مجلة الرسالة/العدد 73/محمد بك المويلحي
→ الأجنبيَّة | مجلة الرسالة - العدد 73 محمد بك المويلحي [[مؤلف:|]] |
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1934 |
2 - محمد بك المويلحي
للأستاذ عبد العزيز البشري
لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان (مصباح الشرق) عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي. وبهذا كنت شديد الاكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه وطرائف عباراته. حتى لقد كنت أشعر أنني أترشفها ترشفاً لتدور في أعراقي وتخالط دمي، وتطبع ملكتي على هذا اللون من البيان الجزل السهل الناقد الطريف. ولكن (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)!
ولقد كنت فتى مولعاً بالصناعة، شأن أكثر نابتة المتأدبين في ذلك العهد. فلما أرسل محمد المويلحي في المصباح (أحاديث عيسى بن هشام) زادني وزاد لداتي به فتوناً.
كيف تمثل لي محمد المويلحي؟:
لم تكن عيني إلى هذا العهد قد وقعت قط على محمد المويلحي ولا خيار المرء في تمثل صورة من لم ير من الأناسي، وما لم يشهد من البقاع. فكانت الصورة التي جلاها علي الخيال لهذا الرجل، صورة شاب معتدل القد، وضئ الطلعة، وسيم الوجه قسيمه. وما كان ذلك البيان الجوهري ليجلو علي من الرجل غير ذلك. على أنني كنت أرى أباه إبراهيم بك الحين بعد الحين في زياراته لوالدنا، عليهما رحمة الله، وفي زيارات والدنا له (بعمارة البابلي) يوم كنت أصحبه. وكان هذا المويلحي تحفة من تحف العصر التي قل أن يجود بمثلها الزمان: قوة لسن، واشتعال ذهن، وحضور بديهة، وسطوة نكتة، وسعة علم بالزمان وأحوال الناس. أما سرعته وتوفيقه في إيراد الشاهد من عبر التاريخ، ومأثور الآداب من منثور الكلام ومنظومه، فهذا ما لم يتعلق بغباره فيه أحد. فكان مجلسه متاعاً من أعظم المتاع
على أنني لم أوفق إلى رؤية المويلحي الابن مرة واحدة!
وتتابعت السنون، وخلص تحرير (المصباح) إلى محمد. ثم امتحنه القدر بحادثة اعتداء يسير عليه من بعض الطيش من أبناء (الذوات) في إحدى القهوات. وانتهى الخبر إلى المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان في صدره موجدة شديدة على محمد وعلى أبيه لما كان بينه وبينهما من كيد وصراع، فانتهز الفرصة وروى الحادثة في صورة مهولة، واستدرج الكتاب والشعراء للقول فيها، وفسح لهذا في المؤيد مكاناً عريضاً. ومن ذا الذي لم يكن موتوراً من المويلحي؟ ومن ذا الذي لم يقدر الوتر منه في مستقبل الأيام؟ وإذا كان الرجل عاجزاً على أن يخرج للمويلحي وحده، فهذه جموع الأدباء والشعراء والعلماء أيضاً قد تداكت لقتاله بكل ما في أيديها من سلاح! ألا فليتقدم لطعن المويلحي من شاء أن يتقدم، فليس على أحد في قتاله اليوم من بأس!
وتثور العاصفة، ويشتد البأس، وتحمر الحدق، وأذّن النفير العام، فوثب القاعد وتحرك الساكن، وانبعث الجاثم وهب النائم. وأهاب القعديون بالمتخلف، واستحمسوا المتخاذل. وشد الجميع على قلب رجل واحد. وهل كان من المستطاع أن يصمد لهذا الجيش اللجب رجل واحد؟. لم يستطع المويلحي أن يثبت في الميدان، فأطفأ (المصباح) وأنسل إلى داره وقد ألقى يد السلام، واحتجب ولكن في انتظار الثأر وري الغلة بالانتقام!.
ولقد تم للمويلحي من هذا بعض ما أراد أو كل ما أراد. فلقد كان ممن أثاروا الثائرة على الشيخ علي يوسف أيام حادث الزوجية المشهور، وفتح له في جريدة (الظاهر) باباً مثل ذلك الباب، واستدرج له أقلام الشعراء والكتاب. وواحدة لواحدةٍ كفاء.
متى رأيت المويلحي، وكيف اتصلت به؟:
بين سنتي 1907، 908، لا أذكر على التحديد، سألت صديقاً حديث العهد بصداقتي، ولكن وده للمويلحي قديم - سألته وتمنيته أن يجمع بيني وبينه، وما كان أبلغ دهشتي واغتباطي حين قال لي: إن المويلحي قد طالعه أنه يحب أن يراني، ولعله عرف بي من أيام كنت أرسل القول في الشيخ في فتنة الزوجية شعراً ونثراً. (وأسأل الله أن يغفر لي هذا). وتواعدنا أن نذهب إليه في الأصيل.
وكان، رحمه الله، قد اتخذ مسكنه داراً من دور سعيد باشا نصر، تقع في أطراف العباسية يومئذ. وهذه الدار لا يعطي العين ظاهرها أكثر من منظر (حوش) في قرافة الأمام، فإذا جزت مداخلها انفرجت للعين حديقة واسعة قد عبِّدت طرقها تعبيداً، ونضدت أشجارها تنضيداً، وتأنقت يد البستاني في تسويتها وتنميقها، كما تأنقت يد الطبيعة في تشجيرها وتزويقها: فهذا الفل الوضيء الآلق، وهذا الورد المشرق الضاحك، وهذا النرجس تنبعث من عيونه الأسحار، وهذا الياسمين لقد استحال تنفساً في ساع الأسحار.
ولقد أفرد زاوية من زوايا الحديقة للغزلان والطواويس وجماعات الطير من كل غرد صداح.
ويستقبلني، رحمة الله عليه، بالبشر والتأهيل والترحيب، وإذا بي إزاء رجل حنطي اللون، بين الطويل والقصير، والسمين والهزيل؛ مستطيل الوجه، عريض الجبهة، حاد العينين، مستوي الأنف، له فم قريب إلى الفَوَهِ في غير قبح ولا استكراه. إذا تمثل واقفاً لمحت في ساقيه تقوساً خفيفاً لعله دخل عليه من أنه عالج المشي قبل أن تصلب عظامه. وله إذا تحدث صوت لا أقول خشن بل أقول جزل. فإذا أقبل على القراءة زر عينه اليسرى فبان التكرش الشديد ما بين أعلى العارض وأسفل الجبين، وهذا التكرش لا شك كان من أثر السنين، وإن كان يخفيها في المويلحي شدة عنايته بصحته، وتكلفه ألواناً من علاج البدن بمأثور الوصفات، والتزام الحمية في كثير من الأوقات، وأخذ النفس بالراحة التامة ما تستثيره أزمة من الأزمات، ولا يستدرجه مجلس لهو ولا تقنصه داعية لذة من اللذات؛ وبهذا تهيأ له أن يحيا في مثل نظرة الشباب إلى الممات.
وقد تلقّاني في غرفة الاستقبال، وهي غرفة أنيقة حقاً. لقد أثثت بأفخر الأثاث وأغلاه، وأفخر من كل شئ فيها الأناقة في تصفيف الفراش والذوق التام. وقد زُينت أجبُنُها بصور كبيرة له ولأبيه، وللأميرة نازلي فاضل، وللسيد جمال الدين الأفغاني. وبلوحات خطية جميلة جرت بروائع الحكم، وأكثرها من شعر المعري.
وخضنا في أحاديث من أحاديث الأدب، ولونا الكلام تلويناً حتى تجاوزنا نصف الليل، وتفارقنا وكأن حبل المودة بيننا ممدود من عشرين سنة. وتواعدنا اللقاء ما تهيأ لنا. وكذلك استمكن الإلف واستوثقت حبال الود، فما نتفارق على موعد من لقاء قريب. ولقد أعيش معه اليومين والثلاثة نقرأ عامة نهارنا وصدراً من ليلنا كتباً، أو نتذاكر أدباً.
وكان ممن يختلفون إلى داره مغرب الشمس عادة بعض أقطاب العلم وأصحاب الرأي والبيان والبدائة المواتية، وأذكر منهم المرحومين عمه السيد عبد السلام باشا المويلحي (سر تجار مصر)، والسيد محمد توفيق البكري، والشيخ علي يوسف، بعد أن تصافت القلوب مما كان علق بها من الأضغان، والسيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، وحافظ بك إبراهيم، وعبد الرحيم بك أحمد، وحافظ بك عوض، والسيد عبد الحميد البنان. أحياهما الله أطيب الحياة. وخذ ما شئت في أثناء هذه المجالس من أدب رائع، ومن نادرة طريفة، ومن حاضر نكتة قل أن تسخو بمثلها الأذهان.
ولقد كنا نقضي معاً عامة الصيف في مدينة الإسكندرية. ولعل من أسعد هذه الأصياف ذلك الذي قضيناه معاً في فندق في ضاحية المكس خالصين للرياضة ومراجعة الكتب في مختلف الآداب، لا ننحدر إلى صلب المدينة إلا لقضاء سهرة مونقة مع آثر الصحاب. كما عشنا معاً في شتاء سنة 911، 912، بضعة أشهر في دار استأجرناها في حلوان.
وفي سنة 1910 قلد في ديوان (عموم) الأوقاف منصب رئيس قسم الإدارة والسكرتارية، وفي يناير من سنة 1911 عينت في (قلم السكرتارية). وللمويلحي في هذا التعيين سعي غير منكور. وبهذا أصبح لي رئيساً، كما كان لي أستاذاً وصديقاً.
ولقد ظل الود بيننا موصولاً حتى قبض إلى رحمة الله.
نشأته ودراسته:
هو السيد محمد المويلحي بن إبراهيم بك بن السيد عبد الخالق المويلحي. أصلهم من مرفأ المويلح ببلاد العرب، هبط جدودهم مصر من زمن غير قصير، وكانوا يتجرون في صناعة الحرير، وهم أهل نعمة وثراء. ولقد أتلف أبوه إبراهيم كل ما كان في يده من الأموال فلم ينزلق عنه لبينه إلا نطافٌ من الاستحقاق في بعض الأوقاف.
وما أحسب محمداً تجاوز في الدراسة المنظمة التعليم الابتدائي. ثم جعل يتعلم على أبيه، ويكب على قراءة الكتب في العلوم والآداب، ثم اتصل بأئمة العلماء وأقطاب أصحاب الأدب من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ حسين المرصفي، ومحمود باشا سامي البارودي، وغيرهم من أعلام عصره فحذق العربية وبرع فيها، وجود البيان أيما تجويد، وهيأ له جِدُّه واضطرابه في أسفاره بين الشرق والغرب تجويد اللغات الفرنسية، والتركية، والإيطالية، كما أصاب حظاً من الإنكليزية واللاتينية. وكان كثير القراءة إلى غاية الممات، فلا تكاد تقتحم عليه إلا رأيته يعالج بالتنسيق حديقته، أو يقرأ في كتاب عربي أو في كتاب يجري في إحدى هذه اللغات.
ولقد سألته ذات يوم عن أحسن الفرص التي هيأت له أعظم حظ من العلم فقال: كنت في الأستانة في ضيافة رجل فاضل يدعى سليمان أفندي، وكان عنده مكتبة تعد من أفخر المكاتب الأهلية، فلبست ثيابي ذات عشية تأهباً للخروج كعادتي لأسهر في بعض ملاهي المدينة، وتفقدت كيسي فإذا هو صفر من الدرهم والدينار، فنضوت ثيابي ثانية وقلت باسم الله، ولبثت عاكفاً على قراءة الكتب لا أبرح هذه المكتبة إلا للنوم أو لغيره من حاجات الحياة. وظللت على هذه الحال ستة أشهر وبعض الشهر حتى أذن الله بالفرج، وجاءني من المال ما هيأ لي استئناف الحياة مع الناس!
ومن يعرف صبر المويلحي، وشدة حمله على نفسه، لا يستطيع أن ينكر منه هذا المقال، وسألم إن شاء الله بهذه الخلة العجيبة فيه عند الكلام في عاداته وأخلاقه. وحسبي هذا الآن فقد أطلت الحديث، والى الملتقى القريب.
عبد العزيز البشري