مجلة الرسالة/العدد 721/القَصصٌ
→ البَريدُ الأدَبي | مجلة الرسالة - العدد 721 القَصصٌ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 28 - 04 - 1947 |
الجاسوسة العاشقة
عن الإنجليزية
للأديب شفيق اسعد فريد
كان مقهى فندق كوزمو بوليتان يعج بالجالسين حتى لقد تعذر على (فانيا) المسير لضيق مسافة ما بين المناضد. وتوقفت الفتاة لحظة وقد بدا عليها التردد، على أنها استأنفت التقدم ثانية حتى وصلت إلى منضدة كان يجلس إليها رجل منفرد. ولاح كأنها كانت على وشك السقوط إذ مدت يدها مسرعة إلى المنضدة ولم تلبث أن سقطت منها حقيبتها اليدوية على الأرض.
وانحنى الرجل يلتقط الحقيبة ثم وقف وقال وهو يقدمها إلى فانيا:
- أرجو المعذرة. . . ولكن هل تتكرمين بالجلوس معي يا سيدتي. . . يلوح أنه لا توجد أماكن خالية الليلة في المقهى.
وابتسمت الفتاة دلالة على الشكران ثم جلست. . . وقبلت قدح القهوة الذي طلبه لها ثم بدأت تشكره على تلطفه معها.
ولم يخف على رئيس الخدم ورجاله المنتشرين في أرجاء المكان أن (فانيا) الجاسوسة في قلم المخابرات السرية بموسكو قد عادت لاستئناف نشاطها ثانيا.
ولكن أن أندريه ليرو لم يكن يدري ذلك برغم معلوماته الجمة عن الجاسوسية وعن حيل الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلام المخابرات السرية.
لقد كان هو نفسه جاسوساً فرنسيا طاف بكثير من الممالك منتحلا شخصيات عديدة ومستعملا في ذلك جوازت سفر تطابق الأسماء التي كان ينتحلها. . . ومع ذلك فإنه لم يكن يدري أن رفيقته (فانيا) من أخطر جواسيس موسكو.
لم يكن يدري أن فانيا هي التي أدارت الحديث ثالث يوم من صداقتهما ناحية بولندا وزيارته إلى تلك المملكة. . . لأنه كان يعتقد أنه هو نفسه الذي وجه الحديث إلى هذه الناحية الشيقة لم يكن يدري أن مرض خادمه في الفندق في اليوم الرابع من وصوله ومجيء خادم جديد بدلا عنه كان من صنع (فانيا) وأنى له أن يعرف ذلك وقد خرج في اليوم ذاته في نزهة في السيارة استغرقت أكثر من أربع ساعات بعيداً عن المدينة، كان أحد مهرة صانعي الأقفال يعمل خلالها بنشاط عجيب ويفتح جميع أدراج مكتبه في الفندق على حين كان رجل آخر يلتقط صورا فوتوغرفية لجميع أوراقه ويعيدها إلى مكانها كأنما لم يحدث شيئا مطلقاً
حقاً لقد كانت (فانيا) ماهرة في عملها كل المهارة. . . ومع ذلك فإن أندريه ليرو لم يكن يأبه إلا للنظرة الساحرة التي كانت ترميه بها من وقت لآخر.
كانت فانيا تجلس في غرفة استقبال أندريه ليرو في فندق كوزمو بوليتان بعد مضي أسبوعين على لقائهما.
ونظرت الفتاة إلى ساعتها اليدوية. . . (لم يبق غير دقيقة واحدة).
قال أندريه: إنني ذاهب إلى أمريكا أولا، ثم أخترق القارة إلى سان فرنسيسكو. . . ألا تشعرين بأنه يجدر بنا - إذا أردنا السعادة - أن نتزوج في وارسو أو في باريس أو في أي مكان آخر ثم نرحل معاً. . . كم هي جميلة حياة الأسفار حيث يتجول الإنسان في ممالك غريبة عنه. . . إنني أملك مالا كثيراً. . . فهل تتزوجينني يا فانيا؟.
ولم تستطع الفتاة أن ترفع بصرها عن ساعتها اليدوية. . . وكانت تحاول أن تتجه بأفكارها اتجاها آخر بعيداً عن أندريه وعن حديثه. . . وابتسمت. . . وراحت تفكر في زميلها كرجل يغازلها ويعرض عليها الزواج ولكن كرجل له أهمية عظمى في مؤامرة أعظم. . .
ولم تجب، فاسترسل أندريه في حديثه قائلا:
- فانيا. . . أصغي إليَّ. . .
وتوقف فقد اهتز باب الغرفة في تلك اللحظة اهتزازاً عنيفاً تحت تأثير ضغط عظيم من الخارج. . .
وسمع الاثنان صوتا خشناً يقول:
افتحوا الباب وإلا فسنحطمه في أقل من خمس ثوان. . . افتحوا الباب. . .
ولم ينتظر الآمر إذ يبدو أنه كان في عجلة شديدة. . . وأسرعت فانيا تحتمي بجانب أحد جدران الغرفة. . . ثم دوت طلقة نارية لم يلبث بعدها أن تحطم قفل الباب وتناثر داخل الغرفة في قطع صغيرة. . . واهتز الباب اهتزازاً عنيفاً ثم فتح الباب على مصراعيه. . .
ووقف ثلاثة من الجنود على عتبة الباب وقد رفعوا مسدساتهم في أيديهم.
وتقدم أحدهم وقام بتفتيش الجاسوس الفرنسي تفتيشا دقيقا ثم قبض على كتفه في شيء من العنف.
وفي تلك اللحظة دخل فورناشوف الغرفة.
كان فورناشوف هذا من كبار موظفي حكومة السوفييت على أن الجمهور لم يكن يدري من أمره شيئاً فقد كان نادر الظهور أمام أفراد الشعب، كما أن اسمه لم يكن يذكر في الإدارة السرية في الكرملين إلا في ظروف خاصة.
هز فورناشوف رأسه في إيماءة خفيفة إلى فانيا ولكنها كانت أبلغ من الكلام. . .
كانت هذه الإيماءة الخفيفة تحوي كل معاني التهنئة. . . حقاً لقد قامت الفتاة بدورها على ما يرام فسارت الأمور في نصابها دون أن تحدث أي ثغرة بسيطة في الخطة الموضوعة. . .
وصاح فورناشوف يأمر الجند: خذوه خارجاً. . .
كان أندريه ممتقع الوجه ولكنه لم يفه ببنت شفه. . . وحين كانوا يسوقونه إلى الخارج ألقى على الفتاة نظرة عاجلة ولكنها كانت خالية من كل المعاني. . . وسر الفتاة أنه لم يقل شيئاً وأدركت أن هذا الرجل العظيم لم يكن على شاكلة الآخرين الذين أوقعتهم في حبائلها. . . كانوا يثورون ويلعنون أما هذا الرجل الباسل فقد كان هادئاً برغم الخطر العظيم الذي كان يحدق به. . .
ولم يتكلم فورناشوف أيضاً بل أومأ إلى أحد أعوانه بأن يجمع حقائب أندريه كما أرسل أحد الجنود لإحضار نجار يصلح الباب. . . وغادر الغرفة في النهاية وانصرفت فانيا على الأثر إلى منزلها.
وفي الصباح التالي كانت فانيا قد نسيت كل شيء عن أندريه وحين زارت فورناشوف في مكتبه علمت أن قلم المخابرات قد أحرز نصراً عظيما بالقبض على أندريه.
قال فورناشوف: إننا نأمل أن تكشف لنا الأوراق التي عثرنا عليها مع أندريه عن معلومات ثمينة إذ يبدو أن فيها ما يشير إلى وجود رجل إنجليزي في المؤامرة. . . وفي اعتقادي أن وجود الإصبع الإنجليزي في المؤامرات ضد الروسيا قد أصبح من الأمور المألوفة. . .
وقهقه ضاحكا إذ كان يشعر بالغبطة والانشراح. . . والتقط قلماً من فوق مكتبه وراح يعبث به. وهتف: لقد نجحت نجاحا عظيما يا فانيا فقد استطعت أن تقومي بدورك في هدوء وسكينة دون أن تثيري حولك ضجة تجذب أنظار الجمهور. . . إن أحداً - غير موظفي قلم المخابرات السرية - لا يعلم أن شخصاً معلوماً قد اختفي من عالم الوجود كما حدث أمس وكما سيحدث قريباً جداً. . . فقد وصل إلى علمي أن إنجليزياً على وشك الوصول إلى موسكو ولما كان أمر ذلك الإنجليزي يهمني فسأعهد إليك بالمهمة الخاصة به في الوقت المناسب. . . ولكن تذكري أنني لا أريد ضجة لا مبرر لها لأنني رجل سلام. . . والآن يمكنك أن تنصرفي أيتها المواطنة على أن تعودي بعد أسبوع. . .
كانت محادثتهما خالية من كل ما يشير إلى أندريه. . . ولكن ماذا يهمهما من أمره. . . لقد لاقى جزاءه المحتوم مثل الكثيرين الذين سبقوه في هذا المضمار. . .
كانت الفتاة تدرك ما حدث للجاسوس المسكين فقد كانت تعرف في مثل هذه الأمور ما لا يعرفه إلا القليلون.
وتمثلت في ذهنها اللحظات السوداء التي تمر بالجاسوس بعد القبض عليه وقبل أن يساق إلى الموت. . . وتراءى لها أندريه وقد ساقوه إلى مكتب المخابرات حيث مثل بين يدي رئيس المكتب الذي طلب إليه أن يتكلم ويبوح بكل ما لديه من المعلومات واعدا إياه بالحرية المطلقة أو على الأقل بالحرية داخل حدود روسيا السوفيتية. . . وتمثلت منظر الجاسوس وقد رفض التكلم لعلمه بغدر العارض، وعندئذ يسوقونه إلى سجنه المعتم حيث يوضع تحت المراقبة الدقيقة. . . فإذا كان الفجر سيق الرجل في دهليز طويل ضيق. . . ويبرز من إحدى المنعطفات رجل يسير بحذر وخفة ثم يرفع هذا الرجل يده وقد حمل فيها مسدسا يطلقه في هدوء على الجاسوس المسكين فلا يلبث أن يخر صريعاً. . .
وهكذا سوف تتخلص روسيا من أندريه ليرو الجاسوس الفرنسي الكبير. . .
كانت فانيا في طريقها من محطة المترو إلى فندق كوزموبوليتان وقد تدثرت بملابس ثقيلة التماسا للدفء. . . كان متجهة بكل أفكارها إلى شخص معين يدعى اليوت فانجدون.
لقد زودوها بكل ما يلزمها من المعلومات عن هذا الرجل وأوصافه ولكنهم لم يخبروها أن هذا الشاب من الشبان القليلين الذي لا يفقدون رباط جأشهم إبان أشد الأزمات خطورة وأنه أرسل من قبل الحكومة الإنجليزية في مهمة تتعلق بالتجسس على مشروع خطير قيل إن حكومة روسيا تقوم به في الأوساط الهندسية - لأنهم لم يكونوا يعرفون ذلك هم أنفسهم. . .
وتكرر حادث سقوط حقيبتها اليدوية للمرة الثانية كما تكرر وقوع الشاب الإنجليزي في حبالها أيضاً. . . ولعله كان من أعجب الأمور أن يقف الخادم بجوار فانيا حين سقطت الحقيبة ومع ذلك فإنه لم يكلف نفسه مؤونة التقاطها تاركا ذلك للشاب. . . ولم يمض على ذلك الحادث غير نصف ساعة حتى كان اليوت فارنجدون يعبر للفتاة عن سروره لأن عثر على فتاة روسية ظريفة تستطيع التحدث باللغة الإنجليزية.
كان الاثنان يجلسان في شرفة الفندق ثالث يوم على لقائهما. . . قال اليوت:
- كان يجب أن ترتدي قبعة من تلك القبعات التي تغطي العينين والتي تلبسها السيدات هذه الأيام ومعطفا من الفرو السميك حتى تبرزي محاسنك الفاتنة يا فانيا. . إنني لا أعني أنك لست جميلة ولكني أعتقد أنك تكونين أجمل لو أنك. . .
فقاطعته قائلة: إنني لا أدرك ما تعني. . . إن لدي معطفاً للشتاء كما لدي قبعة. . . وفي اعتقادي أن رجال الإنجليز يعشقون الملابس لا النساء اللائي يرتدينها. . .
فصاح اليوت: لا تكوني حمقاء. . . إنني أخبرك بما سأبتاعه لك لو أنك سمحت لي بذلك الشرف. . . تعالي نرقص معاً هذا المساء.
فهتفت فانيا: سوف نرقص هنا ثم نخرج في نزهة قصيرة في موسكو وعندئذ سوف تخبرني عن قصة حياتك. . . أليس هذا ما تفعله الفتيات الإنجليزيات. . .
فقال في هدوء: بلى.
والآن وقد مضت سبعة أيام على هذا الحديث فقد بدأت فانيا تشعر بشيء من القلق والاضطراب فقد تحاشى اليوت الكلام عن نفسه وعن المركز الخطير الذي يشغله في قلم المخابرات السرية الإنجليزي. . . أجل لقد تجنب الكلام عن نفسه بصفة خاصة حتى إنه لم يطلعها على أمر تلك المكالمة التليفونية التي تلقاها من بوخارست والتي استغرقت مدة ساعة بأكملها ما بين الساعة الواحدة صباحاً والساعة الثانية صباحاً. . . فهل يا ترى كانت تلك المحادثة الطويلة لسؤال اليوت عن جو موسكو. . .
لقد قرر جاسوس المخابرات الروسية الذي استرق السمع أبان المكالمة أنها كانت عبارة عن تقرير بخصوص حالة أخي اليوت الصحية إذ مرض هذا الأخ فجأة في بوردو. . .
(البقية في العدد القادم)
شفيق أسعد فريد