مجلة الرسالة/العدد 72/صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
→ محمد بك المويلحي | مجلة الرسالة - العدد 72 صحف مطوية من التاريخ الإسلامي [[مؤلف:|]] |
الشخصية ← |
بتاريخ: 19 - 11 - 1934 |
العرب في غاليس وسويسره
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ عامين كشفت المباحث الأثرية في وادي اللوار بفرنسا على مقربة من مدينة تور، عن عظام بشرية، وسيوف ودروع قيل إنها عربية؛ ورأى فريق من الباحثين الأثريين أن هذه الآثار هي على الأرجح من مخلفات الموقعة العظيمة التي نشبت بين العرب والفرنج في سهول نهر اللوار منذ ألف ومائتي عام (732م)، وارتد فيها العرب أمام جيوش كارل مارتل زعيم الفرنج بعد أن قتل قائدهم عبد الرحمن الغافقي، وأن اكتشافها يلقي ضياء جديداً على حقيقة المكان الذي نشبت فيه الموقعة، والذي مازال مثار خلاف بين المؤرخين.
وتلك الموقعة الشهيرة هي التي تسميها الرواية الإسلامية بموقعة بلاط الشهداء أو موقعة البلاط، لكثرة من استشهد فيها من عظماء المسلمين وقادتهم، وتعرف في الرواية الفرنجية بموقعة تور أوبواتييه لأنها وقعت في السهول التي تمتدد بينهما؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخها في رمضان سنة 114 من الهجرة، متفقة بذلك مع الرواية النصرانية التي تضع تاريخها في أكتوبر سنة 732م. وقد كانت هاتيك السهول التي تمتد بين تور وبواتييه وتشرف على ضفاف اللوار هي أقصى ما بلغه العرب في فتوحاتهم في قلب فرنسا؛ وقد عبر العرب جبال البرنيه لأول مرة عقب افتتاحهم لأسبانيا، وغزوا سبتمانيا (أو لانجدوك) سنة 94هـ (713م) واستولوا على مدينة قرقشونة وثغر أربونة؛ ثم توالى عبورهم بعد ذلك لجبال البرنيه وتوالت غزواتهم في غالة أو غاليس (جنوب فرنسا)، في سبتمانيا وفي أكوتين، ثم في وادي الرون شمالاً حتى بورجونيه؛ وأنشأوا من فتوحاتهم في غاليس ولاية سميت بالثغر أو الرباط وعاصمتها أربونة؛ ولما ارتدوا أمام الفرنج في بلاط الشهداء، احتفظوا مدى حين بفتوحاتهم في غاليس؛ واستمر لظى الحرب يضطرم بينهم وبين الفرنج في تلك الأنحاء مدى ربع قرن، والفرنج يستردون مدنهم وأراضيهم تباعاً من أيدي الغزاة، حتى انتهوا أخيراً بالاستيلاء على أربونة آخر معقل إسلامي في غاليس سنة 759م.
وكان ذلك خاتمة الفتوحات الإسلامية المستقرة في فرنسا، ولكنه لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية أو خاتمة النفوذ الإسلامي في تلك الأنحاء. ذلك أن المسلمين عادوا فنفذوا إلى الجنوب فرنسا، ثم إلى بييمون وسويسره، وغلبوا على كثير من المواقع والأراضي في تلك الأنحاء أحقاباً طويلة، ولكنهم كانوا في تلك المرحلة جماعات مستقلة مغامرة تعمل لحساب نفسها أكثر مما تعمل لحساب الحكومات التي تنتمي إليها، وكانوا مستعمرين أكثر منهم غزاة؛ وتلك صفحة من تاريخ النضال بين الشرق والغرب والإسلام والنصرانية قلما تعنى بذكرها الرواية الإسلامية، وإن كانت الرواية النصرانية تشير إلى الكثير من وقائعها وتفاصيلها. وسنعنى في هذا الفصل بسرد حوادث هذه الصفحة الغريبة المجهولة، وبما كان للاستعمار الإسلامي في تلك الأنحاء من الخواص والآثار. كانت أول غزوة إسلامية لفرنسا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس، في عصر أمير الأندلس هشام بن عبد الرحمن الأموي، ففي سنة 793م دعا هشام إلى الجهاد، وأرسل إلى فرنسا جيشاً بقيادة وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، فعبر البرنيه، وزحف على أربونة، فلما لم يستطع افتتاحها، ارتد إلى قرقشونه؛ وكان شارلمان (أو كارل الأكبر) ملك الفرنج يشتغل يومئذ بمحاربة خصومه على ضفاف الدانوب بعيداً عن فرنسا؛ فتأهب أمير أكوتين لرد العرب، وأوفد لمحاربتهم جيشاً بقيادة الكونت دي تولوز، فالتقى الفريقان في مكان يسمى (فيل دني) بين أربونة وقرقشونه، ونشبت بينهما موقعة غير حاسمة ارتد على أثرها العرب إلى الجنوب مثقلين بالغنائم. وتشير الرواية العربية إلى تلك الغزوة وتقول أن المسلمين استولوا خلالها على أربونه، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة لا تذكر شيئاً عن هذا الفتح.
وفي سنة 806م هاجمت شرذمة قوية من البحارة العرب جزيرة كورسيكا؛ فبعث ببين بن شارلمان ملك إيطاليا أسطولاً لقتالهم، ولكنهم هزموه وقتلوا قائده، وحصلوا كثيراً من الغنائم، ولم يمض عامان حتى عاد البحارة العرب إلى غزو شواطئ كورسكيا وسردانية. ثم توالت غزواتهم إليها بعد ذلك؛ وكانت شواطئ فرنسا الجنوبية عرضة أيضاً لمثل هذه الغزوات البحرية الناهبة، وكان قوام هذه الغزوات عصابات قوية مغامرة من مسلمي الأندلس وأفريقية تجوس خلال هذه المياه في سفن خاصة وتثخن في هذه الشواطئ، وتعود مثقلة بالغنائم؛ وكان البحارة المسلمون كالبحارة النورمانيين، رعب هذه الشواطئ، وكانت أخبار غزواتهم تدوي في جنوب فرنسا، وتعنى الروايات الفرنسية المعاصرة، ولاسيما الروايات الكنسية بتدوين أخبار هذه الغزوات، وتبالغ في تصوير عصفها ووقعها، وتقول لنا إن البحارة العرب ذهبوا في جرأتهم إلى حد التجول في مياه الاطلنطيق ومهاجمة شواطئ فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الاطلنطيق حتى مصب نهراللوار.
وفي سنة 838م خرج أسطول عربي من ثغر طراكونه (تراجونا) ومياه البليار، ورسى في مياه بروفانس، وهاجم ثغر مرسيليا وما حوله من المواقع والأراضي، وأثخن فيها، وحمل كثيراً من الغنائم والسبى. وكان على عرش فرنسا يومئذ لويس (لي ديبونير) بن شارلمان، وكان ملكاً عاجزاً ضعيفاً، فلما توفي في سنة 840م، اضطربت أحوال المملكة، وضعفت الثغور، فانتهز البحارة العرب تلك الفرصة، وغزوا بروفانس عند مصب نهر الرون، وهاجموا مدينة آرل، وخربوا معاهدها. ثم توالت غزواتهم بعد ذلك في تلك المياه، وهاجموا مراراً مرسيليا وآرل. وفي سنة 850، في عهد عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس، عبر المسلمون جبال البرنيه مرة أخرى بقيادة موسى حاكم سرقسطة وغزوا سبتمانيا، وأثخنوا في نواحيها، واضطر شارل (الأصلع) ملك فرنسا أن يعقد الصلح معهم؛ ومن المرجح أن هذه الغزوة كانت ذات صفة رسمية، وأن حكومة قرطبة هي التي نظمتها أو أوحت بتنظيمها. وفي سنة869، هاجمت شراذم من البحارة العرب بروفانس مرة أخرى، واستولت على جزيرة كامارج الواقعة في مصب الرون، وأسرت أسقف آرل الذي كان يقيم فيها، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى.
- 2 -
ولقد أذكى نجاح هذه الغزوات المتوالية في نفوس المغامرين والمجاهدين من مسلمي الأندلس وأفريقية حب التوغل في هاتيك الأنحاء ورغبة استعمارها والاستقرار فيها. وكانت أحوال غاليس (جنوب فرنسا) قد اضطربت يومئذ، وغاب سيد من سادة تلك الأنحاء يدعى بوسون على ولايتي دوفينه وبروفانس وتلقب بملك آرل، وقام يناوئه بعض منافسيه، ونشبت بينه وبينهم حروب أهلية (نحو سنة 890). ففي تلك الآونة رست سفينة عربية صغيرة عليها عشرون بحاراً من المسلمين في خليج جريمو أو خليج سان تروبيه، ونزلوا إلى الشاطئ، ولجأوا إلى غابة كثيفة تظللها الجبال، ثم هاجموا بعض الضياع القريبة وفتكوا بسكانها. ولما رأوا منعة معقلهم سواء من جهة البر أم البحر، عولوا على الاستقرار فيه، ودعوا إخوانهم من الثغور الإسلامية القريبة إلى القدوم؛ وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومتي الأندلس وأفريقية؛ فوفد عليهم كثير من المغامرين البواسل، ولم تمض أعوام قلائل حتى استقروا في ذلك المكان وأنشأوا له سلسلة من المعاقل والحصون أمنعها وأشهرها حصن تطلق عليه الرواية الفرنجية المعاصرة اسم (فراكسنتم) والمظنون أنه هو المكان الذي تقوم عليه اليوم قرية (جارد فرينيه) - الواقعة في سفح جبال الألب، وما زالت ثمة آثار تدل على قيام معاقل قديمة في ذلك المكان. ولما كثر جمعهم واشتد ساعدهم، أخذوا في الإغارة على الأنحاء المجاورة، وأصبحوا قوة يخشى بأسها؛ وسعى إليهم بعض الأمراء والسادة المتنافسين يستظهرون بهم بعضهم على بعض، فلبوا الدعوة، وانتزعوا من بعض السادة أراضيهم، وأعلنوا أنفسهم سادة في الأنحاء المغلوبة؛ وبثوا الذعر والروع في جنوب بروفانس حتى وصفهم كاتب معاصر (بأن واحداً منهم يهزم ألفاً واثنين يهزمان ألفين).
وكانت هذه أول خطوة في استعمار العرب لجنوب فرنسا. وفي خاتمة القرن التاسع اتخذ المستعمرون خطوة أخرى. فتقدموا نحو جبال الألب غرباً وشمالاً. وكانت مملكة آرل قد ضعفت واضمحلت، وخلف بوسون ولده لويس، ولكنه ذهب إلى إيطاليا ليحارب إلى جانب حلفائه، فهزم هنالك وأسر، وتركت مملكته بلا دفاع؛ وساد الانحلال والفوضى في غاليس كلها. فانتهز المسلمون تلك الفرصة، واخترقوا مفاوز دوفينه، وعبروا (مون سنى) أهم ممرات الألب الفرنسية، واستولوا على دير نوفاليس الشهير الواقع في وادي (سيس) على حدود بييمون، وفر الأحبار في مختلف الأنحاء (سنة 906م) وأغار المسلمون على القرى والضياع المجاورة ونهبوها وفتكوا بأهلها، وأسر بعضهم وأخذوا إلى (تورينو) (بإيطاليا) وسجنوا في ديرها، ولكنهم استطاعوا أن يحطموا أغلالهم، وأضرموا النار في الدير وفي المدينة، وفروا عائدين إلى زملائهم؛ واشتد بأس العرب في تلك الأنحاء، واحتلوا معظم ممرات الألب، فسيطروا بذلك على طرق المواصلة بين فرنسا وإيطاليا؛ ثم انحدروا من آكام الألب إلى سهول بييمون، وأغاروا على بعض مناطقها.
وفي سنة 908 نزلت سرية قوية من البحارة العرب في شاطئ بروفانس على مقربة من (إيج مورت) ونهبت دير بسالمودي. وكانت الأديار والكنائس يومئذ مطمح أنظار الغزاة لما كانت تغص به من الذخائر والأموال. وانتشر العرب بعد ذلك في جميع الأنحاء المجاورة، واجتاحوا كل ما في طريقهم من البسائط؛ وهاجموا مرسيليا وهدموا كنيستها، وغزوا ايكس، وسبوا النساء وتزوجوا بهن ليكثر نسلهم ويقووا به، وانضم إليهم كثير من النصارى المغامرين من أهل هذه الأنحاء؛ وهجر السادة والأغنياء حصونهم وقصورهم والتجئوا إلى الداخل خشية القتل أو الأسر، وأغلق العرب طريق الألب إلى إيطاليا. وكان يمر بها كل عام ألوف من الحاج الذين يقصدون إلى رومة، واقتضوا منهم الضرائب الفادحة ليسمحوا لهم بالمرور.
- 3 -
ثم أتخذ العرب خطوة جديدة في سبيل التقدم إلى أواسط أوربا، فدفعوا غزواتهم إلى بيمون ومونفراتوا. وتقول لنا الرواية الكنسية المعاصرة إنهم وصلوا في أوائل القرن العاشر إلى حدود ليجوريا على شواطئ خليج جنوه؛ ويروي ليوتبراند وهو كاتب معاصر أن العرب غزوا سنة 906 مدينة (آكي) من أعمال مونفراتو الشهيرة بحماماتها (وهي على مقربة من تورينو)، ثم غزوها ثانية سنة 935 بقيادة زعيم يدعى (ساجيتوس) ولكنهم هزموا ومزقوا؛ وفي هذا الوقت أيضاً، نزلت شرذمة قوية من البحارة الأفريقيين بساحل جنوه، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها، وأسرت جموعاً كثيرة من النساء والأطفال. وفي سنة 939 غزا العرب منطقة (فاليه) في جنوب سويسرا، ونهبوا دير (أجون) الشهير، وغزوا في الوقت نفسه منطقة (تارانتيز) من أعمال سافوا الوسطى، ثم اتخذوا منطقة (فاليه) قاعدة للأغارة على الأراضي المجاورة في سويسرا وإيطاليا ونفذوا منها إلى أواسط سويسرا ثم إلى (جريزون) في شرق سويسرا، ونهبوا دير ديزنتي أشهر وأغنى الأديار السويسرية، ونهبوا طائفة أخرى من الأديار والكنائس الغنية. وفي بعض الروايات أيضاً أن العرب وصلوا في غزواتهم إلى بحيرة جنيف، وجازوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها. وكانت سويسره يومئذ من أقاليم مملكة بورجونيه، وملكتها يومئذ (الملكة برت) الوصية على ولدها الطفل كونراد، فارتدت حين اقتراب العرب إلى حصن ناء في جهة نيوشاتل.
وفي سنة 940 غزا العرب فريجوس، وكانت يومئذ من أكبر وأمنع ثغور فرنسا الجنوبية؛ وغزوا أيضاً ثغر الطولون، ففر السكان إلى الجبال، وعاث العرب في تلك الأنحاء، وخربوا المدن والحصون، وأحرقوا الأديار والكنائس.
ولما اشتدت وطأة العرب في جنوب فرنسا وبلغ السخط من غزواتهم وعيثهم ذروته، اعتزم سادة الجنوب وعلى رأسهم هوج ملك بروفانس أن يبذلوا كل ما في وسعهم لسحق ذلك العدة المزعج؛ ورأى هوج أن يبدأبافتتاح حصن فراكسنيه (فراكسنتم) الذي يمنع به العرب ويتخذونه قاعدة تأمين مواصلاتهم مع أسبانيا وأفريقية، وقاعدة للإغارة على الداخل، وكتب إلى صهره إمبراطور قسطنطينية يطلب منها أسطولاً من قاذفات النار اليونانية حتى يستطيع مهاجمة العرب من البر والبحر معاً. فلبي نداءه، وفي سنة 943 رسا أسطول بيزنطي في مياه نروبيه، وزحف هوج في نفس الوقت بجيشه على فراكسنيه؛ وهوجم العرب من البر والبحر بمنتهى الشدة وأحرقت سفنهم؛ ونفذ هوج إلى الحصن بعد قتال رائع، وفر العرب إلى الآكام والربى، وكاد يسحق سلطانهم في تلك الأنحاء. ولكن حدث عندئذ أن علم هوج أن خصمه ومنافسه بيرانجيه قد عاد إلى إيطاليا لينازعه في انتزاع عرشها، فصرف هوج الأسطول، واضطر أن يعقد الصلح مع العرب بشرط أن يبقوا في رؤوس الألب وممراته وأن يغلقوا الطريق إلى إيطاليا في وجه خصمه؛ وبذلك استعاد العرب قلاعهم وسيادتهم في جنوب بروفانس.
واحتل العرب آكام الألب وممراتها، وفرضوا الضرائب الفادحة على المسافرين، واستطاعوا بسيطرتهم على ممر سان برنار الكبير الموصل بين سويسره وإيطاليا وغيره من الممرات والمعاقل الجبلية، أن يجتاحوا الأنحاء المجاورة، وأن يبثوا فيها الذعر والروع واستقرت منهم جموع كبيرة في السهول والضباع القريبة من معاقلهم، وتزوجوا النساء الأسيرات، وزرعوا الأرض، واكتفى أمراء هذه النواحي بأن يحصلوا منهم بعض الضرائب.
ونفذ العرب أيضاً إلى منطقة نيس أجدى ولايات مملكة آرل
الجنوبية، واجتحاوا شاطئ ليجوريا كله (جنوه)؛ بل يظهر أن
سرية منهم استقرت في نيس ذاتها، وما زال في نيس إلى
اليوم حي يعرف بحي العرب وأخيراً نفذ العرب إلى قلب ولاية دوفينه وغزوا مدينة جرينوبل واحتلوها مدى حين،
واحتلوا واديها الخصيب، (جريزيفودان) الذي يجري فيه نهر
الازير فرع الرون، وفر أسقف جرينوبل وزملاؤه إلى الشمال
حاملين لرفات قديسهم. للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي