مجلة الرسالة/العدد 731/ابني!
→ سعد الله الجابري | مجلة الرسالة - العدد 731 ابني! [[مؤلف:|]] |
عبرة من كتاب: ← |
بتاريخ: 07 - 07 - 1947 |
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
لا أدري لماذا ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، إلى يوم في شارع ضريح الملك في الأعظمية حيث تقوم (دار لنا بمدرجة الريح). في أمسية هادئة ساجية وقد جلست أنظر في شمعتين اثنتين هما رمز العامين الأولين من عمر (ابني) ولا أدري لماذا تستقيم لي نظرة الوراء. وكيف لا أذكر إلا ذلك العيد الذي احتفلت به بين وفاة الوالد وميلاد الولد: شمعتان اثنتان في ضوئهما الخافت المتراقص. . . وقرص من الكعك صغير، وطفل غرير يزدهيه منظر الشمعتين يريد إطفاءهما. . . وأم تنظر كيف تسير في وادي الزمن مع وحيدها متوجسة متسائلة: ترى كم عيداً تستقبل هي وهو؟ وعند أية شمعة من شموع حياته تخبو شمعة حياتها؟. . . هكذا كانت ترتسم الصورة في ذاكرتي: لون من الليل فاحم ولون مغمور بضوء الشمعتين البرتقالي تخالطه الدكنة في أكثر حواشيه. . . والصمت يحيط بالمكان والمناسبة والنفوس، فلا موسيقى ولا مهنئون، وقد انتهى العيد بأن نام (ابني) في أول يوم من عامه الثالث من عمره المديد السعيد.
وما أدري لماذا أستشعر الكآبة العميقة من هذه الصورة فأجاوزها إلى سابقتها وإلى لاحقتها فأنظر إلى اللاحقة. . . لا شمع ولا فرح وإنما هي صورة في القطار يطوي الشقة الشاسعة. . . إلى مصر. . . يطويها قليلا حتى تنتهي. . وينام (ابني) في أول يوم من عامه الرابع من عمره المديد السعيد! فأحس لذعة في نفسي، ولذعة في هيكلي، فأشكو الأخرى شكاة مؤزرة بالأولى مؤكدة بها. ثم أشكو الصداع ثم أتخاذل فينظر إلي (ابني) وأنظر إليه. . . ثم يأتي الطبيب يفصل في شكاتي الأولى بأن أسكن دار الحميات زمناً. . . وأن يحاط بي فلا أرى (ابني) ولا ألمسه ولا أقوم على خدمته أبداً.
وقال قلبي: ودعي أيتها الأم طفلا، وقال الشيطان. . . إلى غير لقاء، وقال آخرون عرفوا بالرأفة والحنان: سنكفل الطفل ونرعاه، فذريه معنا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون.
وتجاوبت لغة التشاؤم في نفسي المثقلة بذكرياتها، واشتجرت في قلبي شجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ولم يبق في حسي إلا بقية الآية: إني ليحزنني أن تذهبوا به. . .!
أجل!. إني ليحزنني أن يذهبوا به. . . وإن كان القوم ذوي أطفال، وإن كانوا ذوي نفوس كريمة وطبع سمح جميل. . .! وأعود من هذا إلى ما سيحس هو به فأقول:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... قبيل الكرى عيناه تنهملان
ولقد ذهبوا به في رأد الضحى بجدائله التي عقصتها له بيدي المتخاذلتين وقلبي المستخذي الخفاق يمد عيني المحمومتين بالدمعة المهراقة التي لا ترقأ. وأضحى كل ألم في كل مفصل له بولدي صلة؛ فأنا آلم برأسي ألم رأس وألم حس بفراق (ابني)؛ وأنا آلم بحسي ألماً يكبر عن الألم المألوف لأنه مزيج من ألم الحس المثخن وألم الأم تريد ابنها ترى فيه آلامها الكبار السابقة لينحط هذا الألم بفعل المقارنة إلى ما يجوز استمراؤه وقبوله. فهل أكون عقصت شعره لأخر مرة؟
وتعظم هذه الآلام وتبسق وتمد ظلالها فتساقط على نفسي الحالمة بذكرياتها كسفاً من الليل المفعم بأعاصير الكدر، وتتزلزل قواعد الصبر في نفسي وتلقى بها الريح في مكان سحيق فأرتد خاسئة الطرف ذاوية، وأضؤل وأضوي.
وهنا تنفتح عينيعلى غير إرادة، وأرفع كفي إلى رأسي المسجور، لأني أرى في ضعفي هذا وبؤسي هذا. . . ويأسي هذا (ابني) الذي حملوه مع الحقائق إلى دار الكرام الذين قالوا ذريه معنا يرتع ويلعب وآنا له لحافظون. . . وأدير رأسي رويداً رويداً لأسكب على الوسادة دموعاً ثقالا بعد اليوم، لا حراراً كما اصطلح عليها، دموعاً ثقالا من ذوب القلب الحنون تنقض البؤبؤ السقيم فأطرحها على الوسادة طرحاً، وأراها تتدحرج قطرة قطرة. . . وتفرغ عيني منها فأستجلي صورة ابني على مقربة من رأسي. ثم يعتلج في نفسي تسأل هين رقيق.
رققه المرض كثيراً وأمسك عليه الاجابة، ترى علام خلق الدمع؟ الأجل أن يضفي على ألماً جديداً فأرى من خلال ودقه صورة ابني متراقصة وأراها متحركة وأراها ناطقة بدون كلام، وأراها ضاحكة تهون على الصعب، وأراها باكية تشاركني الخطب وتقاسمني الكرب. ولقد أراني الدمع صورة ابني من مشتقات معانيه يزم جبينه وشفتيه شروعاً في جهشة. . . وأراني صورة أمي بجانبه صابرة متجلدة كشأنها، وأراني أمسي داكناً إلا شمعتين، وأراني غدي في لون الضباب. . . ولون الضباب كلون الكفن!!
ولقد يطلب للمريض في فرض الضنى أن يرقب مواكب المنى تمر مستأنية في وخدها وإرقالها، مثقلة بأوقارها وأحمالها. . . تقبل من الأفق الأيسر وتذوب في الأفق الأيمن مارة عبر جسمه المسجى الضعيف تحدو حداتها فيهيم طرفه الفاتر ونظره الغائر في الحدوج ويستلهم الأحمال ويتنخل ما فيها لأيامه الحسان المقبلة، وأنا. . . أرقب هذه المواكب زاخرة بأمانيها، ملأى بما فيها، يقودها الدمرداش من أفق العباسية إلى أفق الزمالك - حيث أبني - فلا أرى ما يستفزني في الأفانين إلا ركوب يستوي على متنه شيء يشع فيمسك الرمق، يدنو في أخريات الموكب فإذا هو طفل بسام الثغر مصفف الشعر هو (ابني) فأصيح وأريد اللحاق فيقال: لا: أنت رهينة التيفوئيد. أجل لقد ذهب الموكب صداحاً لين اللحن عبق الخطو والحداء. وقد رأيت ابني فيه بسام الثغر مصفف الشعر. . . فأبسم لنفسي وأهزأ من دموعي وأجد القدرة على الشفاء. أين الدكتور الدمرداش أشكره على ما أتاح، وأين زوجي أسأله عن ابن فيص على الأمر فأرتاح.
لقد قيل لي منذ أيام إن - ابني - عني سأل، ولابد أنه ألقى سؤاله ذلك خجلا أحمر الوجنتين، خائب الشفتين، فأجابوه بأن أمه في المدرسة. فما أحسن الإجابة! إنني في مدرسة الصبر، أتعلم الموت كيف يهون، وفراق الابن كيف يكون. أما أن ابني احمر الوجنتين خجلا، خائب الشفتين أملا، فلك الله يا مناي، ولي. ما ودعتك أمك وقلت، ولا نسيتك أمك ولا سلت.
منيبة الكيلاني