مجلة الرسالة/العدد 732/تعقيبات
→ في سيدي بشر | مجلة الرسالة - العدد 732 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1947 |
واحد من ثلاثة:
كتب إلى أديب فاضل يقول: (رأيتك أيها الجاحظ في عدد الرسالة السابق تحمل على جريدة المانشستر جارديان فيما زعمته من أن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، ثم دعوتها إلى الانحدار بالفصحى إلى مدارج العامية، ولكنك تغاضيت عن رأي مماثل أبداه الأستاذ أحمد أمين في مقال كتبه منذ شهور بمجلة المستمع العربي التي تصدر في لندن، وزعم فيه أن جمهور الشعب في مصر لا يصل إليه الأدب. . . الذي يثقفه ويعلى مستواه ويرقي ذوقه ويهذب عواطفه، وذلك لأنه ليس عندنا أديب للعامة وإنما كل أدبائنا للخاصة، والسبب في ذلك - كما يقول - هو وجود لغتين: لغة عامية ولغة فصحى. وأننا إلى الآن لم ننجح في التوفيق جع
بينهما. فماذا تقول أيها الجاحظ في هذا الرأي الذي يراه شيخ من شيوخ الأدب في مصر؟! وكيف تسكت عن هذا الرأي يخرج من مصر ولا تسكت عنه إذ يأتي من أوروبا؟!).
وأنا أحب أن أقول (للأديب الفاضل) قبل كل شيء إن الأستاذ أحمد أمين ليس من شيوخ الأدب، وإن من الظلم أن نحشره بين الأدباء، وإنما هو رجل باحث يتحلى بصبر العلماء، فغاية ما تؤهله إليه مواهبه أن يعكف على مراجعة آراء السابقين، فيقابل بينها، ويرتبها، ويعلق عليها بما يبدو له في ثناياها، وإنه ليظلم مواهبه ويتكلف الشطط إذ يزج بنفسه في مضمار الأدب، وإنه ليخرج على طبيعته خروجاً متكلفاً إذ يمضي على طريقة الأدباء فيمد بصره إلى (النظر في النجوم)، أو يجلس لمداعبة (صندوق الكتاكيت). . .
وإذا كان الأستاذ أحمد أمين يقول إن وجود لغة عامية ولغة فصحى هو العائق في سبيل توصيل الأدب إلى العامة، وأن الواجب، كما يفهم من قوله، أن نوفق بينهما، فإني لا أناقشه في هذا الكلام، ولكني أسأله أن يتقدم فيأتي لنا بأسلوب خليط من العامية والفصحى لنرى أي شيء يكون هذا الأسلوب الخليط، ولعله يوفق في هذا فيكون صاحب طريقة في الأسلوب تؤثر عنه، وتعرف فيما بعد بالطريقة الأحمدية الأمينية، كالطرق الجاحظية والعميدية والفاضلية التي عرفت في أساليب الجاحظ وابن العميد والقاضي والفاضل. . .
ألا رحم الله الرافعي ونضر قبره، فقد كشف عن العلة في هذا الرأي المريب إذ قال في إحدى مقالاته: (إني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها. إلا واحداً من ثلاثة، فإما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي به أمة ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل نهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها؛ وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف، فإنه ليس كل كاتب ببليغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نسب إليها وإن عد في طبقة من أهلها، والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك. . . أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوماتنا أو نتخذ في اللغة أديانا شتى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه، وإلا فماذا بقى بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إذا نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة. . .!!
(أحسب إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئاً من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثال السيد جمال الدين ومحمد عبدة وعلي يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم وردوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم حتى أمنوا عليه أن ينقص أو يمحق). . .
وبعد، فتلك هي العلة، وذلك هو الأصل في هذه الدعوى المربية، وإن من دلائل الريبة أن تظهر هذه الدعوة وتتطاول بها رءوس دعاتها في وقت يجاهد فيه أبناء العروبة لدعم الروح العربية وتآلفها وإقامتها رباطاً وثيقاً بين أبنائها وأقطارها فيأبى هؤلاء إلا أن ينقضوا ذلك الرباط بالدعوة إلى العامية. . . والأمية. . .
على أني لا أتهم الأستاذ أحمد أمين، ولكني رأيته ينادي بدعوة مريبة فكان لابد أن أكشف عن الأصل فيها، وإني لمنتظر من الأستاذ الفاضل أن يقدم لنا نمطاً من ذلك الأسلوب الذي يراه في التقريب بين العربية والعلمية.
الفن للاشتراكية!!
تقول برقية من موسكو: إن الحزب الشيوعي قد قام بحملة في الأشهر الأخيرة لتخليص الفن السوفيتي من آثار البرجوازية الغربية، وتقول البرقية: إن هذه الحملة قد كللت بالنجاح، فأصبحت الكتب والروايات والمراقص ودور الأوبرا والسينما وغيرها من معارض الفن مصبوغة بصبغة الجهاد الاشتراكي، فهي لا تعرض إلا إلى إظهار سمو المواطن الروسي والدعاية للسياسة الشيوعية في تذليل مصاعب الإنتاج والحياة المنزلية والشئون الدولية، فإن جاوزت هذا الهدف فإلى إظهار الأخطاء التي ارتكبت في معالجة هذه المسائل في دول الرأسمالية.
وقد ذكرني هذا الصنيع بما عمدت إليه النازية الهتلرية في ألمانيا من قبل، إذ أصدر (جوبلز) أمراً يحرم به على النقاد عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء الرأي فيها، وقال في تعليل هذا الصنيع: (إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقة فيجب أن يسمح لهم بحريةالابتكار والاحتفاظ بكرامتهم الفنية)، والواقع أن ذلك الداعية النازي لم يكن يقصد بهذا العمل إلى حماية (أصحاب العظمة الحقيقية) وإنما كان يقصد إلى وضع الإنتاج الأدبي تحت سيطرة السياسة، وتسخيره للدعاية النازية. . .
وهذه محاولات باطلة، لأنها مصادمة للأدب في طبيعته ومصادرة له في مهمته، فإن الأدب - كما يقول مكسيم جوركي أديب روسيا الشيوعية - يجب أن يتلمس الإنسانية من جميع أطرافها، وأن يخاطبها بالإخلاص المنبثق من أعماق الروح الطاهرة، وأنت إذا ما نظرت ملياً إلى هذا الاتجاه ظهر لك الغرض الخطير الذي يقصد إليه الأدب، وهو الذهاب بسائر الفروق ووجه الخلاف والنزاع القائم بين الناس وإنقاذ الإنسانية من شر هذا التنازع، والتغلب على قوى الطبيعة الغامضة المرهوبة، ويوم يحقق الأدب ذلك يصبح دين الإنسانية جمعاء.
ديناً يشمل كل ما حوت الكتب المقدسة في عبادات الهند القديمة، وفي كل ما جاءت به التوراة والإنجيل والقرآن. . .
وماذا يصير إليه الأدب أو يكون إذا ما عمدت كل حكومة في كل دولة إلى جعله أداة مسخرة لأغراضها، وحتمت على الأدباء أن لا يتكلموا ولا ينتجوا إلا في حدود مرسومة وأغراض معلومة مثل رجال السياسة، إنه لا شك سيفقد صفته الإنسانية، ويصبح مثار الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ويصبح مثار الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ولن يكون الأدب أدباً يومذاك، ولكنه سيكون الجحيم الذي لا يطاق. . .
إن روسيا لا تخدم حياتها الفنية بهذا العمل، ولن تستطيع إذا ما أصرت على هذا الصنيع أن تجعل أدبها صلة تربطها بالعالم الإنساني، وعن قريب سيفقد الأدب الروسي الروح الإنسانية التي تجعله قريباً إلى كل نفس، حبيباً من كل قلب، وإنها لخسارة على روسيا لا أي نظام اشتراكي أو شيوعي في الأرض. . .
الفن الفن، تلك هي الحقيقة الأزلية التي كان بها الأدب صورة للطبيعة الإنسانية، أما الفن للاشتراكية أو لأي نزعة سياسية. فذلك لا يكون إلا في تقدير الجشع السياسي، على أنه تقدير لن يثبت أبداً.
(الجاحظ)