مجلة الرسالة/العدد 726/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 726 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 02 - 06 - 1947 |
الوالدان
للكاتب الألماني رودولف كرودزر
بعد أن أحيل القاضي هجونوير إلى المعاش اشترى قطعة أرض في الريف واعتزل حياة المدينة التي كانت مسرحا لآلامه وهمومه حيث توفيت زوجتهه قبل الحرب، كما ان ولده الوحيد أنتظم في سلك الجندية وذهب إلى الميدان دون رجعه ولم يعد يؤنسه في وحدته الآن إلا خادمة العجوز.
مضت عشرون عاما وبدا الماضي يمحي بصورة المحزنه من مخيلة الرجل ونفض عنه أعوام مضت قاسي فيها الأهوال ولكن الماضي جاء يقرع بابه بقوة يلح في الدخول.
كان ذلك في يوم من أيام أغسطس وكان القاضي واقفا في حديقة داره بين الأوراد الجميلة التي يتعهدها بنفسه حين جاءته الخادم ومعها بطاقة باسم رجل إنجليزي يدعى جيمس مارلو من جلوسستر. أما حرفته فلم يكن لها ذكر في البطاقة.
لم يعرف الرجل من يكون ضيفة وذهب إليه في حجرة الاستقبال فتقدم الإنكليزي في أدب جم واحترام زائد وهو يقول في همس بأنه سعيد لتشرفه بمعرفة والد الكابتن فرانز هجنوير؛ فدهش القاضي. من أين عرف ذلك الرجل اسم والده؟ ولما أخبره هجنوير بأن ابنه قد توفى في الحرب وكست وجه الرجل الغريب السبعيني الطويل القامة موجه من الحزن والأسف لأنه شعر بآلام الذي ارتسم على وجه القاضي لتجديده تلك الذكرى الحزينه اعتذار من ذلك ثم أوضح شخصيته. فهو والد ضابط إنجليزي يدعى هارلو مارلو، وإن كان فرانز قد مات في الحرب بطلا شهيدا، إلا أن هاري مات بعد أن حوكم عسكريا لما أبداه من جبن أمام العدو وبعدما جردوه من رتبه الشريفة.
قام الرجل العجوز المتهدم وقطع الغرفة جيئة وذهابا وهو يشرح كيف استنكر ذلك من ولده وإلا لغدا أشرف عائلة مارلو في التراب. حاول أن يعرف السبب الذي حوكم ابنه من اجله، لانه عاد منفردا إلى فرقته بينما كان بقية جنوده يقاتلون في الميدان؟ لقد ظل أمر عودته سرا مكتوما بينه وبين نفسه ولم يكتشفه أحد.
هذه هي المشكلة. انه يعرف ولده جيدا فهو شجاع إلى أقصى حدود الشجاعة، ولا يظنه على ذلك الجبن والخور. جعل يبحث عشرين عاما ليقتنع بان ولده لم يفعل ذلك إلا لسبب جوهري عظيم، ولكنه كان يقابل دائما من الناس بالشفقة والرثاء لتقدم سنه وبإجابات كلها سلبيه؛ فلم يرتح إلى جواب منها يشفى به غليل نفسه. لقد ضحى ماله وكهولته ليعرف السر ولكن دون جدوى إلى ان طرق الباب علية أخيرا فرانز هجنوير. فقد سمع اسمه من جندي إنجليزي قال بان أسيرا ألمانيا مات قبل نهاية الحرب كان دائم التحدث عن الكابتن هجونير الذي كان يقاتل في سالي في اليوم الثامن عشر من أكتوبر عام 1916 في معركة السوم.
حينئذ تذكر القاضي بأن خطابا غربيا كان قد وصلة من ابنه ذلك الحين فقام واتى به كان مؤرخا في التاسع عشر من أكتوبر عام 1916 في بلدة سالي وقرا مارلو الخطاب وكان فيه:
والدي العزيز
اكتب إليك الآن لا لأذكر لك شيئا عن شجاعتي في الميدان أو كيف استولينا على حصن من حصون العدو بل لأطلعك اليوم على حادث غريب. فلقد هاجمنا الأعداء وتمكنا من التقدم في صفوفهم. وكان ضابطهم شابا شجاعا من فرقة جلوسستر جعل يقاتل حتى نفذ منه الرصاص، ولما وجدته اعزل هجمت علية وكدت اقتله إلا أن أحد جنوده دفعني على الأرض؛ وحينئذ تيقنت باني سأموت وأغمضت عيني وأنا أسلم أمري إلى الله. إلا أني حين فتحتهما وجدت ذلك الضابط وقد ألقى بسلاحه ولم يرغب في قتلي وأنا فاقد الحيلة. ولما حاول أحد جنودي قتله من خلفه أنقذته وتمكنت أن أدعه يفر من الأسر. وبذلك خنت زملائي وجنودي ووطني كما فعل هو من قبل. . .)
وضع الرجل الإنجليزي الخطاب بيد مرتعشة وحل الصمت بينهما طويلا ثم قفزت تلك الصورة أمام القاضي. ولده يكاد يشرف على الموت لولا شفقة ذلك الضابط الإنجليزي ورحمته له. كما تراءت له خيانة ولده ومساعدته لعدوه على الفرار. واختلط كل شئ في رأسه وسط ذلك الظلام الذي بدا يغمره الحجرة التي لا ينيرها سوى تلك الذؤابات الباقية من الشموع.
كان للجو الغريب الذي عاش فيه الرجلان في تلك اللحظة كل الرهبة. فها هو الخطاب ملقى على المكتب وقد اصفرت أوراقه، وها هي الذكريات تتعاقب على مخيلتهما؛ وهاهما ولداهما قد عادا إلى الحياة وارتسمت صورهما واضحة أمام عينهما. صورة البطولة والشجاعة والإقدام والشفقة والرحمة والخيانة العظمى.
شعر الرجلان بأنهما يجهلان كل شئ عن الحرب مع أنهما عاشا في لهبها أربعة أعوام. ولكن هل هذا الذي حدث يعد عملا شريفا أو تشتم منه رائحة الجبن والخيانة حقا؟ هل للحياة تلك المنزلة الغالية في الميدان حتى أن ضابطا يلقي بسلاحه حين يجد عدوه فاقد الحيلة أمامه. . . إنهما لا يعرفان شيئا عن قانون الإنسانية والشباب والحياة. أما القاضي فكل ما يذكره الآن هي تلك الكلمات الأخيرة من خطاب ولده.
(لقد ارتكبنا خطا واحدا بأن ألقينا سلاحينا).
انتشر الظلام في الحجرة ولم يقو أحدهما على إنارتها لأن تلك الذكريات البعيدة وذلك الصوت الذي يتكلم من وراء السنين يجب أن يهيأ له الجو الصامت المظلم حتى تسبح روحهما في ذلك العالم حيث فلذتا كبديهما.
امتدت خيوط القمر المكتمل قرصة وأنارت أجزاء من الحجرة كما نبح الكلب وتمايلت أغصان الشجر إلا إنهما لم يشعرا بكل ذلك، بل كان علمهما الذي يعيشان فيه بعيدا حيث الظلام النار والدخان والدماء.
وأخيرا قال مارلو. أذن لم تكن تلك الحياة التي وهبها الكابتن هجنوير إلى ولدي بل كانت الطريق إلى الموت بمحض إرادته، كما أن حياة هجنوير لم تكن إلا قرضا سرعان ما استعادته قوة غاشمة.
فقال القاضي: نعم هو ذلك الأمر
ولم يشعر إلا وهو يضع في يده الرجل الذي أمامه وكأنهما صديقان قديمان عزيزان. وعاد يقول لعل هناك شيئا من العدل يغشى في ذلك الحادث. العدل الذي لا نعرفه ونحن في دنيانا، والذي يشعرون به هم في ميدان القتال.
فقال مارلو: وتلك المحاكمة. أكانت عادلة؟
فقال القاضي: أما عن المحاكمة فإن ولدك هو الذي حكم على نفسه ولا يدري أحد ان كانت عادلة أو ظالمة وكان الرجل قد اقتنع بذلك الرأي. فنهض واقفا وهو يطيل النظر في وجه القاضي الهادئ.
كان السكون يعم الكون في الخارج، والنسيم يهب رقيقا، ورداء الليل الأسود يغطي الطبيعة فيزيد أسرارها رهبة؛ ولمح القاضي بعض التغير يطرأ على وجه ضيفة. وكأنه شعور الراحة بعد طول عناء.
وأخيرا قال القاضي: أنا لم أفهم لم لم يصرح مارلو بالأمر حين حوكم فهو محق بعض الحق فيما فعل.
لم يشعر الرجل الإنكليزي إلا وهو يتناول الخطاب ثانية، وأدرك القاضي للتو الكلمات التي يقرؤها الرجل فإذا به يهمس بها تلك الكلمات العذبة الصادرة من قلب يشعر بما للحرب من أهوال وفظائع، وكان نيرانها قد اشتعلت في أفق يومهما ذاك. كلمات ولده التي تقول (لم أر في حياتي من هو أكبر إقداما وأكثر شجاعة من ذلك العدو الشاب).
كفى مارلو تلك الكلمات وليحاكموه ما شاءوا. كفاه فخرا شهادة مثل هذه من عدوله لدود. عاد السكون بينهما إلا أن القاضي قال:
إنه لمن دواعي سروري حقا أن أضع بين يديك ما يزيل عنك وحشة وشكا مريبا عشت رحمتهما عشرين عاما كاملة، ولا أظن أحدا يمكنه أن يتهم ولدك بالجبن والخوف بعد الآن. فلمعت عينا الرجل برغبة حادة شعر بها القاضي فإذا به يقول:
لتأخذ ذلك الخطاب ولتفعل به ما تشاء.
فما كان من الرجل الإنجليزي إلا أن نهض واقفا وأمسك بالخطاب ثم أدناه من لهب الشمعة فاشتعل وسرعان ما تساقط الرماد. حدث ذلك وهما باقيان على صمتهما ونور القمر يرافقهما.
ولم يشعر إلا ويد كل منهما في يد الآخر. فقاما في صمت إلى الحجرة المجاورة وقد اشتبكت ذراعاهما. وأدار النظر فيها فقابلتهما صورة الكابتن هجنوير بقامته المديدة وابتسامته العذبة.
حسن فتحي خليل