مجلة الرسالة/العدد 721/طائفة المستعمرين في شمال أفريقيا
→ تفسير الأحلام | مجلة الرسالة - العدد 721 طائفة المستعمرين في شمال أفريقيا [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 28 - 04 - 1947 |
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
ما من شك في أن فكرة الاستغلال الاقتصادي هي الأصل في الاستعمار، فقد نشأت نتيجة لتطور الاختراعات ووجود أزمة المواد الأولية في دول قادرة على الصناعة الضخمة السريعة، بينما توجد بلاد عاجزة عن الاستغلال وتتوفر لديها المواد الأولية بكثرة في نفس الوقت. ثم استتبع ذلك حاجة الدولة المستغلة إلى إرسال أفراد إلى هذه البلاد، لكي يشرفوا على العمل في أرض عجز أهلها عن التنظيم والعمل، طبقاً للنظريات الحديثة. وهكذا نشأت فكرة الاستيطان في البلاد المستعمرة، أي أنها كانت تستند إلى عامل زيادة الإنتاج وتغذية المصانع بأكبر كمية مستطاعة من تلك المواد الأولية.
وإذا نحن انتقلنا إلى الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية وجدنا أنه تعدى هذه الحدود تعديا مخيفاً، إذ اتخذ شكل هجرة كان للسياسة فيها دخل كبير، وكان الأساس الظاهري الذي تستند إليه هو أن المنتج الفرنسي أقدر من المنتج المحلي، ولذلك برزت فكرة انتزاع الأراضي وتوزيعها على المستعمرين الفرنسيين لتحقيق هذه المصلحة العامة. . . المصلحة العامة التي لا تدخل في حسابها مصلحة الأهلين.
أما في الحقيقة فإن فرنسا كانت تستند في إرسال المستعمرين إلى شمال أفريقيا إلى بواعث سياسية منذ احتلت جيوشها الجزائر سنة 1830، وقد كان شعار الكونت ديسلي المحارب (الفتح بالسيف والمحراث). وقد ظلت هذه العبارة شعارا للاستعمار الفرنسي في أفريقية الشمالية إلى اليوم.
وليست مشكلة الجنسية التي أثارتها فرنسا في الجزائر ببعيدة عن سياسة نزع ملكية الأراضي، لأنها كانت تعمل على تفتيت القومية الجزائرية بإدخال عنصر جديد إلى البلاد عامل ونشيط، وإذا لم يكن من المستطاع أن تكون فيها أغلبية عددية فإنها كانت تفكر في إنشاء أقلية أكثر أهمية من الأغلبية العددية، وذلك بما يتوفر لديها من نشاط وقدرة وتفوق. ولذلك نجد أن فرنسا كانت تمنح جنسيتها للمواطنين بشروط معينة، ثم نجدها بعد ذلك قد منحت هذه الجنسية لليهود الجزائريين جملة واحدة بمقتضى قانون 14 أكتوبر سنة 1870.
ولا محيد لنا عن الإشارة إلى نشأة الاستعمار الفرنسي في الجزائر إذا نحن أردنا نفهم هذ الموضوع، لأنه امتد منها إلى تونس ثم إلى مراكش. وجدت فرنسا الأراضي الجزائرية من أملاك الدولية طبقاً للنظام العثماني، فأبقت على ذلك النظام لكي تستعين به على منح ما تشاء منها لمن تشاء. واستولت في الحال على أراضي الأتراك وأراضي المحاربين، وكانت تمنح هذه الأراضي إلى الفرنسيين وتعترف لهم بملكيتها، بينما ظلت الأرض التي يقيم فيها المواطنون غير معترف بملكيتهم لها. وقد امتد هذا الأمر إلى سنة1863، حينما اعترف لهم نابليون الثالث بهذه الملكية.
وخرجت فكرة المحراث من حيز التفكير إلى حيز الوجود وبدأ الفرنسيون يدفعون بالجزائريين إلى الجنوب ليستولوا على الأراضي الخصبة في الشمال. لكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة جديدة هي: من أين لهم أن يوجدوا طائفة المستعمرين وبلادهم عاجزة عن المستعمرين من أبنائها؟
حصل بعد الثورة الفرنسية في سنة 1848 - وهي السنة التي صدر فيها قرار باعتبار أراضي الجزائر أراضي فرنسية - أن عمت البطالة بين الطبقة العاملة في باريس، إلى درجة فادحة، فقرر المجلس الوطني الفرنسي إرسال العمال إلى الجزائر لاستعمار الأراضي، ليخفف بذلك من حدة البطالة، ويحقق الهدف الاستعماري في تلك البلاد. وكانت الحكومة تنقل العمال مجاناً إليها فإذا وصل العامل إلى هناك منحته عشرة هكتارات من أجود الأراضي الزراعية.
بيد أنه لم يكن من اليسير أن يصبح عامل المصنع فلاحا. لقد توافد هؤلاء المستعمرون إلى أرض الجزائر أفواجا أفواجا. ولكن بدلا من أن يبرهنوا على تفوقهم في الإنتاج أفسدوا الأرض وعجزوا عن استغلالها، وما هي إلا بضع سنوات حتى بدءوا يرجعون إلى فرنسا من جديد وكان عدد الذين رجعوا أكثر من النصف.
وهكذا عجزت فرنسا عن أن تمد الجزائر بالفلاحين من أبنائها، ولكنها لم تستطع بالرغم من ذلك أن تتنازل عن فكرة إيجاد أقلية تفتت القومية التي قد تحدث لها مشاكل في المستقبل تعجز عن مقاومتها، ولذلك عمدت إلى اتخاذ أجراء خطير، هو تشجيع الأجانب من أسبانيا وإيطاليا وكورسيكا على الهجرة إلى تلك البلاد والقيام بالدور الذي عجز أبناؤها عن القيام به. وفعلا توافد عليها خليط غريب من أجناس مختلفة، منحتهم فرنسا جنسيتها مقرونة بامتيازات عديدة، ووزعت عليهم الأرض، ومن هؤلاء تناسلت الكثرة الغالبة من طائفة المستعمرين، الذين يدعون أنفسهم بالفرنسيين الجزائريين، وازداد خطرهم استفحالا مع مرور السنين.
ولقد كانت الإدارة المحلية دائما أشد تطرفاً من حكومة باريس في تشجيع طائفة المستعمرين هذه منذ نشأتها، حتى إن التشريعات التي أصدرها نابليون الثالث لإنصاف عرب الجزائر قبرت في الإدارة المحلية بتأثيرهم، وقد ظلت الإدارة تراوغ في تنفيذها إلى أن قامت الجمهورية الثالثة وتنوسي أمر تلك التشريعات نهائيا.
ثم بعد ذلك مدت فرنسا حمايتها على تونس سنة 1881 ثم تقدم الزمن واستطاعت أن تمدها على مراكش أيضاً سنة 1912 فكان شعار الفرنسيين فيهما أيضاً هو (الفتح بالمحراث والسيف) وجاء المستعمرون الفرنسيون في إثر الجيش وبدأت نفس الإجراءات القديمة تتخذ في أفريقية الشمالية كلها، على الرغم من التباين الموجود في علاقة شعوبها بفرنسا، ولم تمر إلا مدة قصيرة حتى كان خطر هذه الطائفة يهدد مراكش نفسها التي لم يمر اليوم على تبعيتها لفرنسا سوى خمسة وثلاثين عاما.
وتعمل تلك الطائفة اليوم في تونس ومراكش على أن تنال كراسي في البرلمان الفرنسي لكي يزيد تأثيرها في السياسة الفرنسية وتمهد لاعتبار أراضيهما أراضي فرنسية، ولكنها اصطدمت بالقومية فيهما، وقد كاد يتم تأسيس دائرة انتخابية للفرنسيين فيهما لولا احتجاج جلالة ملك مراكش وسمو باي تونس على ذلك، ولولا أن الوضعية السياسية في البلدين تمنع من تأسيس مثل هذه الدائرة، ولكن هذا لم يفت في عضد المستعمرين، إذ ما يزالون يسعون في نشاط للوصول إلى غايتهم متحينين الفرص وعاملين على خلقها.
وهم يتخذون مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتأثير على العسكريين والموظفين، سواء في هذه البلاد أو في فرنسا. وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول إن وجود هذه الطائفة خطر شديد على الحياة الاقتصادية، إذ يستطيع أفرادها بما لهم من نشاط وقدرة وأساليب خاصة، أن يهدموا القواعد التي تسير عليها الدولة حتى إن كبار الموظفين الفرنسيين يصطدمون بهم، وقد حدث كثيراً أن اصطدم بهم ممثل فرنسا نفسه.
وتمتاز طائفة المستعمرين بالجشع الذي لا نهاية له، والأنانية التي تستهين بكل شيء في سبيل تحقيق المآرب الشخصية، كما يمتاز أفرادها بالتعصب والتطرف وسرعة التأثر، وبالعمل الدائب المستمر على الوقوف في وجه الأهالي حتى لا يكسبوا أي حق من الحقوق لأنهم يعتقدون أن في ذلك ما يمس مصالحهم، وهم لا يضمرون عطفاً للأرض التي يعيشون بفضلها ولا للدولة الفرنسية التي تحميهم، كما أنهم على استعداد لمناصرة أي نظام يستطيعون في ظله أن يشبعوا نهمهم، ولو قام ذلك النظام على أنقاض النظام الفرنسي الحالي. وربما بلغ بهم الأمر حد التآمر على الممثل الفرنسي لأنه لم يحقق لهم مأربا، بل يبلغ بهم الأمر أن يحتجوا في جرأة ووقاحة إذا ما نال المواطنون حقاً من الحقوق البسيطة. إنهم ليسوا من صميم الفرنسيين، ولكن فرنسا هي التي تتحمل مسؤولية ما يقومون به من أعمال لاستعباد الأهلين الفلاحين في هذه البلاد، واستغلال جهودهم وامتصاص دمائهم وكل المساوئ التي تتمثل فيهم. فرنسا مسؤولة عن أعمالهم لأنها هي التي عملت على أن تكون حياتها في أفريقية الشمالية معتمدة على هذه الطائفة الخطيرة وهي التي أنشأتها وساعدت على تمكينها من أجود الأراضي الزراعية ومن مقاليد الحياة الاقتصادية عموما.
وسوف تستمر الفوضى في أفريقية الشمالية ما دامت هذه الطائفة موجودة فيها على هذا النحو الخطير، لسبب بسيط هو أنها تستمد حياتها من هذه الفوضى، فهي لا تصطاد إلا في الماء العكر، ومن مصلحتها أن لا يصل الوطنيون إلى أي اتفاق مع الحكومة الفرنسية، ولذلك فإن أول خطوة كان يجب أن تتخذها فرنسا هي أن تحد من نشاطها وتضرب على يدها وتكافح هؤلاء الناس الذين لا يستوحون في حياتهم سوى ملء الجيوب والبطون. أما تفتيت القومية في تلك البلاد فلعل هذه السنين الطويلة الحافلة بالمآسي كافية لكي تفهم الفرنسيين أنهم يحاولون المستحيل، فقد برهن العربي في أفريقية الشمالية على أنه غير قابل لأن يفنى مهما كانت القوة التي تحاول أن تقضي عليه، وربما عجز الخيال عن تصوير النتائج الخطيرة التي يمكن أن تنجم عن استمرار هذه الطائفة في التقوى والاستعلاء.
عبد المجيد بن جلون