مجلة الرسالة/العدد 73/العلوم
→ لونجفلو | مجلة الرسالة - لمحة في تاريخ الرياضيات العلوم محمد المبارك |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1934 |
لمحة في تاريخ الرياضيات
بقلم محمد المبارك
بكالوريوس في العلوم
اجتازت العلوم الرياضية كغيرها من العلوم أدواراً ثلاثة: دوراً إلهياً ودوراً تجريبياً عملياً، ودوراً نظرياً مجرداً
فكانت فكرة القوة الميكانيكية فكرة إلهية تعزى إلى الآلهة في جميع حالاتها في تلك الأزمان التي كانت تنسب فيها جميع الحوادث إلى الآلهة المتعددة حينئذ بصورة مباشرة، وكذلك كانت الأشكال الهندسية مقدسة، وللأعداد خواص يعتقد بتأثيرها، ومع ذلك فقد أخذت الحقائق الرياضية تتولد تدريجاً بالحدس مستمدة من العمل والتجربة اللذين هما مصدران من مصادر الإلهام، وينبوعان يستقي منهما العقل البشري أفكاره في كل زمان. وعلى هذا النحو اكتشف كثير من النظريات والحقائق الرياضية، كنظرية مساواة مربع الوتر لمربعي الضلعين القائمين في المثلث القائم.
وكثيراً ما أدت أغراض عملية إلى حقائق نظرية كانت لها خطورة في نشوء العلم وتطوره؛ فعملية المساحة عند قدماء المصريين أدت إلى اكتشاف كثير من الحقائق الرياضية. كما أن الفينيقيين اضطروا إلى الحساب استعانة به على أمر تجارتهم، وكذلك لجأ إليه الكلدانيون لمزاولتهم الفلك والتنجيم.
على أن أكثر الأمور العملية كانت تشوبها أمور دينية، فعملية المساحة عند المصريين كانت مهمة دينية يقام لها حفل يحضره الملك. ولا يخفى كذلك أن الفلك عند الكلدانيين لم يكن منفصلاً عن التنجيم. فبسبب هذه العوامل اكتشفت بعض قواعد عملية، لم تصل إلى درجة يؤبه لها من اليقين العلمي، وكثيراً ما كانت تقريبية غير مضبوطة، عرفت بفضل التجربة - ولا أعني بالتجربة في كل ما تقدم القيام بعمل يقصد منه اكتشاف قضية علمية أو إثباتها كما يفهم منها اليوم، بل أريد منها ما يصادفه الإنسان من المشاهدات والملاحظات أثناء القيام بأعماله الحيوية - فكانت الهندسة في تلك العصور الغابرة عبارة عن مجموعة طرق لا رابطة بينها لحل المسائل العملية التي تستوجبها الحياة آنئذ، كمعرفة كون كل مثلث تتناسب أضلاعه فيما بينها كتناسب الأعداد: 3، 4، 5 قائم الزاوية. فبإنشاء هذا المثلث يمكن الحصول على مستقيمين متعامدين. هذا وإن كثيراً من تلك القواعد تقريبي كما قلنا ليس له قيمة علمية؛ مثال ذلك أن المصريين كانوا إذا أرادوا مسح شكل رباعي ضربوا نصف مجموع ضلعين متقابلين منه في نصف مجموع الآخرين، مع أن هذا العمل لا يصح إلا في المربع والمستطيل، وكذا إذا أرادوا معرفة مساحة المثلث أخذ نصف جُداء أكبر أضلاعه في أصغرها.
وأما البرهان على تلك القواعد العملية فلم يروا في أنفسهم حاجة إليه، واكتفوا بالمشاهدة الحسية، ثم أخذوا بعد ذلك يبرهنون على المسائل ببراهين تجريبية تستند إلى الواقع، لا على المحاكمة المنطقية، أو على تمهيدات يقدمونها دون أن يبرهنوا عليها كأنها بديهية بنفسها، وقد بقيت طريقة البرهان مدة طويلة على هذه الحال.
وأما الحساب فأحرى أن يكون في صبغة عملية بعيداً عن الصبغة العلمية، إذ هو أكثر تجريداً من الهندسة، ولذا لم يتم منه حينئذ إلا ما مست إليه الحاجة في الحياة من القواعد البسيطة جداً التي تكاد لا تستحق أن يطلق عليها أسم قواعد إلا بالإضافة إلى عصرها، فكان المصريون إذا أرادوا ضرب عدد في ثلاثة أضافوه إلى ضعفه، أو في سبعة، أضافوه إلى ضعفه، ثم ضعفوا الحاصل وأضافوا العدد إليه، كما أن القسمة كانت بالطرح المتوالي، فلم يكن لهذه العمليات قواعد نظرية.
هذا مجمل حال الرياضيات في العصور القديمة، فلنبحث الآن بالتفصيل عما عرض لكل علم منها من الأطوار المتباينة من حين نشوئها إلى بلوغها تلك الدرجة العالية التي وصلت إليها في العصور الحديثة، ملاحظين في هذا البحث تقسيم العلوم الرياضية إلى ثلاثة أقسام.
(1) الرياضيات المشخصة، وتشمل الهندسة والميكانيك.
(2) الرياضيات المجردة، وهي على قسمين:
(أ) ما يبحث في الكم المنفصل ويشمل علم العدد والجبر.
(ب) ما يبحث في الكم المتصل ويشمل الهندسة التحليلية وحساب التوابع وحساب اللانهايات (3) الرياضيات التطبيقية، وتشمل المثلثات والهندسة الوصفية وحساب الاحتمالات.
وسنقتصر في بحثنا على أهم فروع الرياضيات تاركين البحث فيما هو في الحقيقة ملحق بهذه الفروع المهمة ومشتق منها ومبتدئين بأقسام الرياضيات المشخصة، إذ هي أقدم في الظهور وأسرع في التقدم.
(1) الرياضيات المشخصة:
الهندسة: إن ما تركه اليونان من الآثار في هذا العلم يدلنا على أنهم أول من صاغ الهندسة في قالب علمي، فقد أخذت طريقة البرهان في عهدهم شكلاً عقلياً مجرداً. وربما كان فيثاغورس (550 ق. م) أول من أقام البراهين العقلية وحررها من صبغتها العملية التجريبية القديمة. وإليه والى تلاميذه يرجع الفضل في أكثر مسائل كتاب الأصول لأقليدس، والنظرية المنسوبة إليه في المثلث القائم مشهورة، ولا يعلم على التحقيق كيف كان برهانه عليها. وأما أقليدس (280 ق. م) فقد حرر الهندسة، ونظم نظرياتها، وهذب براهينها. وكان كتابه إلى ما قبل عهد النهضة الأخيرة أجمع كتاب في هذا العلم، وقد رتبه على الطريقة الاستنتاجية. قال أبو نصر الفارابي في (إحصاء العلوم): (والنظر فيها - يعني الهندسة - على طريقين: طريق التحليل وطريق التركيب، والأقدمون من أهل هذا العلم كان يجمعون في كتبهم بين الطريقين، إلا أقليدس فإنه نظم ما في كتابه على طريق التركيب وحده) ويظهر أن أقليدس لم يكن مؤلفاً لكتاب الأصول، وإنما كان محرراً ومهذباً. وعلى هذا القول الفيلسوف يعقوب الكندي والفيلسوف اليوناني ديدوخوس برقلس وقد نقل هذا الكتاب إلى العربية جماعة كثيرون منهم أبو الوفاء محمد بن محمد البوزجاني وثابت بن قرة، وحرره أيضاً جماعة تصرفوا فيه إيجازاً وضبطاً وإيضاحاً وبسطاً، والأشهر مما حرروه تحرير العلامة نصير الدين محمد بن محمد الطوسي المتوفى سنة 672هـ وهو أحسن تحرير له في العربية وهو مطبوع طبعاً لا بأس به، يتألف من خمس عشرة مقالة، ويحتوي على 468 نظرية في الهندسة المسطحة والمجسمة، ونظريات الحساب مطبقة على الأشكال الهندسية، كل ذلك مما لا يختلف كثيراً عما يقرأ في المدارس الثانوية اليوم لا في الكمية ولا في الكيفية. وبلغ عدد من اشتغل في هذا الكتاب من المسلمين من ناقل ومحرر وشارح ومختصر أكثر من خمسة وعشرين عالماً.
وقد ألف المسلمون كثيراً في الهندسة، ونقلوا عن اليونانية كثيراً من كتبها، وزادوا كثيراً من النظريات، وبرهنوا على كثير من القضايا التي لم يبرهن عليها في عهد اليونان. فقد ألف محمد بن الحسن بن الهيثم خمسة وعشرين كتاباً في الرياضيات منها رسالة في برهان الشكل الذي قدمه أرخميدس في قسمة الزاوية ثلاثة أقسام ولم يبرهن عليه. وكتاب في تحليل المسائل الهندسية وشرح لأصول أقليدس وغيرها مما هو مذكور في كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة (ج: 2ص: 90).
وقد حفظت العربية بعض كتب اليونان الهندسية التي لم يبق إلا ترجمتها العربية مثل كتاب الكرات لمنالاوس والخلاصة أن الهندسة وصلت في عهد اليونان ثم في عهد العرب إلى درجة من التجريد النظري لا يستهان بها.
الميكانيك: نشأ علم الميكانيك بالتدريج من الأمور العملية، وقد درس أريسطو بعض مسائله، ولكن بصورة عملية مغلوطة أحياناً. وأرخميدس أول من أسس أركان الميكانيك النظري، ولكنه كان يعد النظر في الآلات التي يستعان بها في الحياة المادية صناعة خسيسة يترفع العلم عن البحث فيها. وكان العرب يسمون هذا العلم علم الحيل، قال الفارابي في تعريفه: (إنه يبحث في مطابقة جميع ما يبرهن وجوده في التعاليم - أي العلوم الرياضية - على الأجسام الطبيعية).
ولم يصل هذا العلم عند اليونان والعرب إلى درجة تذكر، فقد كان علماً عملياً، ولم يتم تأسيسه إلا في العصور المتأخرة، ويرجع الفضل في تقدمه الأخير إلى سيمون ستيفن وديكارت من علماء القرن السابع عشر، فهما اللذان فكرا في تمثيل القوة بشعاع هندسي، ودراسة مبحث القوى بصورة هندسية مما أدى إلى تطور عظيم في هذا العلم. ثم توسع بعد ذلك في هذه الأبحاث لاجرانج في كتابه الميكانيك التحليلي سنة 1787.
ولم يكن تطور علم الميكانيك واحداً في جميع أقسامه، فقد درس أرخميدس توازن القوى، وتأخر مبحث الحركة والقوى المسببة لها حتى درسه غليلو سنة 1638، ومبحث الحركة مستقلة عن القوة حتى درسه أمبير سنة 1834، ويلاحظ أن تطور هذا العلم كان متصاعد التعميم. فمبحث توازن القوى أخص من مبحث الحركة والقوى، كما أن هذا أخص من مبحث الحركة.
(3) الرياضيات المجددة:
علم العدد وهو أكثر العلوم الرياضية تجريداً، ولذلك كان أبطأها ترقياً وتطوراً. ففكرة العدد التي هي أساس هذا العلم لم تستقر إلا بعد تطورات طويلة تقلبت فيها البشرية. فالإنسان في حالته الابتدائية لا يدرك منها سوى الوحدة والكثرة، فهو يعلم الواحد والاثنين والكثير، ولا يفرق بين العدد والمعدود، ولربما اختلفت أسماء الأعداد باختلاف معدوداتها، إذ ليس للعدد المجرد مفهوم عنده، ولذلك يستعين بأصابعه وكثير من أعضائه أو بالحصى والأحجار في التعداد، ومن ثمة كان اعتبار العشرة والعشرين أساساً في الترقيم بحسب أصابع اليدين أو أصابع اليدين والرجلين عند الأقوام الحفاة الأقدام.
وكان اليونان يفرقون بين الحساب العملي والحساب النظري، ومع ذلك كان علم الحساب عندهميبحث عما للأعداد من الخواص الغريبة مما نقل منه الكثير إلى العربية، ولا أعني بالخواص الغريبة هنا السحرية ولكن العملية، كمساواة كل عدد لنصف حاشيتيه، أي العدد الذي قبله والعدد الذي بعده، وكالخواص التي يذكرونها لهذه الأعداد (وهي سلسلة هندسية أساسها الاثنان ومبدؤها الواحد): 1، 2، 4، 8، 16، 32 من أنك إذا جمعت الأعداد من الواحد إلى أي عدد منها يكون الحاصل أنقص من العدد الذي انتهيت إليه بواحد، فلو جمعت الواحد والاثنين والأربعة بلغت سبعة، وهي أقل من الثمانية بواحد، ويسمون كل عدد من هذه السلسلة (ما عدا الواحد طبعاً) زوج الزوج، وهو الذي إذا قسمته على اثنين بصورة متوالية تنتهي إلى الواحد.
وقد تأخر هذا العلم لأسباب، منها فقدان أصول حسنة للتعداد عند اليونان، فقد كانت طريقتهم في كتابة الأعداد صعبة المسلك يتعسر بواسطتها إجراء العمليات الحسابية، وهي الطريقة التي يستعملها الغربيون اليوم في بعض المواضع ويسمون أرقامها الأرقام الرومانية وهي هذه , , , , , , , بالعربية: 1، 5، 10، 50، 100، 500، 1000.
ومن أسباب تأخرهم أنهم كانوا يسلكون في إثبات المسائل العددية طرقاً هندسية، وعلى هذا سار أقليدس في أصوله، فلم يفصل العدد عن المقادير الهندسية. ومنها أيضاً فقدان الإشارات والرموز في العمليات الحسابية. والخطوة العظيمة التي خطاها هذا العلم هي أصول التعداد على أساس العشرة. ولذلك كان من أعظم مآثر المسلمين في الرياضيات نقل الحساب الهندي والأرقام الهندية من الهند إلى سائر نواحي العالم. وهم يسمونها أرقاماً هندية، لأنهم نقلوها عن الهنود، والغربيون يسمونها عربية لأنهم نقلوها عن العرب. وأول من أخذ تلك الأرقام عن الهنود واستعملها في مؤلفاته محمد بن موسى الخوارزمي (في القرن التاسع للميلاد).
قال الزوزني في كتابه تاريخ الحكماء: (ومما وصل إلينا من علومهم - يعني الهند - حساب العدد الذي بسطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي وهو أوجز حساب وأخصره، وأقربه تناولاً وأسهله مأخذاً، يشهد للهند بذكاء الخواطر وحسن التوليد وبراعة الاختيار والاختراع) ومن اسمه اشتق الغربيون لفظة كانت تدل على الطريقة العشرية في الحساب، وقد مزج الخوارزمي بين ما تمكن من الوصول إليه من أصول الحساب عند الهنود وأصول الحساب عند اليونان، واستخرج من ذلك الحساب والجبر العربي، وهو أول من ألف في الجبر، وقد انتشرت مؤلفاته في أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد حيث ترجمها إلى اللاتينية
الجبر: كثيراً ما يذكر بأن ديوفنطس (في القرن الثالث للميلاد) أول مشتغل بالجبر، مع أن جل ما وصل إليه أنه كان يستعمل حروفاً في العمليات الحسابية يأخذها من الألفاظ الدالة على العملية المراد إجراؤها.
واستعمال الحروف للدلالة على المقادير كان معروفاً منذ أريسطو، وكان ديوفنطس يرمز للمجهول ولقواه حتى القوة السادسة، ولمقلوب هذه المقادير وللوحدة بحروف مختزلة من أسمائها اليونانية، ويتبع كل رمز بأمثاله العددية، ففي ذات الحدود الكثيرة الحدود الموجبة مرتبة بجانب والسالبة بجانب آخر يفصل بينهما بهذه الدالة على الطرح والتي هي مأخوذة من كلمة يونانية تدل على الطرح. فالمقدار الجبري:
س6 - 6س5 + 15س4 - 20س3 + 15س2 - 6س + 1
يكتب هكذا:
فالحرف على التكعيب أعني القوة الثالثة مأخوذ من كلمة والحرف الدال على التربيع أعني القوة الثانية مأخوذ من كلمة والحرف على الوحدة مأخوذ من كلمة وكذلك للمساواة والجذر رموز حرفية تدل عليها مأخوذة من ألفاظها اليونانية، كما أن قواعد ضرب المقادير الجبرية ذات الحدود الكثيرة مع اعتبار الجهة، أعني الموجب والسالب كانت معروفة لدى ديوفنطس.
وأما العرب فلم يستعملوا الرموز الحرفية، وإنما استعملوا كلمات بأجمعها دون اختصار، وهم الذين وضعوا رمز الكسر فجعلوا صورته أو بسطه في الأعلى ومخرجه أو مقامه في الأسفل يفصل بينهما خط أفقي، على حين أن ديوفنطس كان يجعلها على عكس هذا الوضع، والبيزنطيون يضعون المخرج فوق الصورة كما نضع نحن الآن القوة أو الأس فوق العدد.
والعرب يرمزون للمجهول بكلمة شئ. قال بهاء الدين العاملي في كتابه خلاصة الحساب: (يسمى المجهول شيئاً ومضروبه في نفسه مالاً، وفيه كعباً، وفيه مال المال، وفيه مال الكعب، وفيه كعب الكعب إلى غير النهاية) ويسمون مقلوب هذه المقادير جزء الشيء وجزء المال وجزء الكعب وهكذا. ولنضع بجانب كل منها مصطلحه الحالي:
شئ: س، جزء الشيء: س1
مال: س2، جزء المال: س21
كعب: س3، جزء الكعب: س31
مال المال: س4، جزء مال المال: س41
مال الكعب: س5، جزء مال الكعب: س51
كعب الكعب: س6، جزء كعب الكعب: س61
فيقال مثلاً للرمز س11 مال كعب كعب الكعب ولمقلوبه جزء مال كعب كعب الكعب، وكذلك كانوا يعملون قاعدة ضرب هذه القوى أو هذه الأجناس كما كانوا يسمونها بعضها ببعض، وقسمتها مع اعتبار الجهة، فيجمعون الأسس أو يطرحونها. وقد ذكر العاملي في كتابه المذكور قواعد ضربها ثم قال: (وإن كان - يعني في إحدى المضروبين - استثناء، يسمى المستثنى منه زائداً والمستثنى ناقصاً وضرب الزائد في مثله والناقص في مثله زائداً والمختلفين ناقص، فمضروب عشرة وشئ في عشرة إلا شئ مائة إلا مالاً). وفي اصطلاحنا:
(10 + س) (10 - س) =100 - س2
وبعد أن أورد أمثلة عديدة على الضرب قال: (تفرض المجهول شيئاً وتعمل ما تضمنه السؤال إلى أن تنتهي إلى المعادلة، فالطرف ذو الاستثناء يكمل ويزاد مثل ذلك على الطرف الآخر وهو الجبر، والأجناس المتجانسة المتساوية في الطرفين تسقط، وهو المقابلة) ثم قسم المعادلات إلى سنة أنواع وبين كل واحدة وطريقة حلها وأتبع ذلك بمسائل منها هذه: (رمح مركوز في حوض، والخارج عن الماء منه خمسة أذرع مال مع ثبات طرفه حتى لاقى رأسه سطح المكان، فكان البعد بين مطلعه من الماء وموضع ملاقاة رأسه له عشرة أذرع فكم طول الرمح؟ - أقول توضيحاً لكلامه: الرمح هو (م ب) والخارج عن الماء منه هو
ب جـ=5 أذرع، أثبت في مب
وأدير حتى صار رأسه ب في ت ت
والطول جـ ت=10 أذرع - جـ
م
نفرض الغائب في الماء شيئاً، فالرمح خمسة وشئ، ولا ريب أنه بعد الميل وتر قائمة أحد ضلعيها عشرة أذرع، والآخر قدر الغائب منه، أعني الشيء، فمربع الرمح أعني خمسة وعشرين ومالاً وعشرة أشياء، مساو لمربعي العشرة والشيء أعني مائة ومالاً. وبعد إسقاط المشترك يبقى عشرة أشياء معادلة لخمسة وسبعين والخارج من القسمة سبعة ونصف، فالرمح اثنا عشر ذراعاً ونصف ذراع). وعلى حسب اصطلاحنا تجري المعادلة هكذا:
(5 + س) 2=10 2 + س2
25 + س2 + 10س=100 + س2
10س=75
س=7. 5
والذي توصلوا إليه في الجبر هو حل المعادلات من الدرجة الثانية، وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي أن عمر بن إبراهيم بسط حل المعادلات من الدرجة الثالثة، ولم نر ذلك فيما بين أيدينا من كتب المتقدمين كالياسمينية وخلاصة الحساب وشروحها، ولا ندري من عمر بن إبراهيم هذا هل هو الخيام الفيلسوف الفارسي المشهور أم غيره؟ وعلى كل فعسى أن يقيض الله لهذا السر من يكشفه.
هذه نبذة يسيرة من الجبر العربي يتضح منها أن هذا العلم وصل في عصور المدنية الإسلامية إلى شئ كثير من التجريد برغم فقدان الإشارات والرموز واستعمال الألفاظ الدالة على المجهولات دون اختزالها.
ولما انتقل الجبر إلى أوروبا بواسطة المسلمين عم استعمال الحروف بطبيعة الأمر وبتأثير بعض العلماء كفرنسوافيت (1540 - 1603) وديكارت.
أما الإشارات التي نستعملها اليوم فهي متأخرة الظهور، فإشارة الناقص (-) ترجع إلى القرن الثالث عشر، ولا يعلم أصلها ومصدرها، وإشارة الزائد (+) ترجع إلى القرن الرابع عشر، إذ شاع استعمالها في ألمانيا، على حين أن علماء إيطاليا ظلوا مدة يستعملون للزائد والناقص حرفي , من كلمتي , وأما إشارة المساواة=فهي من اقتراح العالم الإنجليزي سنة 1556، وقد اتخذها نيوتن وواليس، فعم استعمالها في إنكلترا، على حين أن ديكارت في فرنسا كان يستعمل هذه الإشارة ? وكثير غيره كانوا يستعملون لذلك خطين رأسيين متوازيين هكذا:
الأس أو قوة الرفع: أول من أشاع استعمالها على الشكل المعروف الآن ديكارت، ولكن منشأها يرجع إلى عهد أقدم من ذلك، وكان علماء هولندا يكتبون الأس في دائرة صغيرة فوق العدد المرفوع.
وأما إشارة الجذر الدالة على درجة الجذر فهي متأخرة أيضاً، فقد كان ديكارت نفسه يستعمل للجذر التربيعي هذه الإشارة: ? وللتكعيبي هذه: ? فحرف يدل على التكعيب الذي هو درجة الجذر من كلمة ومن المستبعد أن تكون هذه الإشارة كما يزعم البعض جيماً عربية مقلوبة (ح) اختزالاً لكلمة جذر، فليس لهذا القول من مؤيد تاريخي، وهاهي الكتب العربية القديمة في الرياضيات الموجودة الآن خلو منها.
الأقواس: هي كذلك متأخرة الظهور، ففي النصف الأول من القرن السابع عشر كانوا يضعون خطاً أفقياً فوق الحدود التي يراد أجراء عملية واحدة عليها، ولا يزال هذا الاستعمال في المجذورات وأما الإشارات الثانوية كإشارة الضرب والقسمة فلم يتم وضعها كذلك إلا بعد ظهور الجبر الحديث.
ويرجع الفضل في ظهور الجبر الحديث إلى فرانسوا فييت، فهو أول من أجرى العمليات الجبرية مع استعمال الحروف والإشارات، وقد أراد أن يستبدل كلمة جبر (البربرية) كما يقول بكلمة تحليل ولكن هذه التسمية الجديدة لم تلق نجاحاً، وإنما بقيت كلمة تحليل منصرفة إلى فروع أخرى من الرياضيات. وجملة القول أن ترقي الطريقة الرمزية في الرياضيات وذيوع الإشارات والرموز أدى إلى ترقٍ عظيم في العلوم الرياضية، بل إلى ظهور فروع جديدة كالهندسة التحليلية.
الهندسة التحليلية وحساب التوابع
إن علم الجبر أدى تدريجياً إلى استعمال الحروف للدلالة على المقادير إلى فكرة التتابع وقد كان اليونان كما تقدم يعبرون عن القيم العددية بأطوال هندسية، وبذلك تمكنوا من حل بعض المسائل الجبرية هندسياً، وهم وإن كانوا لم يتوصلوا إلى المفهوم العام للإحداثيات فدراستهم للقطوع المخروطية الناقص والزائد والمكافئ شبيهة جداً بالهندسة التحليلية، فقد كانوا بعد تعريف هذه القطوع ينسبون نقاطه إلى قطر أو محور، ويحصلون على علاقة بين الفاصلة والترتيب وعلى كل فإنهم درسوا خواص بعض المنحنيات بقصد حل المسائل، ولفقدان مفهوم الموجب والسالب للكميات لم يتمكنوا من التوسع في ذلك.
وهذه الفكرة أعني فكرة التتابع إنما وجدت واضحة للمرة الأولى في كتابات نيقولا اورسم في القرن الرابع، إلا أنه اقتصر على الكميات الموجبة. وقد كان لفرانسوا فييت أثر بيّن في رقي الهندسة التحليلية التي ظهرت ظهورها الرائع أخيراً على يد ديكارت سنة 1637، ومع هذا فقد احتوت هندسة ديكارت على مسائل تقريبية أو غير مضبوطة.
(3) وأما الرياضيات التطبيقية فهي متفرعة عما تقدم ذكره من أقسام الرياضيات ومتأخرة في النشوء والظهور، إذ أنها كانت مبعثرة مندمجة في العلوم التي كانت منبعها الأصلي، ولم تنسلخ عنها وتظهر بالصورة التي هي عليها الآن إلا في العصرين الأخيرين، هذا إذا استثنينا المثلثات التي اتسعت بقسميها المستوية والكروية منذ عهد قديم لشدة الحاجة إليها في الحسابات الفلكية. وللعلامة نصير الدين الطوسي كتاب في المثلثات الكروية اسمه شكل القطاع وقد اشتغل في هذا العلم غيره من المتقدمين كأبي ريحان البيروني وأبي الوفاء محمد البوزجاني وأبي جعفر الخازن وأبي فضل الله التبريزي، فقد ألفوا فيه كثيراً ووضعوا نظريات جمة هي من أهم نظريات هذا العلم. ومما هو جدير بالذكر في تاريخ المثلثات أن أبا ريحان البيروني هو أول من اعتبر نصف قطر الدائرة واحداً قياسياً في أبحاث المثلثات.
هذه صورة مجملة من تاريخ العلوم الرياضية يتبين لنا منها أن المدنية الإسلامية حلقة هامة من حلقات هذا التاريخ وركن أساسي عظيم في هذا البناء، فالمسلمون هم الذين وضعوا علم الجبر وحفظوا تراث اليونان، وهم الذين نقلوا عن الهنود الأرقام ونظام كتابتها المعروف اليوم، وتعهدوا كل ذلك بالعناية شرحاً وتهذيباً وتنقيحاُ وتوسيعاً، وأحدثوا كثيراً من الأوضاع، وتوسعوا في كثير من الأبحاث، ووضعوا كثيراً من النظريات، فكان لقريحتهم الفياضة أثر بين لا يزال العلم يحفظه لهم، ومآثر خالدة لا تني المدنية العلمية عن الإشادة بها، وبالجملة فليس من شك في أن ما خلدوه من الآثار في هذه العلوم كان تمهيداً مباشراً لما حدث فيها من التقدم والرقي في العصور الحديثة.
دمشق
محمد المبارك
بكالوريوس في العلوم