مجلة الرسالة/العدد 733/المعبرة والتاريخ
→ من ذكرياتي في بلاد النوبة: | مجلة الرسالة - العدد 733 المعبرة والتاريخ [[مؤلف:|]] |
كتاب مقاييس اللغة لابن فارس ← |
بتاريخ: 21 - 07 - 1947 |
نهاية دجال
للأستاذ حسني كنعان
ظهر منذ سبعة عشر عاماً في غوطة دمشق، إحدى جنان الدنيا، رجل أمي يدعي (طه أبو الورد) يخرج في (الطريق) على بعض مشايخ الصوفية، ثم جمع حوله من القرويين الجهالة وقطاع الطرق. فتزيا بزي العلماء وأخذ يمخرق عليهم وينشر عن نفسه الدعاوى المظللة في قرى الغوطة على يد طائفة من الاتباع الذين أذاعوا عنه الأخبار الملفقة كادعاء إنه هو النبي المنتظر في آخر الزمان الذي يطهر البشرية من أدرانها وأوشابها، وانه من الملهمين الذين يوحي إليهم، وأنه يبرئ المرضى ويحي الموتى ويطعم الجائعين، فاصبح في قريته (عربين) مليكا غير متوج، وشاد مسجدا في ضاحية القرية وجعل فيه (زاوية) له بين الخمائل الوارفة ومنحدرات السواقي والأنهار وبن الورود والرياحين، ونصب فيها كعبة مزوقة يتوسطها صندوق من زجاج فيه حجر اسود. وجعل الطواف حولها يغني عن شد الرحال إلى الكعبة في مكة، فجازت هذه الشعوذات على بعض القرويين السذج ولقيت عندهم سوقا رائجة، ونال صاحبنا بمر الأيام شهرة فائقة وصيتا بعيدا تجاوز الغوطتين الشرقية والغربية إلى جبال القلمون، وأقبل عليه الناس زرافات ووحدانا وقدموا إليه الهدايا والأموال فغني بعد فقر، واثرى بعد إملاق.
وعلم بأمره علماء دمشق فثارت ثائرتهم، وذهبوا إليه في قريته يستطلعون طلعه ليقفوا على خبره، ولكنه كان يتظاهر أمامهم بالورع والتقوى، ويدعي إنه استطاع أن يجعل من اللصوص وقطاع الطرق قوما متعبدين متنسكين بعد أن استتابهم وأصلحهم ولم يستطع أحد من الوافدين على هذا (المخلوق) أن يقف على جلية أمره.
وبدا لي أزوره في يوم الجمعة. وكان رسولي إليه من اشد اتباعه تعصبا له، وكان لا يألو جهدا في أن يحدثني - ونحن في طريقنا إليه - عن معجزاته وخوارقه، ويحذرني من الظهور أمامه بمظهر غير لائق بمقامه الرفيع أو اشك في أعماق نفسي بصدق دعوته ونبوءته، لأن الرجل يعرف خفايا القلوب وأسرار النفوس، فإذا لقي أمامه إنساناً جاحداً أو كافراً مسخه قرداً أو أبن آوى، ثم قال لي: أنت رجل (ابن حلال) حسب ما يبدو لي فأفه ما قلت لك. فأجبته ضاحكاً: لا تخف، فأنا لم اقصد صاحبك إلا من احل أن اهتدي بهديه واطهر نفسي مما علق بها من الرجس، فبرقت أسارير صاحبي واطمأن إلى وطمع في رضا سيده عنه وتقريبه إليه. ولما بلغنا المكان الأقدس سمعنا أصوات المؤذنين تتجاوب بها المآذن، وشهدنا زحاماً عظيماً على بابه، فشق لي صاحبي طريقاً للوصول إلى المصلى فدخلته ورأيت الناس ما بين قائم وقاعد ومتوضئ، ودنا وقت الخطبة، فخرج على القوم شيخ هائم غائر العينين، وتراكض القرويون إليه يقبلون يده فحسبته صاحبهم وهممت أن افعل فعلهم لولا أنني سمعته يقول: استعدوا فنبيكم قادم، فأدركت إنه أحد صحابته المقربين، وما لبث الشيخ أن اقبل على مهل، وروائح الند والكافور والطيب تضوع من أردانه، فخر القوم سجدا وبكيا، فرأيت عملا بوصية ديدباني أن افعل فعلهم، ولم ادر ماذا كانوا يقولون في سجودهم غير أنني سمعت رجلا إلى جانبي يقول: (يا أبا الورد، يا منبر الظلمة في اللحود، ويا منقذ الصحب في اليوم الموعود، كن لنا شفيعا للغفور الودود)! وقد كال سجودهم ولم يرفعوا منه رؤوسهم إلا بعد دقائق عشر، ولما نهضوا تقدم فوج من النسوة يلثم الأيدي الشريفة، وتبعهن الرجال وأنا في مؤخرتهم، ومذ وقع بصره علي وصافحت عيناه عيني حد جنبي بطرف موقر وأدرك بثاقب بصره أنني ما أتيت متجشماً المصاعب إلا من اجل الوقوف على رجليه أمره، فتظاهر أمامي بالورع والسذاجة وابدى لي الاحترام ورحب بي، وصعد المنبر وأخذ يتدفق في خطابه تدفق السيل وأورد من الأحاديث العجيبة ما لم يسمع به إنسان، ولو أن (سيبويه) سمعه لفضل الموت انتحاراً. .
وبكى المستمعون ما وسعهم البكاء، وبدا لهم بثوبه الأبيض الناصع الحريري، وعمامته الضخمة المكورة على رأسه والمنتهية بعذبة طويلة كأنه ملك من الملائكة. . واختتم خطبته ونزل إلى الصلاة وهم يتسابقون إلى التمسح به والسعيد منهم من حظي بلمس طرف ردائه، ووقف للصلاة وسبحته الطويلة تهتز على صدره، ويبدو الكحل في عينيه خطوطا سوداء براقة، وما كاد يقرأ الفاتحة حتى اهتز القوم طربا لبراعته بالتلحين والتطريب حتى كدت احسب إنه يغنى (العتابا) أو (الميجانا) وانبعثت من حناجرهم الفولاذية الصرخات المدوية، وأخذوا يبكون في الصلاة ويجهشون في البكاء ويقفزون في الهواء قفزات بهلوانية ويقلدون أصوات الحيوانات فكنت لا اسمع إلا الثغاء والمواء والعواء والجئير والزئير والهدير. ففت في ساعدي واسقط في يدي وهممت أن انفلت من بين الصفوف هاربا ولكني خشيت سوء العاقبة، وقضيت الصلاة بعد ساعة شعرت فيها أن الأرض قد دارت بي مما اعتراني من الإعياء والتعب، فلقد كان يطيل ركوعه وسجوده ويتنطع ويتقعر في القراءة، وتلمست طريقا للخلاص متسللا من بين الصفوف دون أن يشعر بي أحد ناجيا بنفسي، وفور وصولي إلى دمشق أذاعت في الصحف نبأ ما سمعت وما رأيت محذرا أولي الأمر والرأي العام من خطر هذا الأفاك الأثيم، فلم تلق صرخاتي آذاناً صاغية ولا قلوبا واعية لأن الحكومة الفرنسية كانت تشجعه وتشجع أمثاله وتلقي لهم الحبل على الغارب وبقي هذا الطاغية يعبث بعقول السذج البسطاء من اتباعه فيسلبهم العقل والمال والعرض منذ بدء العهد به حتى يومنا هذا. وقد مد الله ليتيح له فرصة التوبة ولكنه لم يتب برغم بلوغه الستين من العمر، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وألقي الرجل منذ أيام في غياهب السجن بين جدران حاشرة لا يري فيها النور الشمس، وها هو ذا اليوم يدان بفضيحة جديدة تثبت سطوه على أعراض النساء اللواتي كن يستسلمن له، فضيحة جرت فضائح، كان لها ريح خبيث، ودوي مزعج، وصور لا يستطيع أن يرسم أفحش منها إبليس نفسه.
ولقد ثار العلماء وأعلنوا البراءة منه ومن امثاله، ونرجو أن يكون مصيره عبرة لكل ممخرق يريد أن يخدع الناس باسم الصوفية والدين، فحسب الشريعة البيضاء النقية، ما أصابها من سواد، وما مسها من عكر!
دمشق
حسني كنعان