مجلة الرسالة/العدد 72/بين فن التاريخ وفن الحرب
→ من تراثنا العلمي | مجلة الرسالة - العدد 72 بين فن التاريخ وفن الحرب [[مؤلف:|]] |
في الأدب الدرامي ← |
بتاريخ: 19 - 11 - 1934 |
8 - خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي (رئيس أركان الجيش العراقي)
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه
ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير!
فلا نامت أعين الجبناء) خالد بن الوليد
والغريب في ذلك أن الفرق كانت تعيش مستقلاً بعضها عن بعض، وكانت تتقاتل بخلاف فرق القبائل الأخرى. ولعل الداعي إلى ذلك أنها كانت حسيمة لا يمكن لرئيس واحد السيطرة عليها، وأنها في بلاد جعلتها بمأمن من غزوات القبائل الأخرى فلم تر الفرق والبطون حاجة إلى الوحدة.
ويظهر أن مالك بن نويرة استطاع أن يستميل سجاحاً إلى جابنه لقرابته منه، وأراد أن يستغلها لمصلحته فيضرب بها الفرق المخالفة له ويرأس بني تميم بالقوة، أما هي فكانت تريد أن تستفيد منه للهجوم على المدينة. ومال وكيع بن مالك رئيس بني حنظلة إلى جانبه. وهكذا مالت شعب بني مالك إلى جانب سجاح.
وكانت الشحناء قبل ذلك شديدة بين رؤساء بني تميم كما نعلم. ولما ورد خبر وفاة الرسول عليهم أرسل بعضهم الصدقات إلى المدينة، وانتظر بعضهم ما يصنع البعض الآخر. ويروى أن قيس بن عاصم رئيس مقاعس والبطون قال (وا ويلنا من ابن العكللية - يريد به الزبرقان - والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع، لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين بها أبا بكر فيسودني عنده) فعزم قيس على توزيع الصدقات على مقاعس والبطون ففعل، وعزم الزبرقان على الوفاء بإرسال الصدقات إلى المدينة. وكانت النتيجة أن نشب القتال بين عوف والأبناء من جهة والبطون من جهة أخرى، وبين الرباب من جهةً ومقاعس من جهة أخرى.
خضم وحنظلة وبين بهدي ويربوع.
ولما وصلت سجاح إلى الحزن أرض بني يربوع واتفقت مع مالك بن نويرة والتحق بها وكيع بن مالك شرع مالك ينفذ خطته ليرأس بني تميم، فبدأ بقتال الرباب وعوف والأبناء، فلم يظفر بهم بل دارت الدائرة عليه وعلى سجاح، فوقع وكيع أسيراً بيد الرباب. وأرادت سجاح أن تجرب حظها مع بهدي وخضم من شعب بني عمر فكان نصيبها الخيبة أيضاً. فلما لم تظفر بطائل تركت مالكاً وانسحبت برجالها من بلاد بني تميم وسارت إلى اليمامة.
هذا هو الموقف حين كان خالد يجول ويصول في بلاد بني أسد ولم يكن يجهله، لذلك لم يكد ينتهي من أمر بني أسد حتى تراه قد انتهز الفرصة وأمر جيشه بالمسير إلى أرض بني تميم دون أن ينتظر أمراً من الخليفة، وهكذا نراه يستعمل إبداعه ويسير جيشه نحو البطاح برغم مخالفة الأنصار له مدعين أن عهد الخليفة إليهم أن يقيموا بعد فراعهم من بزاخة إلى أن يكتب إليهم. إلا إن خالداً تقدم نحو البطاح قائلاً لهم إنه هو الأمير وإليه تنتهي الأخبار وإن لم يأته أمر الخليفة، فانه لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة بحياله. وشعب بني تميم نافرة منه. لذلك لم يتردد خالد في الذهاب إليه من دون الأنصار.
والواقع أن مالك بن نويرة بقى وحيداً بين بني تميم، لأن صفوان بن صفوان كان قد أرسل الصدقات إلى المدينة وكذلك الزبرقان، أما قيس بن عاصم فكان عليه، وكذلك وكيع بن مالك لما سمع بانتصارات خالد أرسل صدقات بني حنظلة إليه. فبقى مالك حائراً ماذا يعمل، وكان بالبطاح مع رجاله من بني يربوع، والبطاح أرض دون الحزن، وهي ذات مراتع خصبة وفيها مياه كثيرة، فالقصيبة والبريدة من مواقعها.
وندم الأنصار على تخلفهم لأنهم خشوا أن تصيب المسلمين مصيبة فيلاموا عليها، فأوفدوا رسولاً إلى خالد يطلبون منه الإقامة إلى أن يلحقوا به، فأقام خالد حتى لحقوا به فسار إلى البطاح. والروايات غير متفقة في أمر مالك بن نويرة. ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً قاتل المسلمين برجاله من بني يربوع فقتل في القتال. ومنها ما يزعم أنه لما تأكد من الخيبة فرق رجاله وأمرهم بألا يقاتلوا المسلمين ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد البطاح بث أربع سرايا إلى جهات مختلفة، فرجعت السرية التي كان يقودها أبو قتادة الأنصاري بمالك والبعض من رجاله.
ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً حارب السرايا التي أوفدها خالد فقتل، ومنها ما تزعم أنه وقع أسيراً في القتال فأمر خالد بضرب رقبته مع الأسرى الآخرين، والبعض الآخر من الروايات تذكر أن خالداً أراد قتل الأسرى بما فيهم مالك، إلا أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد أن يحبسوا، وكانت الليلة شديدة البرد، فأمر خالد منادياً فنادى أن أدفئوا أسراكم، وكانت كلمة الدفء في لغة كنانة تعني القتل، فقتلهم الخفراء وقتل ضرار بن الأزور مالكاً.
وكان قتل مالك على هذه الصورة، وتزوج خالد بامرأته ليلى بعد قتله بمدة قصيرة. وهذا مما جعل عمر ينقم على خالد فطلب من أبي بكر أن يعاقبه على فعلته هذه، فاضطر الخليفة إلى استقدام خالد إلى المدينة وطلب الإيضاحات منه، فلما اقتنع أن خالداً لم يقصد قتل مالك أعاده إلى جيش المسلمين وكلفه بالمسير إلى اليمامة ليقاتل مسيلمة الكذاب.
الحركات في اليمامة
من الصعب التثبت من المدة التي قضاها خالد بن الوليد في البطاح حتى نعلم الوقت الذي تقدم بجيشه نحو اليمامة لمقاتلة بني حنيفة. فيكاد أكثر المؤرخين من العرب يتفق على أن القتال في اليمامة وقع في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية. أما أبو بشر الدولابي واليعقوبي فيزعمان أن القتال وقع في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
فمبدأ السنة الثانية عشرة الهجرية يوافق شهر آذار (أبريل) سنة 633 ميلادية. والذي نعلمه إن خالداً توجهه من ذي القصة نحو بزاخة في منتصف شهر أيلوم (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر)
وقضى خالد في حركته نحو بزاخة أكثر من عشرين يوماً يترقب أخبار طيء. وبعد انتصاره على جيش طليحة بن خويلد مكث في بني أسد مدة غير قصيرة ليقبل إسلام المرتدين ويجمع منهم السلاح. أضف إلى ذلك قتاله في ظفر، وانتظاره مجيء رؤساء بني عامر.
ويدعي مؤرخون أن مالكاً بن نويرة قتل خطأ في ليلة شديدة البرودة. وعلى ما في كتاب الطبري رواية عن سيف ابن عمر أن الأسرى من بني يربوع حبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء. والليالي الشديدة البرد في البادية تقع في أشد شهري الشتاء برداً وهما كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير). إذن وقع القتل بين أواخر كانون الأول وأوائل كانون الثاني فتكون حادثة البعوضة وقعت بين شهري شوال وذي القعدة في السنة الحادية عشرة الهجرية.
يقيناً أن خالداً قضى مدة غير قصيرة في البطاح، وقضى وقتاً في ذهابه إلى المدينة ملبياً دعوة الخليفة. ولما عاد منها لم يحرك جيشه نحو اليمامة بمجرد وصوله إلى المعسكر، بل أنتظر مدة لورود النجدة التي أمد بها الخليفة جيش المسلمين. فيظهر من كل ذلك أن الحركة من البطاح نحو اليمامة وقعت في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية - أي في ربيع سنة 633 ميلادية، في شهر آذار أو شهر نيسان (مايو).
ومن رواية رواها أبو هريرة نستدل على أن سلمة بنت عمير الحنفي كان يشجع بني حنيفة على المقاومة بعد معركة عقرباء فينادي قائلاً: (يا بني حنيفة قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء، فأن الحصن حصين وقد حضر الشتاء). ومعنى ذلك أن الحركات في اليمامة جرت في صيف الثالثة عشرة الهجرية - أي بدأت حوالي شهر مايو لسنة 633ميلادية.
منطقة الحركات
اليمامة مؤلفة من مقاطعتي العارض والخرج الحاليتين، ومقاطعة الخرج من أخصب مقاطعات نجد، فالماء مبذول فيها وهو على عمق بضعة مترات تحت الأرض. ولما كانت أرضاً منخفضة تنصرف إليها مياه الأمطار من الجبال والهضاب التي تحيط بها، ومدينة اليمامة - العاصمة القديمة - واقعة فيها.
ويدعي كثير من الجغرافيين بأن أرض اليمامة القديمة هي مقاطعة الخرج الحالية. وهذه المقاطعة واقعة في جنوب شرقي العارض، ويحدها من الشرق وادي حنيفة، وعلى أحدها شعبه اليمنى بنيت مدينة اليمامة. ولا تزال مقاطعة الخرج من أكثر المقاطعات النجدية نفوساً وفيها مراعي خصبة وبساتين نخل كثيرة،
ويحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق هضبة العرمة، وهي الهضبة المرتفعة المشرفة على الدهناء، ومن الغرب الأنفدة الموازية لسلسلة طويق، ومن الشمال مقاطعة القصين. والمنطقة جبلية تعد من أوعر مناطق نجد من حيث الوديان والمضايق والروابى والآكام.
وتمدد جبال طويق في وسط المنطقة من الشمال إلى الجنوب وهي حجرية كلسية جرداء متموجة، تتألف من سلسلتين متوازيتين، وسفوحها الغربية منحدرة، أما سفوحها الشرقية فقليلة الانحدار. ويبلغ ارتفاعها زهاء ستمائة قدم على الهضبة الغربية. وتمتد الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وتنكسر في الوسط وتغير اتجاهها إلى الجنوب فالجنوب الغربي فتنتهي إلى وادي الدواسر. وفي المحل الذي تنكسر فيه تجري الوديان من الشرق إلى الغرب وتصب في وادي حنيفة. وهذه الوديان ضيقة وعرة في محل الانكسار حيث ترتفع سفوحها الشمالية والجنوبية بانحدار شديد.
وتنصرف مياه الأمطار التي تهطل على الجبال إلى الشرق والغرب في الوديان والشعب؛ فمنها ما يصب في وادي حنيفة، ومنها ما يكون وادي الخفس وشعيب العتشى حيث تنصرف مياهها إلى الدهناء. ومنها ما يصب في مقاطعة الوشم ويسقي منخفضاتها ويكون واحتها الخصبة. والشعيب الذي يكون وادي الخفس ينبع من جنوب ثادق ويجري نحو الجنوب إلى الحريملة ومنها يتوجه شرقاً. وهذا الشعيب ووادي حنيفة يقسمان الجبال إلى سلسلتين: الغربية منهما مرتفعة ووعرة وهي طويق، أما الشرقية فمنخفضة ولطيفة الانحدار وهي روابي العارض في الشمال وجبل صلبوخ في الوسط والجبيل في الجنوب. وأما وادي حنيفة (وهو أعظم وادي في هذه المنطقة) فقد سميت القبائل الساكنة على جانبيه باسمه. وصدره في الأرض الفاصلة بين العارض من جهة، والمحمل السدير من جهة أخرى ويبدأ الوادي في ثنية اليمامة في شرقي خشم الحيسية، ويتكون من عدة شعب تجري من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال. فيستمد الوادي ماءه منها فيجري من الغرب إلى الشرق. وفي جوار عقرباء، حيث نشبت المعركة الفاصلة بين جيش خالد وبين جيش مسيلمة، يغير الوادي اتجاهه فيجري من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي في وادٍ يضيق في بعض المحلات ويعرض في البعض الأخر، وهو شديد الوعورة في الشمال وسهل المجرى في الجنوب. وعلى حافتي الوادي شيدت القرى والمدائن، حيث استقيت المياه المنصرفة إليه، وزرعت البساتين حولها. والوادي في هذا القسم يتغذى بعدة شعاب ينصب أكثرها فيه من السفوح الغربية.
وفي محل انكسار سلسلة طويق تصب فيه عدة وديان بحيث إنها تغير اتجاهه في جوار السليمية واليمامة فيتوجه نحو الشرق فالجنوب الشرقي إلى أن ينتهي في رمال الربع الخالي.
وكان من وصايا أبي بكر إلى خالد بن الوليد أن يأخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة. وكان الخليفة محقاً في هذه الوصية، لأن أهل اليمامة سكان القرى المبنية في الوديان الضيقة، وعلى سفوح الجبال الوعرة، بنو دورهم بالحجارة، وسوروا قراهم بالجدران وأنشأوا الحدائق بالقرب من قراهم، وزرعوا فيها النخيل والأشجار وأحاطوها بالحجارة ليمنعوا المارة من دخولها أو ليعتصموا بها عند الحاجة.
فأهل اليمامة إذن لا يشبهون أهل البادية في القتال، فهم معتصمون في جبالهم المنيعة، ومعتزون بقراهم المتينة، وحدائقهم المستحكمة ولا تزال آثار هذه القرى ظاهرة في تلك الأنحاء. وهذه القرى كثيرة ومنتشرة على طوار وادي حنيفة، وفي مقاطعة الخرج، وفي الوديان والمنخفضات والواحات.
يتبع
طه الهاشمي