه السياسة الحزبية عندنا كل تقدير وكل تصرف، ولعل لنا في مسالة اختيار الأعضاء لمجمع فؤاد اللغوي اكبر عبرة، فقد رأينا كيف يختار فلان وفلان أعضاء في هذا المجمع، على حين ينسي ويهمل الذين هم أهل لهذا من العلماء والأدباء، ولولا أن أكون معيبا - كما يقول شيخنا الجاحظ - لضربت بالقول رأس فلان وفلان ممن لا يصح أن يكونوا من أهل هذا المجال قلامة ظفر، ولكن السياسة الحزبية أصرت على أن تربطهم رغم العلم والأدب بهذا المجال.
وكذلك الشان لو أن الجامعة أخذت بهذا التقليد المقترح، فإني أتوقع أن تجري الأمور على ما عرفنا وألفنا، وسينال الدكتوراه الفخرية كل من هو على شاكلة فلان وفلان، ولن ينالها أولئك الأدباء والعلماء والساسة الذين ذكرتهم.
يا سيدي. اترك الملك للمالك كما يقول أبناء مصر، وانشد مع المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد ... يدرس انساب أهل الفلا
فنحن في كل أمورنا ما زلنا نأخذ بهذه الأضحوكة، نجعل تدريس انساب العرب لكل نبطي أعجمي من أهل السواد، ونعوذ بالله من انعكاس الأوضاع، وانتكاس الأوجاع.
(الجاحظ)