مجلة الرسالة/العدد 731/على ثلوج (حَزْرين)
→ من تجارب المؤلفين | مجلة الرسالة - العدد 731 على ثلوج (حَزْرين) [[مؤلف:|]] |
رحلة إلى الهند ← |
بتاريخ: 07 - 07 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي صديق:
خطر لي من سنوات أن أرى لبنان في الشتاء، ولبنان في الشتاء له فتنة الراهبة الصبوح بجلبابها الأبيض الذي لا يبدي من جمالها إلا قليلا يثير الرغبة في الكثير، كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى ولكن تزيد العطش، والفصل من الرواية لا يغنيك عنها، ولكن يشّوقك إليها، فرحلت بالسيارة مع جماعة من الإخوان من بيروت إلى عاليه، حتى إذا بلغناها، تركنا الطريق المعبد الذي يمرّ على بحمدون وصوفر، وصعّدنا في الجبل، نمشي على غير طريق، وكان الصعود أول النهار سهلا: وكنا أقوياء أولى نشاط، فما قارب المساء وجاوزنا قرية (حزرين) حتى توعرت السبل، فلم نعد نرى من حولنا على مدٍّ البصر إلا ذرى متعمّمة بالسحاب، وتلالا مكسوَّة بالثلج، تبدو القرى في سفوحها البعيدة، وكأن بيوتها المتفرقة بمداخنها، بواخر تمخر العباب، فجعلنا نفتش عن طريق نعود منه، فلم نجد إلا ثلجاً منبسطاً، يخفى السبل ويغطي الأرض، فلا نتبين مواضع الهوى لنتجنبها، ولا نرى الحفر لنحيد عنها، فلم تكن تمر لحظة حتى نقع في حفرة، أو نقدم على السقوط في هوَّة، فآثرنا التفرق علَّ واحداً منا يرى منزلا فيدل عليه إخوانه، وأظلم الليل، وانفردت في مهامه الجبل، واختلطت عليَّ الأرض بالسماء، والتقى الثلج بالسحاب، وهبت الرياح متجمدة من القرّ، كأنها المبارد الخشنة، تحمل برّداً ثقيلا جعل يسَّاقط على وجهي، كالرصاص المندفع من الرشاشات.
وألهب الخوف أعصابي وإن كاد البرد يجمد أطرافي، وصوَّر لي الوهم أشباحاً مرعبة تحيط بي، فكنت أعدو هارباً منها حتى تكلّ قواي، فأقف لأستريح قليلا، فأحسُّ كأن جنياً جباراً يسوقني فأعود إلى العدو. . . وطالالمسير وطال الليل وتهت فما اهتدى إلى منزل، وتاه الفجر فما يهتدي إلى مطلع، ونفذت قواي وحطمني الجهد، فتمنيت الموت وعزمت عليه، وجعلت أفتش عن واد أتردَّى فيه، فرأيت من بعيد نوراً خافتاً، يحاول أن يخترق يحجب الظلام، فيعجز ويرتجف كأنه مقرور مثلي يقضقض عظامه القرّ، وأعصابه من التوتر والفزع كالأسلاك المحماة بالنار، أو كأنه خائف مثلي من الوحدة في هذه الأعا الموحشة فهو يرتجفمن الخوف، فأسرعت إليه إسراع المشرف على الغر في اللجة الهائجة إلى السفينة المنجية يرى ضوءها، أو الشاطئ الآمن يبصر مناره، وهبطت وادياً كأنما تعزف فيه الشياطين من أصوات رياحه، ثم صعدت جبلا كأنه من استوائه صرح قائم، حتى وصلت إلى النور، فإذا بيني وبينه سور كأنه كان يوماً. . . سور حديقة، فعالجت بابه لأفتحه فإذا هو صدئ المفاصل كأنه لم يفتح من دهور، فحططت عليه بمنكبي، ودفعته دفعة الآيس، فصرَّ صريراً مخيفاً، رددته هاتيك البطاح، فكان له مائة صدى انبعثت كلها معاً ثم حملتها الرياح إلى بطون الأودية، وعاد السكون، فولجت أحسب أن الرحمة في باطن الباب، الذي كان في ظاهره العذاب، وإذا أنا بشبح أسود يثب إلى وجهي، ويتعلق بي، وله صوت لم يقع في أذني أفظع منه، فنظرت إليه وقد شل الفزع أعضائي وسمَّرت قدماي بالأرض، فإذا هو كلب ضار، يهم بأن ينشب فيَّ مثل أنياب الذئب الكاسر، فتبلد حسي واستسلمت للقضاء، وتوقعت الشر. . . ولكني رأيت الكلب يعدني ويبتعد عني، قد دعاه صوت من داخل البيت فانصرف إليه مزمجزاً ثم أقعى غير بعيد. ومشيت إلى البيت فدخلت إلى ردهة دافئة، فيها كهل وامرأة وشيخان عجوزان، فسلمت فلم يردَّ أحد منهم، ولبثوا يحدقون فيَّ جميعاً بعيون فيها الدهشة والبغضاء، شاخصة لا تطرف، كأنهم يرون فيَّ مخلوقاً عجيباً انشقت عنه الأرض، فلما طال ذلك منهم، ملكتني الحيرة وأخذني من الخوف ما لم يأخذني وأنا معلق بين السماء والأرض، تائه لا أعرف لي متجهاً، وهممت بالفرار ثم خفت أن يلاحقني الكلب، وذكرت الكلب فنظرت إليه فإذا هو رابض يزمجر يريد أن يثب عليَّ فيكفّه الكهل بقدمه، وتجلدت فقلت لهم:
- أنا غريب ضل في هذه الجبال حتى وقع عليكم، وأنا أعتذر أن أزعجكم، وأرجو أن تمنوا عليّ بقدح شاي أطفئ به حر جوفي الذي ألهبه الخوف، وأدفئ به أطرافي التي جمّدها البرد.
فنظرت المرأة إلى الكهل نظرة لمحت فيها خليطاً من الحب والبغض، والشفقة والرهبة، ولبثت لحظة متسائلة، فهز رأسه كالموافق، فقامت تعدّ الشاي، وألقيت بنفسي على مقعد قريب من النار، وجعلت أسارق القوم النظر، فأرى الكهل قوياً متين البناء، لم يجاوز الخمسين، ولكن الهم الذي تبدو عليه ظواهره قد شيَّخه قبل أوان الشيوخة، وأرى المرأة في نحو الأربعين، ذات جمال وادع قد حجبه ستار من الكآبة والغم، فهو يضئ من ورائه كما تضئ الحلية النفسية من تحت الغبار المتراكم، وجاءت بالشاي فشعرت وأنا أشربه أنه يمشي في عروق كما يمشي الريُّ في النبتة الذاوية تسقيها الماء. ثم قلت لهم: هل تأذنون لي أن أرقد ما بقى من الليلة على هذا الكرسي؟
فقال الكهل بيده وأن لا، وأشار إلى الخادم الشيخ، فسلك بي ممرات وجاز أبواباً كأنها ممرات قصر كبير، لا كوخ منقطع في رأس جبل لا يبلغه جنٌّ ولا بشر، حتى دخل بي بهواً فسيح الجوانب، تفوح منه رائحة القدم والهجران، أحسست لما ولجته أني ولجت جوف مقبرة من المقابر، فوضع الشمعة التي كان يحملها على الموقد، وأحنى رأسه وخرج، وتلفت فرأيت الشمعة قد رسمت ظلالا على الجدران صورها لي الرعب شياطين ذات قرون وأنياب فذهبت إلى الباب أريد الخروج فوجدته مقفلا عليَّ، فلعبت بي ظنون السوء، وزاد بي الفزع حتى رأيت الجدران تنأى عني، والمكان يكبر، ووجدت أن الأرض تدور بي، فصرخت، فعاد الخادم الشيخ فقال: مالك؟
فاستحييت أن أقول له إني خائف. فقلت: ألا تتكرم بإيقاد النار؟
قال: إن الموقد لم يستعمل من عشرين سنة.
قلت: كيف تهملونه عشرين سنة؟
قال: لقد أهملنا البهو كله، منعنا هاني أن ندخله بعدها؟
قلت: بعد من؟
فانتبه وقد كان غافلا، ونظر حوله جزعاً يخاف أن يكون قد سمعه أحد، ثم قال لي:
- تصبح على خير.
وانحنى وخرج مسرعاً.
وغطى التعب أخيراً على مخاوفي، وخفق رأسي، فجئت الفراش لأنام فإذا عليه أرطال من الغبار، فنفضته فهبت زوبعة محملة تراباً فأغمضت عينيَّوغصت في الفراش، لم أعد أبالي من الونى أن يكون مثواي قبر أو مزبلة أو جحر ثعبان. فلم أكد أغفى حتى سمعت مثل أصوات المدافع، تدوّي في أذني فتبدد النوم من عينيَّ ثم ضعف الصوت حتى سمعت منه وأنا بين النائم واليقظان: هاني. هاني. ففتحت عينيَّ، فرأيت الفجر قد بدا، ورأيت الرياح تحرك باب النافذة فيكون منه هذا الصوت، فأغلقته، ولكن الصوت لم يبرح يطنُّ في أذني ينادي: هاني. هاني. فذهبت إلى آخر البهو، وهو يلاحقني، فعاودني الفزع فصرخت، حتى سمعني أهل الدار كلهم، وأقبلالكهل مغضباً يقول: ما هذا؟ قلت: هل في هذه الدار من اسمه هاني؟ ففتح عينه وقال: ولمه؟
- قلت: صوت لا يفتأ ينادي: هاني. هاني.
- قال: سمعته؟ أنت سمعته؟ أهو صوت امرأة؟
وجعل يهزني كالمجنون.
- قلت: نعم.
فأرسلني وفتح الباب، وعدا يخب في الثلج. . .
ولحقته المرأة كأنها تحاول ردَّه، ولكنها وقفت في الباب، وألجم الخوف لسانها فلم تنطق ولكن نطقت عيناها، فأبانتا، وأطل منهما الحب لحظة ثم ارتد، كما يرتد عن النور سجين طال عهدهبالظلام. . . وقرأت في وجهها صحائف تاريخ لم أفهم منها شيئاً، فتركتها وأقبلت على العجوز، وقد انتحت ناحية تبتسم ابتسامة غريبة، كأنها تقول: أنا أفهم ما لا تفهمون، وأنتظر من زمان هذا الذي ترونه الآن وتعجبون منه!
فأشرت إليها أسألها.
قالت: سأحدثك. سأشرح لك. إنه تاريخ طويل ختم في هذه اللحظة. إنها قصة هائلة مشت بأحاديثها الركبان، وكتبتها الأقلام، وصورتها (الأفلام) وصارت من روائع الأدب، لقد مثلت على هذا المسرح قبل أن تمثل في (السينما) ولكن انتهت الرواية ولم يزح الستار، فلبث الممثلون حائرين لا يدرون ماذا يصنعون؟ وعيون النظار تكاد تأكلهم. تصور ثقل هذه اللحظات وشدتها، إنها لا تحتمل وإن كانت لحظات قصاراً، فكيف إن دامت عشرين سنة. . .
عشرين سنة ونحن نعيش بلا عمل، ننتظر أن يرخى الستار على هذه المسألة التي مثلناها، فلم يزح إلا الآن. . .
- قلت: وأين ذهب الرجل؟
- قالت: ذهب يلبي نداءها.
- قلت: وأين هي التي كانت تناديه؟
- قالت: لقد ماتت!
- قلت: ماتت؟ وهل يرجع من مات؟!
- قالت: نعم إن في الوجود قوة ترجع الموتى: إنها قوة الحب. فإن كنت في شك فاستمع قصتها:
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي