مجلة الرسالة/العدد 726/تعقيبات
→ أعلام معاصرون | مجلة الرسالة - العدد 726 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 02 - 06 - 1947 |
بين العامية والعربية:
تقدم الأستاذ محمد فريد أبو حديد عضو المجمع اللغوي وعميد معهد التربية إلى المجمع ببحث مطول عن موقف اللغة العامية من العربية الفصحى عرض فيه لخصائص العامية ومالها من الآثار الجميلة في معارض الكلام كالزجل والموشحات والقوما والدوبيت، وتناول ما كان لها من تطور في الشرق وفي بلاد الأندلس ثم في باقي الجهات الأخرى، وانتهى منذ ذلك إلى القول بوجوب دراسة العامية ولاهتمام بها ووضع الوسائل للتقريب بينها وبين الفصحى حتى تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام.
وليست هذه الدعوة التي يرتفع بها صوت الأستاذ أبو حديد اليوم بالامر الجديد، ولعلها دعوة قديمة بالية ارتفع بها الصوت في مصر منذ أكثر من خمسين عاما، وثارت فيها عجاجه الكلام واشتجرت حولها أقلام الباحثين، وقد استطاع أساتذة ذلك الجيل أن يصفوا حسائها وأن يفرغوا من تنفيذها وأن يأتوا في ذلك بما لا مزيد علية.
كان رأس تلك الدعوة رجل إنجليزي موظف في مصر يدعى (ويلكوكس)، وكان هذا الرجل داهية، درس اللغة العربية، واللغة العامية أيضاً وكان عمله الأصيل في شئون الري والصرف، ولكنه أثار بين المصريين الدعوة إلى العامية بحجة أنها لغة الكلام، وإنها قريبة منن الإفهام، ومن العجيب إن ذلك الرجل أنشأ مجلة يوم ذاك سماها (الأزهر)، وكان يصطنع الغيرة على العربية كان يحاول أن يسدد الطعنه النجلاء إلى العربية والى الإسلام والى المصريين.
وبيننا كثيرون يذكرون أن الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا كان له مجال في معرض تلك الدعوة، فقد كتب مقالين في (الجريدة) أيام كان يقوم على تحريرها يدعو فيهما إلى تمصير اللغة، فانبرى كثير من الباحثين لمناقشة دعوته وتفنيد حجته، وكان الرجل قد اقتنع بما بدا له في معرض المناقشة إذ سكت عن تلك الدعوة إلى اليوم، بل لقد وقف بعد ذلك يدعو إلى الفصحى ويحبذها في عدة مناسبات. . .
وأنا في الواقع لا أدرى ماذا يريد الأستاذ أبو حديد بالتقريب بين العامية والعربية، وماذا يقصد بان (تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام)؟! إن موضوع القضية باطل، لأننا إذ نقول العربية فإنا نقصد إلى لغة موحدة الألفاظ والدلالات عند جميع أبناء العربية والذين ينطقون العربية، أما العامية فإنها تتوزع في الألسن إلى لهجات عديدة بل إلى لغات تختلف فيها الألفاظ ودلالاتها إلى حد كبير، ليس في الأقطار العربية فحسب، بل في القطر الواحد منها، وأظن الأستاذ يعلم الفرق الكبير بين شمال مصر والعامية في جنوبها، فأية عامية من هذه كلها يريد أن يتخذها أساسا تلتقي به لغة الكلام م لغة الكتابة.
في جميع أمم الدنيا لغة للكلام ولغة للكتابة، ويوم أن كانت اللغة العربية في أهلها فطرة وسجية كانت هناك لغة للكلام ولغة للكتابة. انه رأى غريب مريب، يعود فيرفع رأسه بعد أن قطعه أستاذه الجيل السابق. والعجيب أن يحفل المجمع بهذا الرأي الذي لا طائل تحته وأن يأمر بطبع هذا الكلام لبحثه وإبداء الرأي فيه، كان هذا المجتمع قد فرغ من أداء واجبه نحو العربية فما بقي علية إلا العناية بالعامية. ومن يدري لعل الشيوخ الإجلاء يقترحون ان يكون اسم مجمعهم (مجمع اللغة العربية والعامية)!!
بشار وروزفلت وزكي مبارك:
يبدو صديقنا الدكتور زكى مبارك في كتاباته التي يكتبها في هذه الأيام على نهج جديد، وطريق كثير الدروب والتعاريج، فهو يكتب كما يتحدث، وهو لا يرتبط مع القارئ بوحدة الموضوع ولكنه يستطرد ثم يستطرد، فيخرج من كلام إلى كلام، ويورد كل ما يبدو من الروايات والذكريات، وهو في هذا يعتمد على الذاكرة اكثر مما يعتمد على المراجعة، والذاكرة مهما كانت قوة وحفظا لا تصدق صاحبها في كل الأحيان.
وطريقة تشقيق الكلام والاستطراد هي الطريقة التي ابتدعها وآثرها كانت العربية الكبير شيخنا أبو عثمان الجاحظ، وليس من قصدي أن استطرد بالقارئ إلى الحديث عن هذه الطريقة، ولكنى أريد هنا أن أشير إلى مقال قرأته للدكتور يوم الثلاثاء الأسبوع الماضي في جريدة (البلاغ) فوقفت فيه على روايتين جديرتين بالتصحيح تقديرا للأدب وإكراما للتاريخ.
ما الأولى فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن شهر كانون:
(وكان الشاعر بشار بن برد متهما بالزندقة، فأراد أحد الصوفية أن يحبب إليه الإيمان فقال: إن للمؤمن الصادق في الجنة غرفة عرضها ألف ميل وطولها ألف فرسخ، فقال بشار: هي إذن أبرد من كانون الثاني)، وليست الرواية هكذا، ولكنهم قالوا: (ومر بشار بقاص فسمعه يقول: من صام رجبا وشعبان ورمضان بني الله له قصرا في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها، وكل باب من أبواب بيوته ومقاصيره عشرة فراسخ في أمثالها: فالتفت بشار إلى قائده وقال: بئست والله هذه الدرا في شهر كانون الثاني). . . وإذن فلم يكن هناك صوفي يعظ بشارا بهذا الكلام الملفق، وقد كان على الدكتور، وهو مؤلف في التصوف، أن يتحرى الرواية من هذه الناحية فضلا عن الناحية الأدبية. . .
هذه واحدة. . .
أما الثانية فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن الشيخ على يوسف صاحب المؤيد: (وكانت للشيخ على وقفة جريئة في وجه الرئيس روزفلت جد الذي كان رئيس جمهوريات الولايات المتحدة قبل سنين، وخلاصة القصة إن روزفلت زار أسوان واظهر عجبه من أن يتمجد المصريون بقصر انس الوجود. فثار شوقي الشاعر فنظم الضادية وفيها يقول:
شاب من حولها الزمان وشابت ... وشباب الفنون ما زال غضا
وثار الشيخ علي يوسف فشواه بمقالة في جريدة المؤيد. . .)
وليست القصة هكذا ايضا، ولم يكن الأمر أمر أنس الوجود، وإنما القصة أن روزفلت زار السودان وخطب في أحد المعاهد المسيحية هناك فإنهم المصريين بالتعصب الديني، وأشاد بأيادي الإنجليز على تقدم مصر، ثم دعا المصريين إلى ترك التشدق بالقديم البالي والنظر إلى إصلاح حالهم الراهنة، فكان أن غضب المصريون لأنفسهم، وثاروا عليه ثورة عنيفة في دفع تلك الافتراءات التي كان روزفلت يردد فيها كلام المعتمد البريطاني، وكان الشيخ على يوسف ممن حركوا القلم في هذه الثورة، وكان شوقي يوم ذاك موظفا ولكنه خرج عن دائرة (الموظف) كما يقول ونظم قصيدته الضادية في تمجيد حضارة الشعب الذي كفر به روزفلت وقدم لتلك القصيدة بمقدمة قال فيها: (قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا، فأنصفت العصر، وانتقصت مصر، واقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وساسة المماليك أمثاله، فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب؛ في هذا الشعب، ومن حرمة العواطف السامية، ألا تطارد كأنها وحوش ضارية).
إلى آخر تلك المقدمة التي تعتبر آية من آيات شوقي الخالدة.
وثر حافظ إبراهيم أيضا، وتناول رزوفلت بقصيدة من قصائده الوطنية النارية، ولكن هذه القصيدة لا توجد في ديوانه الذي طبعته الوزارة، وقد سبق أن نشرتها في (الرسالة) مع بعض القصائد والمقطوعات المنسية لحافظ إبراهيم. . .
هذا أمر يهمنا:
تنشر جريدة (المصري) سلسلة من التحقيقات الصحفية عن الحالة في بلاد المغرب الأقصى قام بها الأستاذ إبراهيم موسى الصحفي المعروف، وقد عرض الأستاذ في كتاباته إلى الحديث عن الحياة الثقافية وما يفرض عليها من الحجر الاستعماري في تلك البلاد فقال: (ووجدت مع أحد الزعماء كتبا مصرية قديمة من النوع المستعمل وكانت عليها كتابة تدل على أنها لرجل آخر في طنجة من ثلاث سنوات، وكان الزعيم المغربي شديد الفرح بها وقد دهشت حين علمت أن سبب فرحه هو إنه هربها معه من طنجة لأن الفرنسيين لا يسمحون بدخول الكتب العربية إلى المغرب إلا إذا كانت توافق مزاجهم وقليلا ما يجدون ما يلائم هذا المزاج الرقيق. . .)
ثم قال الكاتب: (وقال لي هذا الزعيم انك لا تتصور مقدار العذاب الذي يعيش فيه رجال الصحافة والعلم في هذه البلاد إذ لا ينشر كتاب ولا صحيفة بدون رقابة وكثيراً ما تخرج الصحف ونصف صفحاتها بيضاء وقد كتب عليها - حذفته الرقابة - بل لا يمكن أن يقبل كتاب في مطبعة قبل تسليم النسخة الأصلية إلى الرقابة وحدث مرة أن الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله المحرر بجريدة العلم وضع كتاباً في الجغرافيا فبقيت النسخة الخطية في الرقابة سنتين - نعم سنتين - بقصد التعطيل ثم افرج عن الكتاب بعد تعديلات ومساع كثيرة ومن أمثلة هذه التعديلات انه كان في الكتاب فصل اسمه (المغرب في عهد الاستقلال) ويقصد الكاتب بذلك العهد السابق للعهد الفرنسي فأصرت الرقابة على تغيير العنوان إلى - المغرب قبل الحماية - ولما رضى المؤلف بذلك سمحوا بطبع الكتاب. .)
قلت: وهذه حال تهمنا فمن الواجب على رجال الأدب والعلم وحملة الأقلام في مصر وفي جميع العالم العربي أن يفزعوا لها وأن يقفوا منها موقفاً حازماً لأنها مصادرة للحياة الفكرية. ومصادرة للكتب العربية وجميع الآثار التي تخرجها حتى لا تجد طريقها إلى تلك البلاد الشقيقة. . . . .
نعم أن من الواجب على الجامعة العربية أن تفزع لهذه المسألة ضمن ما تعنى به من الحالة القائمة في المغرب الأقصى وضمن ما تعنى به من الشئون الثقافية العامة في البلاد العربية، ولكن علينا نحن أن نفزع لهذه المسألة بالذات لأنها مسألتنا ومسألة الثقافة العربية والأمر فيها يسير علينا إذا حزمنا لها الرأي والأمر، وذلك بأن نعمد إلى مقاطعة الكتب الفرنسية في جميع الأقطار العربية ما دامت فرنسا تقصد إلى منع الكتاب العربي من الدخول إلى أي قطر من الأقطار التي تقع تحت نفوذها فإذا عمدنا إلى هذا صادقين فستكون فرنسا هي الخاسرة وستضطر اضطراراً إلى النزوع عن تلك الخطة الشنعاء.
فهل أنتم يا أبناء الثقافة العربية ويا حملة الأقلام فاعلون غضباً لكرامتكم ورعاية لمصلحتكم؟؟
(الجاحظ)