مجلة الرسالة/العدد 730/تحية البطلين
→ شعب واحد، وقضية واحدة! | مجلة الرسالة - العدد 730 تحية البطلين [[مؤلف:|]] |
فرنسا ومستعمراتها ← |
بتاريخ: 30 - 06 - 1947 |
للأستاذ على الطنطاوي
إلى البطلين العربيين اللذين أعلما أهل الأرض أن في الوجود شيئاً أقوى من الحديد، وأمضى من السيف، وأحمى من النار وأنكى من القنبلة الذرية، هو الإيمان.
اللذين تخلفا عن بدر والقادسية واليرموك ليطلعا في الغوطة ونابلس والريف، فيكتبا بالدم على جبهة الثرى، أن العزيز لا يذل وسليل من حكموا الدنيا لا يحكمه في بلاده أجنبي ولا غاصب.
اللذين أثبتا للعالمين أن العرب الذين سادوا في أول الدهر سيسودون في آخره.
إلى القائدين العبقريين: عبد الكريم الخطابي وفوزي القاوقجي
تقدي الأدب للبطول، وتحية القلم للحسام
أما عبد الكريم فلم أره ولا أحب أن أراه لتبقى له في نفسي هذه الصورة العلوية الخالدة، لا تفسدها معالم اللحم والدم في الإنسان الذي يأكل كما يأكل الناس ويشرب، ويرضى ويغضب ويجد ويلعب، وليكون اسمه أبداً في ذاكرتي مع أسماء العباقرة الخالدين، القادة السادة الهداة، خالد وعمرو وقتيبة وابن القاسم وابن نافع وطارق، الذين أفاضوا على الحرب الحق والرفق فجعلوها مقدسة مشروعة، وأثاروها لله لا للكسب، وللخير لا للشر، فاستولدوها الحياة والحضارة والسلام، وما كانت تلد إلا الموت والخراب والانتقام.
وأما فوزي فقد عرفته في بغداد، قبل أن تعرف بغداد بطولته ويشهد العراق عبقريته. فكنت أزوره في داره في الكرادة أنا وأنور العطار ويزورنا في مثوانا في الفندق، وأضرب معه في آفاق الأحاديث، وأراه مسترسلا على سجيته، منطلقاً مع طبيعته، وأتحرى خلائقه، وأتقرى سلائقه، فأراه يعلو في نظري إن طالما نزلت الخلطة بالرجال، ويكبر إن صغرتهم، وأنا أشهد أني لم ألق في عمري من (الرجال)، وقد قاربت الأربعين، وقد سكنت الشام والعراق ومصر والحجاز إلا (رجالاً) لا يشغل عدهم أصابع اليدين وأشهد أن من أكملهم رجولة، وأفتاهم فتوة، وأظهرهم قوة، في جسمه وعقله وقلبه وضميره: فوزي القاوقجي.
عظيمان جهلاً نفسيهما، فحسبا أنهما اثنان من الناس خلقاً ليعيشا كما يعيش الناس ويمو كما يموتون، لا تحتفل بمولدهما الدنيا ولا تضطرب لموتهما الأرض، ولا يحس بهما التاريخ، وتلفتا يفتشان عن مهنة يعيشان منها فوجدا في قلبهما الميل إلى الجندية لأنها مهنة البذل والبطولة والنبل وخوارق العادات، ولكنهما لم يجدا في أمتهما الجيش العربي، فتطوعا لخدمة الجيش الأجنبي. . . وتحركت العظمة الفطرية فيهما فكانا ضابطين نابغين، ولكنها ظلت حبيسة في سجن الوظيفة، مقيدة بقيد القانون، حتى جاء اليوم المقدور، فنقبت السجن، وحطمت القيد، وانطلقت تملأ الأرض، وتترع الزمان.
أخوان ائتلفا ولم يتعارفا، وتكلما وما كان بينهما كلام، وتواعدا وبينهما بحر العرب بعرضه، على أن يلتقيا في مصر، فجاءاها بعد ما زرعا طريقيهما إليها مفاخر للعرب وأمجاداً، وبعدما حارب هذا بشعب أعزل، وقبائل بدوية، دولتين عظيمتين: فرنسا وأسبانيا حشدتا له مائتين وخمسين ألفاً، ونازلهما فأنزل بهما الهزائم وجرعهما شراب الموت، وقارع ذلك دولتين عظيمتين: إنكلترا وفرنسا وفل جيوشهما في الشام وفلسطين والعراق. وبعدما أثبتا للدنيا أن العربي لا يستعبد ولا يهون.
لقد عاد فوزي إلى وطنه سورية على رغم فرنسا، فلما لم ير فيها مستشاراً في دائرة وكانت الدائرة هي المستشار، ولا شاهد قلعة فرنسية على رابية، ولا داراً فرنسية في شارع، ولا لوحة فرنسية على متجر، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم يبك وهو بين شقي الرحى التي تديرها يد الموت. واستقر عبد الكريم في مصر على رغم فرنسا، فلما رأى الملك العربي، والجامعة العربية، والشعب العربي، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم تبكه خمس وعشرون سنة في منفى سحيق وضعته فيه فرنسا التي أقسمت له بشرفها أنها لن تأسره. . . فلما تمكنت منه كان وفاؤها له، على مقدار شرفها. . .
لقد شهد الرجلان مئات المعارك، وحملا مئات الجروح، ولقيا مئات الشدائد، وهاهو ذا فوزي يفتش عن ميدان جديد للجهاد، وعبد الكريم يستجم ليعود إلى النضال. . . وكذلك نكون الرجال.
لم يرض فوزي أن يكون كهؤلاء الذين جنوا على الجهاد لما تسموا كذباً بـ (المجاهدين). . . وما جاهدوا ولكن قتلوا الثورة، وفرقوا أهلها، وسرقوا أموالها، وعادوا اليوم يأكلون ويشربون، وينعمون ويتمتعون باسم الجهاد الذي لم يكونوا من أهله - فعاف المناصب والمراتب، وعزف عن الأموال، وآثر أن يبقى كما كان مجاهداً حقاً، لا يلقي سلاحه، ولا يغمد سيفه، حتى لا يبقى في الوطن الأكبر شبر واحد يحتله مستعمر - وكذلك تكون الرجال.
هذان هما القائدان البطلان، فتقدما يا أيها البطلان القائدان فهذا هو الجند معداً، وهذا هو الجيش لا ينقصه إلا القائد. . .
هذا الشعب كله جيش معد، ولا يمل الجهاد، ولا يضن بالضحايا، ولا يعرف الونى، ولا يدركه الكلال، فادعواه باسم الوطن، باسم الأرض، باسم العرض، باسم الدين، وانظرا كيف يلبي هذا الشعب الدعاء. . .
هذا الشعب لا أعني (كباره. . .) الذين فتنتهم المناصب، ولا تجاره الذين تعبدتهم المكاسب، ولا فساقه الذين عاشوا لتقليد الأجانب في البلايا والمصائب، وكانوا في جسم أمتهم حيات وعقارب، ولكن أعني الشباب. . .
إن الشباب هم أرباب المثل العليا، هم الأطهار، هم بناة الوطن هم الذين إذا جد الجد سدوا آذانهم عن أصوات المفرقين الهدامين فلم يكن فيهم من حزبيين، يتقاتلون ليخسر الوطن ويربح الزعماء ولكن عرباً مجاهدين، كارهين للاستعمار والمستعمرين، ثائرين على الظلم والظالمين. . .
أولئك الشباب الذين تعلموا منكما أيها البطلان كيف يتخذون قضية فلسطين والمغرب عقيدة ويجعلونها لهم ديناً، لا يرون لمن يقر الاستعمار في بلاده وهو يقدر على دفعه إيماناً، ولو صلى وصام وحج وزكى، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
لقد أقسم هؤلاء الشباب ليبذلن الدماء والمهج، وقاموا للنضال، ولكنهم افتقدا القائد فقعدوا. فتقدما للقيادة يا أيها البدلان يا بطل المشرق ويا بطل المغرب.
وأعلما أنكما حاربتما عدواً قوياً، بأمة كانت غافلة، وقد ضعف اليوم العدو، وتيقظ الغافلون، فحاربا مرةً ثانية وثالثة وتاسعة وعاشرة، حاربا إذا لم تعطيا الحق كاملاً فما في الدنيا شريف يزدري الحرب في سبيل الحق والحرية والشرف، وقد حارب الفرنسيون لما وطئت بلادهم، وإن كانوا في الحرب نعاما تحسن الفر لا أسوداً تجيد السكر، وحارب الإنكليز، وحارب الأمريكيون، وحاربت قبائل البوير، وحارب أهل الحبشة، وحارب هنود أميركا يوم دخلوها عليهم. . . وحاربت كل أمة على ظهر الأرض. وكانت هذه الحرب المقدسة خلقاً في طبع كل أبي شريف لا يكون من يفقده أبياً ولا شريفاً، لا يكون إلا كلباً، بل إن الكلب يحارب دون وجاره، وكل حيوان حي يدافع عن ذماره، حتى الخنزير البري. . . فهل يريد أنصار المفاوضات والمحادثات أن نكون أقل من الخنازير؟
كلا، وأنف الكاره في الرغام. كلا، ولكن أكرم من كل كريم، وأعز من كل عزيز، وأسمى من كل بشر أظلته السماء وحملته الغبراء. وإلا فما نحن لأولئك الأجداد، ولا نحن لرمال الجزيرة، ولا نحن لمن حملوا نشيد (الله أكبر) ومشوا حتى صكوا به سمع الزمان، وراعوا به جن الفلا، وملأ وأبه كل سهل وجبل حتى دانت لهم الأرض ومن عليها، ولا نحن لمحمد.
كلا، نحن سلائل الفاتحين، في عروقنا دماؤهم، وفي صدورنا قلوبهم، ولنا عزتهم، ولئن فقدنا السلاح فما فقدنا العقل الذي يصنعه، ولا اليد التي تشحذه، على إنه إذا أعوزنا السلاح أخذناه من يد عدونا وجالدناهم به. وكذلك فعلنا.
لن نهاب بعد اليوم غريباً، ولن نثق به أبداً.
لقد مات العهد الذي كنا نخاف فيه أن يغضب صعلوك من المنتسبين إلى فرنسا فتغضب الامتيازات.
لقد قضى العهد الذي كنا نرى فيه فرنسا وأخواتها أمم الحرية والديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان.
لقد أبدت الحقائق وجوهها التي كانت مبرقعة ورآها الناس كلهم إلا هؤلاء العميان الذي طمست أبصارهم وبصائرهم المدارس الفرنسية في الصغر، والمواخير الفرنسية في الكبر، وهم بحمد الله أقل من القليل.
لقد رأى الناس فرنسا على حقيقتها أمة همجية تمنع الخبز عن الجائعين ليموتوا جوعاً، وإنكلترا تنصر الصهيونيين على الفلسطينيين والهولنديين على الجاويين، وأمريكا تقول لصاحب البيت، أخرج ليدخل اللص ويأخذ دارك. ولكن خسأ اللص وخسأ من ينصره
إن دون الحمى آساداً.
أنتهم أيها الأميركيون لا تدركون ما هي قوانا لأنكم لا تعرفون إلا المادة. إنكم لم تسمعوا بأخبار الفتوح الأولى في الشام والعراق ومصر والأندلس، ولا بأخبار الفتوح الآخرة في الغوطة والرميثة وجبل النار وريف المغرب، فاسألوا عنها فارس والروم وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا. . .
إنكم تحسبون قضية فلسطين كقضية سرقة في شيكاغو تدخلون بالرشاشات فتنبهون المخزن. . .
كلا، والحي القيوم، لن تكون لليهود دولة في فلسطين ولن يكون للفرنسيين اتحاد مع المغرب، حتى لا يبقى في هذه البلاد كلها حي يمشى. لن يأخذوها حتى يروا ويرى من يعينهم يوماً يذهل له كتاب التاريخ، ويصيبهم من هوله الجنون. يوماً لا ترون فيه تاجراً في دكانه، ولا موظفاً في ديوانه، ولا تلميذاً أو مدرساً في مدرسته، ولا قاضياً في محكمته، ولا امرأة في دارها. وإنما ترونهم يسيرون إليكم جميعاً يقاتلونكم إن عجزوا عن السلاح بأيديهم، وصدورهم، ويستنزلون غضب الله عليكم، فأبيدوهم يومئذ بقنابلكم الذرية، إذا محيت الإنسانية من الأرض، واستبيح قتل الشعوب، وإذن فستنبت الأرض التي تسقيها دماؤهم أمة جديدة تقاتلكم دون أرضها وحماها.
ويلكم إن الله في الوجود، ما استقال ولا أحيل على المعاش؛ وإننا مع الله نستعينه عليكم، والله أكبر منكم، هذا نشيدنا الذي يهون علينا كل خطر، ويصغر كل عدو مهما تكبر: الله أكبر.
لقد علمنا ديننا أن نستوهب الحياة بطلب الموت، وحبب إلينا نبينا الشهادة. نلحقها إذا هربت منا، ونفتش عنها إذا ضلت عنا. فيما ذا تخيفون أمة تريد الموت؟
نحن نريد الموت ونسعى إليه، قد أعددنا الجيش للجهاد. وهيأنا القوى للجلاد، فتقدما يا أيها البطلان القائدان، تقدما فاقتحما النار، وخوضا البحار، فإننا معكما لن نرجع ولن نلقي السلاح ولن ندع الجهاد، حتى لا يبقى في دنيا الإسلام، وأرض العرب، علم لأجنبي، أو حكم لمستعمر، والله معنا. والله أكبر!
علي الطنطاوي
القسم الخامس: