مجلة الرسالة/العدد 719/مقاييس وأصول في النقد والشعر
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 719 مقاييس وأصول في النقد والشعر [[مؤلف:|]] |
تفسير الأحلام ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1947 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
(كتب الأديب السوري العصري الأستاذ خليل هنداوي مقالاً في مجلة الكتاب الفيحاء تناول فيه بالنقد مؤلف الأستاذ سيد قطب الحديث عن (كتب وشخصيات). واستطرد من نقده إلى الكلام على ما سماه المدرسة الشوقية والمدرسة العقادية في الشعر، ثم انتهى من كلامه قائلاً: ومثل شوقي لن تظهر قيمته مدرسة عقادية لأنها أظهرت فيه تحيزها يوم كانت تريد أن تجعل من المازني الشاعر الأكبر، ومن شكري الشاعر المصور. وها قد طلق المازني الشعر لأنه لم ير نفسه أهلاله، وها شعر شكري لا يردده أحد، لم يبقى من تلك الفئة إلا العقاد. والعقاد رجل ذهنية جبارة وعقل خصيب عجيب، لا يسمح له أن يطير إلا بقدر. . .
(وكان من الحق أن أرجع إلى صاحب المدرسة في هذا السؤال الذي أردت له جواباً شافياً عن هاتين المدرستين. . . فما قول الأستاذ فيما كتبه الهنداوي وما زعمه من التحيز وما حكم به بين المدرستين. . . الخ.
علي نافع
ونحن نوجز غاية الإيجاز في الجواب المفيد على هذا السؤال، فنقول إن التحيز في أحكام الأدب - وفي جميع الأحكام - أخلق أن ينسب إلى الذين يستحسنون أو يستهجنون لغير سبب يعلمونه إلا إنهم قد استحسنوا وإنهم قد استهجنوا ولا مزيد.
أما أن يبنى حكمك على أصول ومقاييس نعم الآداب كلها ولا تخص أحداً من الشعراء أو الكتاب فليس ذلك من التحيز في شيء كائناً ما كان الرأي الذي ترتئيه. وليس المتحيز إلا الذي يستمع إلى تلك الأصول والمقاييس فلا ينقدها ولا يبطلها ولا يفهمها على الوجه الصحيح.
ونحن لا يعنينا شاعر من الشعراء بعينه إذا فهمنا الشعر على حقيقته وطلبناه من معدنه. أما إذا كان نجهل تلك الحقيقة ولا نعرف المحك الصادق لذلك المعدن فالمصيبة أعم من محاباة شاعر أو الإجحاف به والتحامل عليه لأنها مصيبة الميزان نفسه لا مصيبة الشيء الموزون في إحدى كفيته، أو في كلتا كفتيه.
ونحن لم نقل إن المدرسة الشوقية خلو من محاسنها ومزاياها، ولا قلنا إنها لم تشتمل على شيء غير النقائص والعيوب.
ولكننا قلنا إنها لم تحقق للشعر أشرف مقاصده وأرفع مزاياه، وعرضناها على المقاييس الخالدة التي لا سبيل إلى التشكيك فيها بحال من الأحوال، فلم يصدق عليها مقياس منها ولا حاول أحد أن يصحح لنا ما قسناه مخالفاً فيه مذهبنا في (التطبيق).
وهذه خلاصة تلك المقاييس التي ندع إنكارها لمن يستطيع إنكارها، أو ندع تطبيقها على خلاف رأينا لمن يشاء كما يشاء.
فالمقياس الأول أن الشعر قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لفظية أو صناعية.
فما من أمة على وجه الأرض إلا وهي تنظم الشعر على اختلاف اللغات والأوزان.
وهي لا تنظم الشعر لأنها تتكلم بهذه اللغة أو تلك، وتعرف هذا الضرب من العروض أو ذاك. ولكنها تنظمه لأنها كائنات إنسانية حية تجمعها كلها سليقة الإنسان ونوازع الحياة.
فأول مقياس للشعر الصادق الرفيع إنه يحتفظ بقيمته الكبرى إذا ترجم إلى جميع اللغات، لأنه يرجع إلى الطبيعة ولا يجعل مرجعه كله إلى أعاريض الأوزان أو موقع الألفاظ في الآذان.
نعم إن الموسيقية اللفظية مزية من مزايا الشعر في كل لغة من اللغات.
ولكنها إذا كانت هي مزيته الوحيدة؛ أو مزيته الكبرى التي لا ينهض بغيرها، فأول ما يفهم من ذلك إنه كلام منفصل من الطبيعة الإنسانية، وإنه صناعة محض وتلفيق من الألفاظ والأوزان، وليس من الشعر الإنساني الخالد في طراز رفيع.
والمقياس الثاني إن الشعر تعبير عن نفس صاحبه وإن كان وصفاً لغيره.
فإذا قرأت ديواناً كاملاً من الشعر وجب أن تعرف صاحبه وتتمثله في دخائل طبعه ونوازع سريرته وأطوار حياته.
وإذا تتبعت غزله - مثلاً - في أطوار تلك الحياة وجب أن تتمثل لك سمات حبه وسمات محبوبه في كل طور من تلك الأطوار.
فلا يكون الشعر تعبيراً عن نفس حية إذا كنت تجهل تلك النفس حين تقرأ ديوان صاحبها، ولا تستخرج لها من ديوانه ترجمة حياة داخلية لا يعوزها شيء غير الأرقام والأعلام.
ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كنت تقرأ غزل الشاعر كله من صباه إلى شيخوخته فلا ترى فيه فارقاً بين محبوب ومحبوب، ولا بين عاطفة وعاطفة، ولا بين شباب ومشيب.
ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كان صاحبه يزعم لك إنه معطيك صورة من الأحياء والجمادات وهي لا يعطيك صورة من نفسه.
وإنما هذا صناعة وفقر في نوازع الحياة؛ لا يبلغ بقائله من القوة أن يميزه (شخصاً كاملاً) بين غيره من شخوص الأحياء.
والمقياس الثالث للشعر الصادق أن القصيدة بنية حية أو (بنية عضوية) يقع كل جزء منها في موقعه الذي لا يغني فيه غيره، كما تتألف الأجسام من الجوارح والأعضاء.
فإذا عالجتها بالتقديم والتأخير ماتت كما يموت الجسم الحي الذي تضع قدميه في موضع رأسه أو رأسه في موضع قدميه.
أما إذا جاز لك أن تبعثرها شذر مذر ثم تعيدها في كل مرة على وضع جديد فهي إذن من عالم الجماد لا من عالم الأحياء. بل هي من عالم الجماد الذي لا فن فيه ولا تنسيق له ولا معنى لتركيبه. لأنك لا تستطيع أن تصنع هذا الصنيع بجماد كالتمثال أو جماد كالدولاب أو القدح المنقوش.
هذه أمثلة من المقاييس التي ندين بها في نقد الشعر وتقدير الشعراء. . .
فعلى أي وجه تجوز المخالفة فيها؟
لا تجوز المخالفة فيها إلا على وجه من وجهين:
فإما أن يقول القائل إن هذه المقاييس باطلة في جملتها وتفصيلها، وإن الشعر قد يكون من طراز الشعر الرفيع وهو لا يعطينا مزية إنسانية بمعزل عن رنين الأوزان وطلاوة الألفاظ، ولا يعبر لنا عن نفس صاحبه ودخيلة حياته، ولا تتماسك قصائده تماسك البنية الحية التي تستعصي على التقديم والتأخير.
فإن قال القائل هذا فهو وشأنه فيما يراه، والناس وشأنهم في الأخذ بما رآه.
أما إذا قبل تلك المقاييس وارتضاها فليس له غير وجه واحد للمخالفة فيما قدمناه، وذاك أن يقول إن المقاييس صحيحة ولكنها تنطبق على شعر المدرسة الشوقية وما جرى مجراها.
ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يستخلص من دواوين شوقي صورة صادقة له كالصورة التي نستخلصها من الدواوين لأمثال المتنبي والمعري وأبن الرومي وأبي نواس وأن يعرف من غزله أطواراً لحبه في الشاب والمشيب، وأوصافاً لمن أحبهم ونظم الغزل فيهم على اختلاف المحاسن والسجايا وألوان الغرام.
ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يترجم قصائد شوقي ويحتفظ لها بالجوهر الذي لا يزول بزوال المحاسن اللفظية والنغمة الموسيقية، ويستطيع أن يتحدى الناقد بقصيدة تتماسك في بنيتها كما يتماسك الأحياء وتستعصي على محاولة التقديم والتأخير.
فإذا استطاع هذا جاز له إن يسمى استحسانه استحساناً وأن يسمى كلامه رداً على نقد وبياناً في معرف الآراء والأذواق.
أما أن يكون قصاراه (الاستحسان وبس)! فله أن يستحسن (وبس) كما يريد، وله أن يقول إن المستحسنين مثله (وبس) كثيرون. . . ولكن أي استحسان هذا الذي تقيمونه معياراً لآداب الإنسانية يا هؤلاء؟
إن الذين طربوا لشعر شوقي ولم يلمسوا مواطن النقص فيه هم بأعيانهم أولئك الذين طربوا لتلك الأغاني السقيمة الشائعة، ورددوها وترنموا بها ولا يزالون يترنمون بها وهي تغثي النفوس وتفرغ المعدات.
أفهذا هو المقياس القويم المستقيم، وما نبسط نحن من خلاصة الآداب الإنسانية هو التحيز والعجز عن التقدير؟
أفهموا يا هؤلاء أولاً.
وأفهموا يا هؤلاء ثانياً.
وأفهموا يا هؤلاء أولاً وأخيراً.
أفهموا قبل أن تتهموا، وأفهموا قبل أن تنصبوا أنفسكم قدوة للنقد والتقدير، ومحكمة تقضي بالتحيز وتستأثر لقضائها بالإنصاف.
عباس محمود العقاد