مجلة الرسالة/العدد 725/أعلام معاصرون
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 725 أعلام معاصرون [[مؤلف:|]] |
الأدب والفنّ في الأسبوع ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1947 |
محمد عبد المطلب
للشيخ محمد رجب البيومي
يرى المتجول في مديرية جرجا قرية (باصونة) الصغيرة، حل بها لفيف من العرب الخلص الذين ينتمون إلى قبيلة جهينة وهي إحدى القبائل العريقة التي نزحت من الجزيرة العربية إلى مصر في حقب مختلفة وما زالت تنتقل في ربوع الوادي حتى استقر بها المقام في أعلى الصعيد
ومنذ ثمانين عاما كان بهذه البلدة الهادئة بيت مرموق المكانة يقصده الوافدون للتبرك بصاحبه الصوفي الزاهد (عبد المطلب واصل) فهو شيخ وقور تنتظم في بيته حلقات الذكر وتهب لديه النفحات الروحية الصافية، ثم هو عالم متفقه في دينه يعظ الناس كل مساء بما وعاه من الكتاب والسنة، فيهز أوتار القلوب. ويأخذ بمجامع العقول، هذا إلى عربيته الخالصة ونسبة الصريح.
ولد شاعرنا الكبير سنة 1870 في هذا البيت الطيب، فتربى تربية دينية قويمة. وطبع منذ نعومة أظفاره على الخلال العربية الحميدة، وطبيعي أن يسلمه والده إلى معلم القرية فيحفظ القرآن الكريم، ويلم بقواعد القراءة والكتابة، حتى إذا فرغ من ذلك أمكنه من الفقه الإسلامي والحديث النبوي فارتشف ما قدر عليه من معينهما الرائق، ثم أنس من نفسه المعرفة فجلس يعظ الناس مكان والده، وهو يعد في مبدأ العقد الثاني من حياته الزاهرة، فكان من يسمعه في هذه السن الباكرة يؤخذ بلباقته الفائقة، ويدعو له بالنجاح والتوفيق.
وكان العارف بالله الشيخ إسماعيل أبو ضيف شيخ الطريقة يزور مريده (عبد المطلب واصل) في (باصونة) من حين إلى آخر، فشاهد نجله الصغير يعظ الجمع الحافل كعادته، وهو لا يزال طري الأملود غض الإهاب، فتوسم فيه النجابة والذكاء، وزاد به إعجابه فعرض على والده أن يصحبه إلى القاهرةحيث يرتشف العلم الغزير من منهله الرائق بالأزهر الشريف، وكانت فكرة حميدة تلقاها الوالد بالترحاب والقبول، ولم يمض زمن وجيز حتى كان الواعظ الصغير طالباً بالأزهر يقضي فيه بياض نهاره، فإذا جنه الليل توجه إلى منزل حاضنه الشيخ إسماعيل فلازمه حتى الصباح.
وإذا كان الفتى قد شهد مجالس التقوى في صورة مصغرة عند والده بالصعيد فانه في منزل حاضنه الأكبر الشيخ أبى ضيف يرى الصورة المكبرة لهذه المجامع العامرة، ويستمع إلى القصائد الصوفية التي تنشد في الحلقات كل ليلة، فيحس لها رنيناً مشجياً يدعوه إلى تفهمها واستظهارها حتى كونت لديه ملكة حساسة تطرب للتوقيع الجميل، وتتذوق المعنى الرائع، ومهما يكن من شيء فقد كانت هذه المقطوعات الصوفية أول حافز دفعه إلى الانكباب على الدواوين الشعرية في ميعة صباه يستوضح غامضها ويتفهم معانيها حتى خلقت منه فيما بعد شاعراً فحلاً جزل العبارة فخم الأسلوب!
ولقد كان الطالب الأزهري مبرزاً بين لداته، مشمولاً بعطف أساتذته ومشايخه. إذ أن المبادئ الفقهية التي حصلها عند والده قد مهدت له أسباب التفوق والنبوغ، ودفعته إلى التحصيل في لذة وشوق، فاخذ يستوعب كل ما يلقى عليه أتم استيعاب حتى نضج عقله في مدى سبع سنوات قضاها في الأزهر المعمور، ثم هو لا يكتفي بما يأخذه من دروس قيمة في اللغة والدين بل رتب لنفسه جزاءاً خاصاً من رائع الشعر العربي يحفظه يوماً بيوم، حتى خرج من الأزهر إلى مدرسة دار العلوم سنة 1892م وعنده من غرر القوافي ثروة ثمينة ساعدته على النظم في مختلف الأفانين الشعرية، وجعلته يثق بنفسه ويعتد بملكته اكمل اعتداد.
ولقد هيأت له الظروف في سنته الأولى بدار العلوم فرصة طيبة لمع فيها نجمه، فقد وقف يرثي فقيد المعارف علي باشا مبارك في حفل عام أقيم لتأبينه فأتى بالرائع المعجب من الأبيات الرصينة، وخرج أساتذته وزملائه الذين سمعه ينثرون عليه أكاليل الثناء، ويضربون به المثل في قوة الشاعرية وصفاء القريحة، مما حفزه بقوة إلى الإطلاع الدائب، والإنتاج الثمين.
وكان المرحوم الأستاذ الشيخ سليمان العبد إذ ذاك مدرساً في دار العلوم وله ميل شديد إلى النظم. فكان لا ينشئ قطعة إلا عرضها على تلميذه مستنيراً برأيه أمام زملائه، وكثيراً ما ينزل على إرادته فيحذف ويثبت كما يملي عليه تلميذه الناشئ، فإذا ما نشر قصيدته - وكان دائماً يكتب في الوقائع المصرية - قرأها على تلامذته معترفاً بما لعبد الطلب من أثر جميل.
قضي الشاعر أربع سنوات في دار العلوم وتخرج منها في سنة 1896 متوجاً بالنجاح، فنجا من قيود الدراسة التعليمية، وهي كما نعلم - محصورة في علوم خاصة ومناهج محددة، قد لا يكون للشاعر في بعضها رغبة ملحة أو حاجة ماسة، أما الآن فهو حر فيما يقرأ ويدع، وهنا نجد عبد المطلب قد عكف على الكتب الأدبية القديمة يستخلص لبابها ويستظهر أشعارها، ويروى أخبارها، ومن حفظه أن عين مدرساً بمدرسة سوهاج الابتدائية وبها يومئذ صفوة مختارة من عشاق الأدب ورواد المعرفة، أذكر منهم المرحومين الأستاذ عبد الرحمن قراعه، وعبد الله بك الطوير وعلى بك الكيلاني، فنشأت بينهم وبين الشاعر صداقة وليدة تعهدها الأدب بمائه العذب حتى غدت دوحة مورقة وارفة فكانوا يعقدون مجالس السمر الأدبي حافلة بالنادرة الطريفة والملحة البارعة، فإذا جاء دور الشعر فمحمد روايته الفذ وصناجته الحكيم، وكثيرا ما يقترحونعليه أن ينظم في معنى معين فيتحفهم بما يريدون مستعينا ببديهته المواتية وقريحته المتوقدة، وكان الشيخ قراعة أحبهم إلى قلب شاعرنا المجيد، وانك لتجد في ديوانه قصائد عديدة ممتازة قالها في صديقه الوفي تنطق بالود الخالص، وتنبئ عن الحب الأكيد!. .
ولقد نظم الشاعر في هذا العهد طائفة محمودة من الشعر السهل الواضح تتناسب مع تلامذته في المدرسة الابتدائية، فجذبهم إلى الشعر يتذوقونه ويحفظونه بعد إن كانوا لا يجدون منه غير المغلق المستعصي على مداركهم الناشئة مما خلف الأولون، فكان عبد المطلب بهذا أول من خط الصحيفة الأولى في كتاب الشعر المدرسي في وقت صدف فيه التلاميذ عن كل ما يتصل إلى العربية بسبب. وانك لتقرأ أبياته في ذلك، فتراها جليلة الغرض، رائعة المغزى، سهلة التناول، سلسة النسج كأن يقول
إن كنت تبغي المعالي ... فالعلم أهدى سبيلا
فأحقر الناس من قد ... طوى الحياة جهولا
تراه بالجهل يمشى ... بين الأنام ذليلا
نحن الذين اتخذنا ... نور العلوم دليلا
لعلنا في المعالي ... بها نجر الذيولا
وهو لا يكتفي بحثهم على العلم في هذا النسق الجميل، بل بجذبهم إلى الأدب بنوع خاص فهو عنده كل شئ في الحياة، اسمعه حين يصف لتلامذته القلم فيقول
إذا اهتز في طرسه معجبا ... أذل شعوبا وأحيا شعوبا
فيسعد قوم به تارة ... وقوم به يصطلون الخطوبا
وطوراً تراه يفض الجموع ... وطوراً تراه يثير الحروبا
وطوراً ينادى الورى سائلا ... وطوراً يرد عليهم مجيبا
وفي ديوانه مقطوعات عامرة من هذا الطراز الرقيق، ويقيني أنه أول من حفز صديقه وتلميذه الأستاذ الهراوي إلى سد هذا الفراغ في الأدب، فنظم ما نظم من شعر الأطفال ترضية لأستاذه الحبيب.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي