مجلة الرسالة/العدد 727/لبنان والعربية
→ في بلاد العرب: | مجلة الرسالة - العدد 727 لبنان والعربية [[مؤلف:|]] |
تفسير الأحلام ← |
بتاريخ: 09 - 06 - 1947 |
للأستاذ السهمي
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي (رحمه الله) في لبنان وبيروت في عبقرية لبنان:
بلغ السها بشموسه وبدوره ... لبنان وانتظم المشارق صيته
لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأزين منهما ملكوته
هو ذروة في الحسن غير مرومة ... وذرا البراعة والحجى بيروته
ويروي ياقوت في معجم البلدان لأحمد بن الحسين بن حيدرة مقطوعة فيها هذا البيت في مياه لبنان:
وكيف التذاذي ماء دجلة معرقا ... وامواه لبنان ألذ وأعذب
ويذكر شاعرنا أبو الطيب تفاح لبنان في عضديه:
حيث التقى خدها وتفاح لبنان (م) وثغري على حمياها
ويقول النشاشيبي في بيروت في خطبة:
بيروت مثقفة العرب.
بيروت موقظة العرب من بعد طول هجوعهم.
بيروت منعبث الأضواء والأنوار.
بيروت فلك الشموس والأقمار.
بيروت دار أحمد فارس والأحدب والأسير.
بيروت دار اليازجيين: ناصيف وخليل وإبراهيم.
بيروت دار البساتين: بطرس وسليمان وعبد الله.
بيروت دار أديب إسحاق وأحمد عباس.
بيروت دار الحوراني والشرتوني وصروف وضومط.
بيروت دار شكيب ارسلان وأمين الريحاني ومحي الدين الخياط ومصطفى الغلاييني.
بيروت هي التي نزل على أهلها، على كرام، الأستاذ الإمام محمد عبده (رضي الله عنه) وأملى فيها رسالته البليغة في التوحيد بل معجزته.
في بيروت تثقفت واهتديت واتبعت داعي الإسلام والعربية والوطنية، وجيت جنديا م جنود سيدي (محمد بن عبد الله) عليه صلوات الله.
المدرسة البطريريكية للروم الكاثوليك مدرستي.
ضوت لي بيروت عن طريقي فمشت، وهدتني بيروت هداها فهدبت، ورحت أقول في قصيدة:
حنانيك ياربعاً به نلت منيتي ... وأبعدت في الشرق الخطير لي الذكرا
إذا الناس ضلت في مجاهيل غيها ... وساءت مساعيها فلا تعرف البرا
فأني بأرض الشام أخدم أمتي ... وأرجو لها في كل واقعة نصرا
أخوض غمار الكون بالعلم والتقى ... ولا أسال القوم العظام لي الأجرا
بيروت مدينة تهذيبي.
والعربية هي التي يقول فيها النشاشيبي:
اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. وكل قبيل حريص - وقد كان في هذه الدنيا - جد حريص على أن يستمر كونه، وعلى أن لا يبيد، فهو مستمسك بلغته للاحتفاظ بكينونته. واللغة ميراث أورثته الأباء الأبناء، واحزم الوراث صائن ما ورث، واستفهم في الدنيا مضيع.
وأنا أمم اللسان الضادي - لعرب، وإن لغتنا هي العربية وهي الإرث الذي ورثناه، وأنا لحقيقيون والآباء هم الآباء واللغة هي تلك اللغة بان نقي عربية الجنس وعربية اللغة، نقي العربيتين مما يضيرهما أو يوهنهما.
ولو كان الموروثون صغارا ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه، فكيف والتاريخ يقول: أن الآباء كانوا اكرما، وإن الآباء كانوا عظاما. وكان لهم الخلق المتين الجيد، وكان لهم السلطان القوي والسؤدد، وكانوا الأئمة في العلم وكانوا الأئمة في الحكمة. فاقرأ كتب علمهم، واقرأ كتب حكمتهم.
والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع) وإنها لخير طرفة أطرفتها الناس، والزمان، والزمان بالخير - وإن جاد - شحيح. فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية هي الدرة اليتيمة أو كنز الزمان ضن به كل الضن ثم سخا.
وإذا كان للنفوس العربية في الجزيرة وهي نفوس تجسمت من القوة أو تكونت منها القوة، وهي نفوس تعالت وتعززت فنشأت في الدنيا ألفاظ العلو والعزة وهي نفوس صفت وصرحت، وما صفاء سواها وصراحتها إلا كدر ولبس - إذا كان لهذه النفوس فضل على لغتها إذ كانت منجمها الذي نشأت منه بدت فلهذه اللغة البينة المحكمة فضل على تلك النفوس، فقد أعطى بيان اللغة وإحكامها أهل اللغة ما أخذته منهم، وقد احسن الألماس المشع إلى منجمه، فهذا كون ذاك، وذاك نور هذا.
وإن العربية لو لم تكن الإبداع كله ولو لم تكن الجمال الأجمل، ولو لم تكن اللغة المصطفاة، ولو لم تك لغة عجبا، ما اختارها الدهر لقرآنها و (الله اعلم حيث يجعل رسالته) ولم تستطع ألفاظها الاستقلال بمعانيه، وكل معنى فيه يأبى أن ينزل إلا في اكرم لفظ، وكل مقصد من مقاصده لا يقبل إلا اعجب أسلوب. ولن ينزل أهل السماء إلا في ذروة العلياء. و (الكتاب) - وان علا - حتى أظل (سدرة المنتهى) قد أدناه وقد جلاه نور بيانه حتى أرانا إياه، والشمس قد علت وقد ابتعدت، وهل يحي وهل يضئ هذي الأرض إلا الشمس.
ويقول النشاشيبي في رثاء كبير عراقي في خطبة:
قالوا: ابكه وإلا غضبت عليك عربيتك.
أعوذ بمحمد، أعوذ بالعربية من غضب العربية.
وهي لي في حياتي ومماتي إلا هي؟
وهل معتصمي وشرفي ومجدي في الوجود غير عربيتي؟
وهل سموت وكرمت عند العظماء وعند الفضلا وعند الملوك إلا بها؟
أنا لا اشتري برضاها هذي الدنيا بحذافيرها (استغفر الله) ولا الآخرة.
أعوذ بالعربية من غضب العربية.
أنا خادمها، أنا اعبدها، أنا عبد لغتها، أنا عبد قرآنها، أنا عبد محمدها.
أنا سيد لكل حر سيد بهذه العبودية.
أعوذ بالعربية من غضب العربية.
وقد شاء في هذا الشهر حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية (الشيخ بشارة الخوري) ووزيره الأكبر حضرة صاحب الدولة الأستاذ (رياض الصلح) وحكومته، وحضرة أمير النثر والناثرين وسيد البلغاء صاحب (الرسالة) الأستاذ (أحمد حسن الزيات) أن يعطوا خادما من خدام هذه العربية - وهو الذي تلوت قوله آنفا - (وسامين) فأعطوه. واليقين كل اليقين انهم نظروا إلى إخلاصه في حبها لا إلى مقدرته؛ فالرجل عند التحقيق ليس هناك، وهو صاحبي، وأنا من اعرف الناس به، والمنصف يقول الحق ويقضي بالعدل ولو على نفسه (يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم).