مجلة الرسالة/العدد 728/تعقيبات
→ ليالي الحصاد | مجلة الرسالة - العدد 728 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في الأسبوع ← |
بتاريخ: 16 - 06 - 1947 |
مسابقة في غير ميدان:
اختار المجمع اللغوي للمسابقة الأدبية التي يجريها للعام المقبل موضوعين: أحدهما (الحياة الأدبية في المدينة على عهد الأمويين) وثانيها (كتابة بحث عن مهيار الديلمي) الشاعر المشهور.
والحياة الأدبية في المدينة موضوع اخلقه كثرة الكلام فيه والحديث عنه، وفيه من البحوث القديمة والحديثة والدراسات المطولة والمدرسية شيء كثير جداً، وكله ميسر للقارئين جداً، ومهيار الديلمي شاعر كبير حقاً، ولكن حسبه حظوة أن قامت دار الكتب بطبع ديوانه الضخم طبعاً فاخراً، وقررت الوزارة دراسته في مدارسها وسار من أشعاره وأخباره كثيرة في السنة الناس وإنما الشأن في مسابقة كالتي يجربها المجمع أن تكون في موضوعات يرود فيها الباحث مجاهل جديدة ويكشف فيها عن آثار لا تزال مطمورة، وعندنا في الأدب العربي عصور مغلقة إمام الباحثين ولا تزال ثروتها الفكرية مدفونة وهي تنتظر الجهد لكشفها وإخراجها، فمثلاً الأدب المصري حتى في أزهى عصوره لا نعرف منه إلا شذرات طفيفة، والأدب الأندلسي لا تقف فيه إلا على جملة أخبار محفوظة، والأدب العربي في شمال أفريقية من عهد عقبة بن نافع إلى اليوم لا ندري فيه كثيراً ولا قليلاً، فكان الأجدر بالمجمع أن يجعل ميدان المسابقة في تلك الميادين التي يجدي فيها السباق على الأدب والبحث، أما المسابقة في البحث عن مهيار وعن الحياة الأدبية في المدينة فان من اللائق أن تكون مسابقة لتلاميذ المدارس إذ يراعي نحوهم تيسير البحث عليهم. . .
فهل لرجال المجمع أن يعيدوا النظر في اختيار الموضوع، وأن يراعوا في ذلك أيثار النواحي التي لا تزال مجهولة غامضة. . .
هذه الألفاظ الأثرية:
في العدد الذي وصل أخيرا من مجلة (الثرى) التي تصدر في النجف مقال بعنوان (أسماء منتخبة لمعان مستحدثة) بقلم الشيخ أحمد رضا، مهد له الشيخ بمقدمة قال فيها: (عهد إلى المجمع العلمي وأنا من أعضائه الأقدمين بتأليف معجم لغوي يلائم وروح العصر تنسيقاً وترتيباً ويكون جامعاً لمتن اللغة دون شروح أو تعاليل لأنها ليست من هم الطالب لعجل الذي يطلب معنى لكلمة العربية كما سمعت من العرب، وليس من همه أن يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك شأن الباحثين المتخصصين في فلسفة اللغة وتطورها فأنجزته والحمد لله حاوياً للمواد الواردة في أشهر كتب الأئمة. . ثم رأى المجمع أن أو جزء بكتاب مختصر يكون نجدة للناشئين المتأدبين ولا سيما الطلاب في المدارس، فقصدت إلى ذلك وألحقت ما أثبت عليه بأسماء منتخبة لمسميات حديثة تراءت لي أثناء مراجعاتي اللغوية).
ثم أورد الشيخ بعضاً من هذه الأسماء التي انتخبها وهي (الدرمك) للدقيق المحور الأبيض المعروف بالفاخر، (الدغرى مصدر دغر) للحرب المفاجئة المعروفة بحرب الصاعقة، و (المدغرة) للحرب المعضوض التس شعارها دغرى، و (المربقة) للساند وتش، و (الدلق) و (الربيدة) للدوسيه، و (التلاء) للجواز المؤقت. . . إلى آخر الألفاظ التي أوردها الشيخ وكلها من هذا القبيل. . .
وكل هذا عناء لا طائل تحته، والواقع أن رجال اللغة عندنا يشقون على أنفسهم كثيراً ويتحملون كل هذا العناء استجابة لفكرة متسلطة على أذهانهم وهي التدليل على أن اللغة العربية غنية بمادتها تكفى ألفاظها معنى مستحدث وفي كل غرض جديد، فهم يرجعون إلى القواميس يلتقطون منها تلك الألفاظ المجفوة الميتة ويضعونها للمعاني الحديثة في حية ألنا، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل رجل ينزل إلى السوق إلى اليوم فيصر على أن يتعامل بالدراهم والدنانير التي ضربت على عهد الرشيد، ويزعم للناس أن الدراهم لا يزال درهماً، والدينار لا يزال ديناراً!
فلأمر في وضع الألفاظ اللغوية وانتخابها ليس مجرد إيجاد تلك الألفاظ فحسب، بل إيجاد الألفاظ التي تصلح للحياة، فيتفاهم بها الناس في أحاديثهم، ويتعامل بها الكتاب والشعراء في ألفاظهم وتعابيرهم، ومن من الكتاب والشعراء يطيق ذوقه أن يستعمل الدرمك، والدغرى والمدغرة والدلق والمربقة. . .
فلعل رجال اللغة يقدرون هذا ويصرفون إليه جهدهم، وإلا فليوفروا على أنفسهم وعلى الناس العناء والشطط. . .
الشيوعية في هوليود:
في الأنباء الواردة من أمريكا أن اللجنة الفرعية التي تألفت من أعضاء مجلس النواب هناك للتحقيق في الأعمال التي يقوم بها غير الأمريكيين اكتشفت (أن الشيوعية قد تأصلت جذورها في هوليود وفي صناعة الأفلام. . .).
وقد أدلى المستر جيمس مكدويل عضو اللجنة بأن الشيوعيين موجودون في جميع فروع صناعة الأفلام، فمنهم مهندسو المناظر، ومنهم الفنانون، ومنهم المصورون والمخرجون، ومنهم الكتاب والمؤلفون، وقد كشف التحقيق عن وجود حلقة من الشيوعيين تتسرب إلى داخل البلاد عن طريق المكسيك. . .
هكذا أصبحت هوليود مدينة الحب والجمال، والفن والمال وهي أيضاً مباءة للنزعات السياسية والاتجاهات المذهبية، كأن السياسة الملعونة تأبى إلا أن تعكر مورد، وتستغل كل أسلوب للتأثير في أذهان الناس.
ما أشبه استغلال الدعاية لهوليود بالمؤامرة التي صنعها الألمان في الحرب العالمية الأولى في مصانع الذخيرة للحلفاء ومحاولة حشو القذائف بالرمل، إنه في الواقع اشتغال خطير، لأن هوليود كما معروف تتسلط على العالم بفنها، وبأفلامها، وإن مما يؤلم أن يصير الفن أداة للسياسة، وأن يصبح سلاحاً للدعايات المذهبية مهما كان لونها، ومهما كان هدفها، إنما الفن صوت الإنسانية الخالص من شوائب الأغراض، فمتى الفن إلى هذه الغاية مترفعاً عن أو ضار الدعاية ومآرب السياسة. . .
الشعر والغناء:
يشتغل المطرب المعروف محمد عبد الوهاب في هذه الأيام بتلحين قصيدة (مضنياك جفاه مرقده) للمغفور له أحمد شوقي بك، وهذه القصيدة التي عارض بها أمير الشعراء قصيدة الحصري المشهورة: (يا ليل الصب متى غده. .)
وإن مما يدعو إلى الاغتباط أن يتجه كبار المطربين والمطربات عندنا إلى الغناء في الشعر الرفيع، واختيار القصائد الممتعة والمقطوعات الرائعة لتشنيف الأسماء وإشباع العواطف، فقد كان الغناء عندنا ابتذل في الكلام التافه الرخيص والتعابير العامية المكثوفة، وكنا كلما شكونا من هذا وطالبنا أهل الطرب بالترفع عن هذا التخنث احتجوا بأن هذا هو الذي يطلبه الجمهور ويفعمه ويقبل عليه، فلما غنى عبد الوهاب في شعر شوقي، وغنت (أم كلثوم) سلو قلبي. لم يطرب الجمهور، بل لم يطرب العالم العربي أجمع مثل ما طرب لهما في هذا، حتى أصبح العامة يستظهرون هذه القصائد والمقطوعات ويرددون نغماتها في غدوهم ورواحهم، ولا شك أن لهذا أثره الطيب في تقويم الألسن وتهذيب العواطف
حدثني الشيخ محمد الخضري رحمه الله عليه قال: لقد سمعت عبده الحمولي يغني في حشد يبلغ الألوف، فرأيته بتلاعب بألبابهم ويهز عواطفهم، ولكنه من الأسف كان يغني في كلام مبتذل، فهجمت عليه في عنف وقلت أيها الرجل: إن قيادة هذه الجماهير في يدك، وأنت تستطيع أن تسير بهم في طريق الخير والتهذيب فلعلك تفعل. . .
وهكذا يجب أن نفهم أن الغناء أسلوب من أساليب التهذيب وأنه في هذا أداة ساحرة مؤثرة، ولهذا يعنينا أن نسجل هذا الاتجاه الحميد الذي يتجه إليه المطربون عندنا بالغناء في الشعر الجميل. . .
(الجاحظ)