مجلة الرسالة/العدد 720/قصائد تكريم مطران في الميزان
→ الأدب في سير أعلامه: | مجلة الرسالة - العدد 720 قصائد تكريم مطران في الميزان [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 21 - 04 - 1947 |
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
عندما كرموا شوقي منذ أكثر من عشرين عاماً أرسل لبنان شاعره المجلى بشاره الخوري فصدح بقصيدته الخالدة:
قف في ربى الخلد واهتف باسم شاعره ... فسدرة المنتهى أدنى منابره
فطار ذكرها في الآفاق، وبقيت بقاء الزمان. . . وعندما كرموا خليل مطران في الشهر الماضي أرسل لبنان الأستاذ شبلي الملاط بك شاعر الأرز، وهو الذي نعرف له ماضيه البعيد، وآثاره الحسان، وبدائعه الجميلة، فصدح بقصيدة خانه التوفيق فيها كثيراً!!. . . نعم، كنا نود لو أن لبنان كرم الخليل وهو ابنه وشاعره، وقيثارته المغردة بذكره وحمده، المتغنية بأمجاده وآثاره، المترجمة عن مشاعره وهواه. كنا نود أن يكون تكريمه بالجليل العظيم من الشعر، والفخم الضخم من الكلام الذي يسير سير الشمس، ويمشي على أفواه الناس مشي النار في يابس الحطب وإنه بذلك لقمين.
ألقى الأستاذ شبلي الملاط بك قصيدة طويلة تزيد على الستين بيتاً لم يعرض لذكر الخليل إلا في عشرة منها، وانصرف في باقيها يسوق كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض، ويجر نفسه جراً، دون وقفة تأمل، أو هدأة تصور، ودون خلجة قلب، أو همسة نفس! ولقد كنت تحس وأنت تقرأ القصيدة أنك تعتسف في بيداء مجهل، لا ظل ولا ماء، وكنت تشعر بالفراغ يشتملك ويحيط بك من كل نواحيك، وتحس إقفار البيداء إقفاراً شديداً، فتنظر هنا وتنظر هناك علك تصيب حياة أو تجد أنساً فلا تلقى إلا صوراً باهتة لا تدل على شيء، ولا تسمع إلا أصداء بعيدة لا تؤدي بك إلى شيء!
ولقد أسرف الشاعر في نسج أبيات يشهد الله أنها كانت هواء خلاء لا تكاد تعرف لها معنى إلا أن يقال عنه طويل النفس فأي معنى في قوله:
تعاقبت القرون فيمن هبوط ... تمر به القرون ومن صعود!
وأي معنى وأي شعر في قوله:
لها في كل ناحية حدود ... وتأبى أن تنام عن الحدود! ولقد كانت قصيدة شبلى الملاط جميعها كالحجارة المرصوصة المصفوفة بعضها وراء بعض لا ترى بينهما زهرة يانعة، أو وردة متفتحة. . . وقد خلت القصيدة من كل خيال ومن كل ظل ومن كل صورة من بدائع الصور التي لا يكون الشعر شعراً إلا بها وإلا فهو كلام لا طعم له ولا مذاق فيه! وأغلب ظني أن الشاعر عنى بأن يضفي على قصيدته ثوب القصة أو الملحمة القصيرة فخانه الحظ كثيراً فخرجت من أساطير الأقدمين أو بحكاية من حكايات كليلة ودمنة! وليتها كانت!
وكان الكثير من كلامه مبتذلا رخيصاً بعيداً عن جو الشعر وما ينبغي له من رونق وجمال وإشراق، وماذا من الشعر في قوله لمصر:
فإنا ما يشاء بنوك شئنا ... من استقلال آفاق الصعيد!
وماذا منه في قوله:
بلبنان. . . الجلاء أصاب عيداً ... وفي مصر سنشهد أي عيد!
وماذا منه في قوله إلى عذارى النيل:
وشاركن الشباب وكل حر ... يموت ولا يعيش من العبيد
أين الموسيقى الشائعة في القصيدة؟ وأين العبارة الزنانة الآخذة بمجامع القلوب؟ قصارى ما بلغته هذه القصيدة - وهي لم تصور من نواحي الخليل إلا اليسير القليل - أنها خلت من الأخطار اللغوية والأخطاء النحوية إلا في كلمة واحدة، وذلك أضعف الإيمان!!. . .
وكانت القصيدة الأخيرة في حفلات تكريم الخليل التي قرأناها لصديقنا الشاعر محمد عبد الغني حسن، وأشهد أن هلا في جملتها إشراقا وموسيقى لم يتوفرا لقصيدة الملاط، غير أن الناظر فيها نظرة المتأمل المدقق، يجد فيها هنات كنا نربأ بصديقنا عنها فقد ابتدأها بقوله (جئت ألقي في بابك الأعذارا) والأعذار لا تلقى وإنما تلقى الأحجار، وقال فيها مخاطباً الخليل (أنت كالبدر في الوجود ائتلاقاً) وكلمة الوجود فوق أنها ليست من الشعر في شيء لا ضرورة لذكرها والأستاذ خير من يعلم ذلك، وقال عجزاً لأحد الأبيات (ثم أصلح في كفك المزمارا) وأصلح هذه لغة رجال (التخت) لا رجال الشعر، وقال البيت الآتي عن العود:
لا تقل حطمته مر الليالي ... لم تحطم من عودك الأوتارا! والبيت لا شعر فيه، وأين هو من قول خليل مطران في مثل هذا المعنى:
حطم العود إن كر الليالي ... لم يغادر في العود إلا الأنينا!
والأوتار لا تحطم وإنما تقطع ولكنه رد العجز على الصدر وكفى. وقال يصف قلب خليل مطران:
أنت ذوّبته حناناً وعطفاً ... أنت رقعته جوى واستعاراً
وما معنى أنه رقعه جوى واستعاراً؟؟، وقوله عن الدموع (زدتها في عيوننا إكبارا) أقرب إلى كلام العامة وقوله للخليل (يا وقور الأشعار) اضطرار في الكلام كريه، فالشعر رجع للانفعال والإحساس الثائر المرهف فلا أفهم وصفه بالوقار، وقوله عن جبل لبنان إنه (مثل الأهرام في الجو خلداً) فإن كلمة الجو هنا لا معنى لها! وقوله بعد ذلك إننا (انتظمنا عواطفاً وشعوراً) يريد العكس أي انتظمتنا عاطفة واحدة وشعور واحد وهذا هو الأولى. . .
على أن الأستاذ عبد الغني كان شاعراً حقا في قوله:
يا دليل الركبان في القفر إني ... ما رأيت الحياة إلا نفارا
يا دليل السفين في البحر إني ... لم أخض في الحياة إلا بحارا
وإذا ما المنى نفرن علينا ... فمن الخير أن نزيد نفارا
فعلينا المسعى الجميل ولكن ... ما علينا أن ندرك الأوطارا
ولعله كان في هذه الأبيات يتكلم عن شعور متدفق من نفسه، وذخيرة مكنونة في فؤاده.
وكنا نود أن نتكلم قليلا عن شعر خليل ولكننا وجدنا المحتفلين به قد أفاضوا القول فيه، وصار كل كلام يقال فيه بعدهم معاداً مكرراً. . . على أننا نقولها قولة حق لا التواء فيها إن الشعر لم يؤد ما يجب عليه لشيخه الجليل، وإن الشعر قصر كثيراً في تكريمه والاحتفال به، والوفاء له، وكان الرجل حرياً بأن يقال فيه أجزل الشعر، وأقوى القصيد وأكرمه، فذلك حق يتقاضاه ويدٌ لا تقوم بشكر أياديه، وله العمر المديد حتى يؤدي إليه دينه كله!
علي متولي صلاح