الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 732/رأي الأكثرية في السياسة الشرعية

مجلة الرسالة/العدد 732/رأي الأكثرية في السياسة الشرعية

مجلة الرسالة - العدد 732
رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 07 - 1947


للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

ذكر صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ رزق الزلباني في مقال له (السياسة الدستورية الشرعية) نشر في عدد صفر سنة 1366هـ من مجلة الأزهر حكما في رأي الأكثرية لا يصح أن يترك من غير أن تبين حقيقته الدينية، لأنه يتعلق بأمر له خطرة في نظام الحكومات الدستورية الحاضرة، وقد أخذت به الحكومات الإسلامية في هذا العصر، فتألف في كل حكومة منها مجلس نيابي يقوم نظامه على الأخذ برأي الأكثرية، وقد رأى فضيلة الأستاذ أن هذا يخالف السياسة الدستورية الشرعية، لأنها توجب رد المتنازع فيه بين أولي الأمر إلى الكتاب والسنة، ولا توجب الأخذ برأي الأكثر كما توجبه الحكومات الدستورية في عصرنا، ثم ذكر أن ما درجت عليه الشريعة من ذلك أدنى إلى الصواب، وأجدر بتحقيق المصلحة واتفاق الكلمة، لأن الأكثرية قد تكون من حزب واحد ينصر بعض أفراده بعضاً في الحق وفي الباطل، فمتى شاء زعماء الحزب تقرير أمر ولوبباعث المصلحة الشخصية تبعهم الباقون من أعضائه، فيصبح ما قرروا واجب الاتباع لأنه رأي الأكثر، وإن كان ظاهر الضرر قبيح الأثر، فتضيع المصلحة العامة، وتتزعزع ثقة الأمة بأمثالهم، وتجد الفتنة والتفرق طريقهما إلى النفوس، وفي ذلك الخطر كل الخطر، وفي الرد إلى الله والرسول اطمئنان كل نفس وراحة كل ضمير، وضمان وحدة الأمة وسيرها على صراط مستقيم.

ولا شك أن ما ذهب إليه فضيلة الأستاذ من رد المتنازع فيه بين أولى الأمر إلى الكتاب والسنة هو ما جاء في قوله تعالى في الآية - 59 - من سورة النساء (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقد ذكر المفسرون أن ذلك خاص بأمور الدين، فهي التي يرجع فيها عند التنازع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى رسوله ﷺ ما دام حياً، فإن مات ردت إلى سنته، فإن لم توجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله فسبيلها الاجتهاد، وقيل الرد إلى الله ورسوله أن يقولوا لما لا يعلمون: الله ورسوله أعلم.

فأما أمور الدنيا فقد فوض الأمر فيها إلينا، نحكم فيها بما فيه مصلحتنا، ونرجع فيها إلى ما يراه أولو الأمر فينا، كما قال تعالى في الآية - 83 - من سورة النساء، (وإذا جاءهم أم من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منعم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فأدخل هنا أولي الأمر فيما يجيئهم من أمور الأمن والخوف، لأنه من أمور الدنيا، قال المفسرون: أولو الأمر هم ذوو العقول والرأي والبصيرة، أو أمراء السرايا والبعوث.

وقد أمر الله تعالى نبيه ﷺ بمشاورة أصحابه في الآية - 59 - من سورة آل عمران، فقال (وشاورهم في الأمر) وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه ﷺ بالمشاورة لهم، مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق كافة فيما أحبوا أو كرهوا، فقيل هو عام مخصوص، والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا، لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه، وقيل إنه أمر أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء، لأن النبي ﷺ شاورهم في أسرى بدر وهو من أمر الدين، وقد اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك.

وقد مر النبي ﷺ على قوم يؤبرون نخلهم، فقال لهم: لو تركتموه لصلح فتركوه ففسد، فأتوا إليه فأعلموه بفساده، فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

فهناك إذن أمور كثيرة لا يجب على المسلمين أن يرجعوا عند التنازع فيها إلى الكتاب والسنة، وهي أمور الحكم التي أمر النبي ﷺ بمشاورة أصحابه فيها، لأنها هي محل الشورى، وهي التي تؤلف المجالس النيابية في الحكومات الدستورية للرجوع إليها فيها، أما أمور الدين فشأنها في ذلك شأن القوانين الوضعية، ولا شك أن وجود القوانين الوضعية لا يمنع من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، فكذلك لا يمنع وجود القوانين السماوية من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، لأن المجالس النيابية ليست محاكم تنظر في مسائل القوانين السماوية أو الوضعية، وإنما هي رقيبة على حكوماتها، تعطيها ثقتها إن عدلت في الحكم، وتعزلها من الحكم إن جارت فيه.

وقد سار النبي ﷺ على الشورى في حكمه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله ﷺ.

ومن ذلك أنه في غزوة الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف على ثلث ثمار المدينة، فعرض ذلك على سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فقالا له: يا رسول الله، إن كان أمراً من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. فقال لهما: لو أمرني الله ما شاورتكما. ثم اختار ما أشارا به، ورجع عما أراده من ذلك الصلح.

وإذا كان الإسلام قد جاء بالشورى التي تقوم عليها الحكومات الدستورية في عصرنا، فقد جاء أيضاً بالرجوع إلى رأي الأكثرية عند اختلاف أهل الشورى، وبهذا لا يكون هناك خلاف في هذا الأمر بين السياسة الدستورية الشرعية وغيرها من السياسة الوضعية، بل تتفق السياستان في الأخذ برأي الأكثرية فيما ثبتت فيه الشورى من أمور الدنيا كلها، ومن بعض أمور الدين على ما ذهب إليه بعض العلماء فيما سبق.

وقد أتى الإسلام بالأخذ برأي الأكثر في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وذلك حين اقترب المشركون من المدينة فنزلوا بذي الحليفة، فجمع النبي ﷺ أصحابه فقال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن هم أقاموا أقامو بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

فقال رجال من المسلمين ممن كان فاته يوم بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وقال آخرون: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا!

فانقسم المسلمون بذلك إلى فريقين: فريق على رأسهم النبي ﷺ، وفيهم شيوخ المهاجرين والأنصار، يرون البقاء في المدينة، وفريق أكثرهم من الشبان الذين لم يحضروا غزوة بدر، وأرادوا أن يعوضوا ما فاتهم منها بغزوة أحد، يرون الخروج من المدينة إلى العدو.

وقد نظر النبي ﷺ فرأى الأكثرية في جانب الذين يرون الخروج من المدينة، فلم ير إلا أن يترك رأيه إلى رأيهم، وإن كان يرى أن رأيه هو الأرجح، لأنه قد أمر بالشورى، والشورى تقتضي أن يأخذ برأي من يستشيرهم إن اتفقوا عليه، فإن اختلفوا فيه أخذ برأي أكثرهم، حتى تمشي الشورى على قاعدة مطردة، وتجري على منهاج معروف، تجتمع عليه كلمة الأمة، ولا تكون الشورى معه سبباً لانقسامها واختلافها، وقد عمل النبي ﷺ في ذلك بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، لأن ضلالا مخالفة رأي الأكثرية في الخروج من المدينة أشد من مخالفة رأيه في البقاء فيها. وقد بعث ﷺ معلماً ومرشداً، فضرب بهذا مثلا في حكم الشورى، ليأخذ المسلمون به بعده، وتكون القاعدة فيه الأخذ برأي الأكثر عند الاختلاف في الرأي.

فكيف مع هذا يرى فضيلة الأستاذ أن الأخذ برأي الأكثر ليس من السياسة الدستورية الشرعية، وفي الإسلام مجال واسع للأخذ برأي الأكثر، وذلك في كل ما يؤخذ فيه بالشورى من أمور الدنيا، ومن بعض أمور الدين التي لا يوجد فيها نص قاطع من الكتاب أو السنة، ولا شك أن تقييد الأخذ برأي الأكثر بذلك لا شيء فيه، لأن المجالس النيابية في الحكومات الحديثة لا يصح لها أن تتدخل في كل شيء من أمور الدولة، بل تقف سلطتها عند حدود لا تتعداها، ولا تطغى بمجاوزتها على غيرها من السلطات التي تتألف منها الحكومة.

وأما ما ذكره فضيلة الأستاذ من ضرر الأخذ برأي الأكثرية عندما تكون من حزب واحد فهم أمر قد يعرض لهذا النظام، ولا يصح أن يؤخذ به، كما لا يصح أن يؤخذ كل أمر نافع بسوء استعماله. بل يجب أن يعالج هذا فيه بما يصلحه.

عبد المتعال الصعيدي