مجلة الرسالة/العدد 723/القصص
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 723 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 12 - 05 - 1947 |
الاختيار الذي كسر قلبي
معربة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي
(ماذا يجب أن تعلم المرأة إذا هي ووجهت بهذه المشكلة؟ بل ماذا تستطيع أن تعلم؟ وهل هناك قانون يحدد الصواب والخطأ تستطيع أن تسترشد به؟)
سألتني صاحبتي، بعد أن خرجنا من دار السينما على أثر مشاهدتنا الرواية القوبة (أنا كارنينا)
- كيف استطاعت ذلك؟ لقد كانت القصة رائعة حقا وقد مثلت تمثيلا مدهشا، ولكنني لا أتستطيع أن أصدق أن أية أم يمكن أن تتخلى عن طفلها جريا وراء رجل ما، بلغ حبها ذلك الرجل ما بلغ من عنف ومن يأس!
فلم أقل شيئا تعقيبا على كلمات صاحبتي، ولكن يدي المخبأتين في قفازيهما تشنجتا وانطبقت شفتاي انطباقا محكما، ومن أين لها أن تبين ذلك الألم الصامت الذي يمزق صدري ويلهب رأسي، فالنساء اللواتي يجتمعن في الشرق الأقصى ويتحدثن ويشربن يصطنعن الصداقة ولكن لأغلبنا أسرارا يحتفظن بها في أعماق قلوبهن لا تستطيع هذه الصداقة المزعومة أن تفض خاتمها.
لقد تزوجت من (روني كوبلرن) لأنني كنت أحب (تيد بورتر) حب جنون ويأس. وليس لهذا التصرف من معنى معقول، على أن أشد من هذا بعدا عن كل معنى معقول أن تيد كان يحبني وكان، بعد أن تنتهي السنوات الثلاث المفروض عليه أن يقضيها في الخدمة فيما وراء البحار، طليقا من كل قيد يحول دون زواجه مني. ولقد انتظرته سنتين من هذه السنوات الثلاث قضيتها في التلهي والتروض مع الشبان الآخرين، ولكنني احتفظت في أثنائهما بشفتي وجسمي وقلبي لتيد بعد عودته.
لقد كان ذلك آمرا شاقا علي، بعد أن نعمت سنتين بقرب (تيد) وجسمه وقبلاته وضمات ساعديه، ولكنني ظننت أنني أتستطيع تحمل هذه التجربة القاسية، لقد كان ذلك واجبا علي حتى أكون أهلا (لتيد) فلقد كان يحارب الوحدة وحرارة جو الحمي، لا يجد حتى فتاة تواسيه أو شرابا ينعشه، لقد كان (تيد) قويا، وكان الرجل الذي لا يحب غير امرأة واحدة - وكنت أنا هي تلك المرأة!
كان الله في عوني! فلم أكن أرغب في إنسان غير (تيد) ولكن لم يكن لي مثل قوته. وكان (روني كولبرن)، الذي قابلته في أثناء السنة الأخيرة من افتراقنا - إذ لم يبق غير اثني عشر شهرا يعود (تيد) في نهايتها إلى الوطن - كان روني هذا شديد الإصرار والإلحاح. وكان طروبا جذابا في أسلوب شيطاني. وقد صمم على أن أكون له. ولعل جريان دمي كان يزداد سرعة كلما دنا موعد رجوع (تيد) لذلك أصبحت لا أملك شعوري كلما لمسني (روني)، وحدث في ذات ليلة قضيناها في رقص وبهجة رائعين أن رجاني في توسل أن أسمح له (بقبلة واحدة) وإذ مال رأسي إلى الوراء شعرت بشفتيه تضغطان شفتي فكأنما كانت هذه القبلة طعاما قدم لجائع تقتله المسغبة.
ووقفنا هناك متعانقين في الشرفة وهو لا يفتأ يقول:
- ليس يضرنا إننا لم يعرف أحدنا الآخر إلا منذ شهر واحد. فهذا هو الحب ياعزيزتي (بام) وستتزوجين مني. . . في الحال.
وحاربت رغبته الملحة ثلاثة أسابيع كنت في أثنائها أتقي الاجتماع به ما استطعت، وقلت في نفسي إنني مجنونة حمقاء. ولكن غبية (تيد) قد طالت حتى إنني، ولو حننت إليه وعلى الرغم منكل ما كان بيننا، لا أتستطيع أن أذكر حتى ولا شكل وجهه. أما (روني) فكان قريبا مني، وكان شخصا حقيقيا أراه وألمسه وأشعر بوجوده وهل كان شيئا غير الحب ذلك الذي سرى في كياني سريان الكهرباء عندما ابتسم لي وأمسك بي؟
وانتصر (روني) آخر الأمر، وقضينا إحدى (العطلات) الأسبوعية مختفيين عن أعين الناس وتحت تأثير شعور لذ مبهج مخيف، أقسمت إيمانا لم أقصد إلى الوفاء بها، وكل ما كنت أعزي به نفسي فكرة يائسة سخيفة هي إنني إن كنت قد أخطأت فإنني أتستطيع أن أسترد حريتي بالطلاق. فكان كل ما حدث حلما جنونيا مرعبا، تدرج من دهشة الذين علموا بأمر زواجي، إلى قضاء شهر العسل في المسكن الذي استأجرناه خصيصا له، ثم بخروجنا أمام الناس متأبطين - فكان حلما خاطفا غير مكتوب له الدوام.
ولو يكن بد من أن أستيقظ من ذلك الحلم فأدرك إنني قد تزوجت من رجل غريب عني في كل شيء. لقد كان لطيفا يسر الإنسان أن يكون معه ولكنه لم يكن (تيد). ولقد كنت كذلك المرأة الوحيدة (لروني) أيضا ولكن على غير الطريقة العمياء المطوية على الوله والعبادة التي كانت تظهرني في عين (تيد) مثالا لكل شيء جميل.
ولم يلبث (روني) أن نظر إلى النظرة العادية إلى الشيء المألوف، لا يقبلني إلا نادرا إن خطرت له فكرة التقبيل على بال، وكان من النادر أيضاً أن يقول لي إنه يحبني، ولم يقصد قط النظر إلى ملابسي أو شعري، ولم يكن ليبدي له من الإعجاب ما تشعر كل فتاة بأنه من حقها الواجب أداؤه لها.
وفي كثير من المرارة والألم ذكرت كيف لم أكن لأبدل ملبسا أو أضع دبوسا في شعري دون أن يهمس (تيد) في دقة (يا للسماء يا حبيبتي كيف تستطيعين أن تنوعي جمالك بهذه الوسائل العديدة؟). وذكرت كيف كان يندر أن يتركني أغيب عن نظره، وكيف كان دائما إذا ما اجتمعنا لمس يدي أو شعري أو شفتي. . . يالها من ذكرى. . . فأواه يا تيد أواه. . . .
وبعد أسبوع واحد يصل (تيد) إلى الوطن وسيتجول في الطرقات المألوفة لنا في غير صحبتي ولعله يذهب لزيارة أمي، رافع الرأس متألما ومتذكرا - كما أتذكر أنا هنا في هذه البلدة الصغيرة في مقاطعة نور ثمبرلاند التي أخذني روني إليها بعد زواجنا.
لقد كانت الأزمة شديدة لذلك حمد (روني) الله إذ وفق إلى مركز كاتب في أحد الجراحات، وهو عمل صغير يتقاضى أجرا عليه ثلاثة جنيهات في الأسبوع، فاستأجرنا لإقامتنا مسكنا رخيصا وعشنا عيشة رثة. فأين الآن ما كنت أتوقع من حياة ساحرة
لقد أردت أن أعود إلى بيتي إلى أبي وأمي و (تيد) ولكن على الرغم من غضبي مما دفعني إليه روني ومن إهماله إياي بعد ذلك كنت أشفق عليه، فلقد كان نصيبه من قسوة هذه الحياة مثل نصيبي منها: فمن شجار بيننا إلى حياة الفقر التي نحياها إلى اضطراره للعمل الشاق ساعات طويلة من اليوم. وكنت إذ ذاك كل شيء له في الوجود.
إن الحياة لغز عسير الحل، فقد كان ألا أتزوج منه، وكان يجب ألا أستلم أبدا للشفقة في بقائي معه حتى أصبح من العسير، على كل حال، أن أتركه، لقد كان (تيد) في حاجة إلي وكان مستعدا لأن يرجعني إليه في الحال، وقد علمت ذلك من الخطاب العجيب الذي بعث به إلي متحدثا في موضوع زواجي وفيه يقول: (إن سعادتك هي كل ما أعيش له، ي (بام). ولن يحل أحد مكانك من نفسي، وسأنتظرك إلى الأبد، فإذا أردتني مرة أخرى أو احتجت إلى. . .)
إن أردته؟ أو احتجت إليه! إنني لم أكن أشد حاجة إليه مما أنا الآن، ولكنني لم أكن لأستطيع الذهاب إليه وأنا أحمل جنين (روني) في أحشائي.
لقد فرح (روني) بهذا الخبر، وقال: (إن هذا الوليد سيبقينا معا) فخيل إلي أن هذه الكلمات معناها الحكم بالسجن الأبدي، فشعرت بما يشبه الجنون. . . الأمومة. . . . الرباط الوثيق. . . . وحماسة روني الفرحة كل ذلك أثار عوامل غضبي. فقبلت:
- وكيف يمكننا حتى أن نكفل هذا الوليد؟
على أننا قد استطعنا ذلك على صورة ما. وقد أصاب روني في ذلك كما أصاب في قوله إن الوليد سيبقينا معا - في بيت واحد، فلقد بقينا معا بالفعل سنتين على الأقل، سنتين امتزجت في خلالهما الفاقة في حياتنا بنشوة السرور.
لقد أحببت أنا وروني ابنتنا الصغيرة (سو) حبا مفرطا، ففي اللحظة التي وضعت فيها هذه الوليدة التي لا يزيد حجمها على حجم القطيطة، بين ساعدي، تحللت جميع عوامل البغضاء والغضب التي تملكتني تسعة أشهر طوال إلى شعور فياض بالرقة والمحبة. لقد كان صغر حجمها! ومعجزة وجودها وجمالها! كان كل ذلك باعث حب لا يطاوله حب ولا تدانيه أية عاطفة إنسانية.
كذلك قبضت (سو) على قلب (روني) بقبضتها الصغيرة، في حين أصبحت، أنا التي كنت حبيبته من قبل، ولا صفة لي إلا إنني أم ابنته ولا مهمة لي إلا السهر عليها والعناية بأمرها، فقد انصرف حبه كله إلى أرجوحتها الصغيرة. فقد ينفق من المال ملا قبل لنا به على ابتياع اللعب والملابس الصغيرة، وكان في أغلب الأوقات يجلس في الظلام إلى جانبها بعد أن تستغرق في النوم، وكان يقضي الوقت الطويل في ملاعبتها معتقدا أنه وحده هو الذي علمها المشي والكلام، وكان شديد التفاخر بأنها تشبهه بأنفها الشامخ، وابتسامتها الساحرة؛ فكانت حسبه من الحياة كلها، وقد احتلت من نفسه مكمن العواطف والخيال ولم أكن أقل حبا لابنتي من أبيها لها. ولكنه كان حبا من طراز آخر. فلم يبد لي صواب القول بأن ثمرة الحب تضع حدا للاحساسات، أيا كانت، التي حملت اثنين على الاقتران أحدهما من الآخر. فقد خيل إلى أنه قد قدر لي أنا وروني أن نعيش متلازمين إلى الأبد، ولكي أرفه من حياتنا ظننت أنه يجب علينا أن نأخذ بهذه الفكرة، وأقسم إنني قد حاولت ذلك، ولكن جمود روني وعد قابليته لأن يفهم ما أنا محتاجة إليه غير البيت والطفلة والعلم بأنه مخلص لي وفي، كل ذلك أشعرني احتقار لنفسي حرمني النوم.
فكنت أبكي وأناقش وأتوسل ولكن ذلك كله لم يكن إلا ليزيد العلاقة بيننا سوءا.
ثم إذا أدركت إن روني لا يستطيع أن يغير ما به اعتزمت أن أكتفي بحب الأمومة. فيجب أن أكتفي بملاحظة (سو) وهي تنمو من طفلة قوية البنية صحيحة الجسم إلى بنية صغيرة مرحة حلوة المحيا، ولقد علمتها بعض الأغاني والشعر الخفيف، وكنت أتروح معها كل يوم ماشيتين نجمع في الشتاء أوراق الشجر الزاهية أو ننزلق على الجليد - وكنت أشعر بالكبرياء تملأ نفسي عندما يلتفت الناس إليها فيبتسمون معجبين بخطواتها القصيرة السريعة وشعرها الناعم الذي يتلاعب به الهواء وعينيها الجميلتين البراقتين. لقد كانت جميلة حساسة سريعة الحركة بشوشة الوجه شديدة المرح. . . لقد كانت ابنتي. . وهي لي وحدي آه يا (سو). . . (سو) عانقي أمك يا ابنتي واملئي حياتها الموحشة سعادة وعزاء.
كان حب (سو) يعزيني في أغلب الأحيان، ولكنه لم يكن كل العزاء الذي تتعطش نفسي اليه، فلقد كنت امرأة كما كنت أما. وكنت لا أزال صغيرة جذابة كمثل ما كنت يوم تركني (تيد) والآن أريد (سو) وأريد (تيد)، ولكني كنت أعلم - كمن وقع في الفخ - إنني لن أستطيع أن أجمع بينهما. فإن روني لن يتخلى عن (سو) أبدا، ولقد كان ينذرني بذلك كلما حدثته في أمر الطلاق فكان يقول: (حسنا يا بام لك أن تطلبي الطلاق إذا كنت غير قادر على إسعادك - ولكنك لن تأخذي سو أبدا).
ومع ذلك كان تفكيري في (تيد) يعذب نفسي، لقد كنت أحلم به في الليل وفي النهار. لقد كنت أتساءل: أين هو؟ وحيثما كنا نذهب - وكنا كثيرا ما نغادر البيت - كنت أبحث عنه بنظري بين الجماهير، حائرة، آملة. يقفز قلبي كلما رأيت رجلا طويل القامة عريض الفك مجعد الشعر. . . إذ كنت أتخيله (تيد).
كنت أشعر إنني مندفعة في طريق الجنون. ولو إنني عرفت على الأقل أخباره وطريق حياته لاطمأنت نفسي وهدأت أعصابي فصممت آخر الأمر على أن أكتب إليه، معنونة الكتاب بعنوان بيته القديم الذي لا يزال في رعاية أبويه اللذين لاشك في إنهما يعرفان مقره الجديد وسيحولان الخطاب إليه.
(لها بقية)
سعبد الحميد حمدي