مجلة الرسالة/العدد 718/الأدب في سير أعلامه
→ مراجعات في الفلسفة: | مجلة الرسالة - العدد 718 الأدب في سير أعلامه [[مؤلف:|]] |
مضحكات مبكيات ← |
بتاريخ: 07 - 04 - 1947 |
9 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
روسيا لا تزال في الغسق
أهل على أوربا نور القرن التاسع عشر وروسيا ما تزال في الغسق؛ ولئن لاحت في أفقها بشائر الفجر لحظة على يد قيصرها الإسكندر الأول ولى أمرها في أول أعوام هذه القرن فإنها ما لبثت أن علمت أنه الفجر الكاذب!
كان الإسكندر يريد أن يوجه همه إلى النهوض ببلاده في الداخل، وقد اعتزم أن يجنبها ويلات الحرب في الخارج، ولكن سرعان ما فطن أن طوفان الحرب لابد مدركه فحالف إنجلترة والنمسا وظاهرهما على نابليون، ومن ثم ذهبت بشائر الفجر أباديد في حلكة الليل العابس.
وما لبثت أن ساق نابليون الجيش الأعظم ليذل به روسيا ولكن حملته عليها كانت بداية نهايته؛ ولما حمل بعد وترلو إلى سنت هيلانة، أصبح القيصر في القارة مرموق المكانة عظيم الخطر ولكن هذا الوضع الذي هيأته الظروف لروسيا في سياسة القارة كان يتطلب رجلا غير الإسكندر، فلقد حار هذا الرجل بين دعاة الرجعية وأنصار الحرية كما أضله زمنا تصوفه وحلمه اللذيذ الذي خيل إليه أن في الإمكان أن تجعل أوربا تسامح المسيحية أساس العلاقات الدولية؛ وأخيرا تغلبت عليه سياسة مترنخ، فصار من أكبر أنصار الرجعية في القارة وفي روسيا، وفقد دعاة الحرية أملا عللوا به أنفسهم برهة على يديه.
وأخذت أوروبا تقاوم الرجعية فكانت تلوح بشائر النور مرة وتختفي مرة، ولكنها ترى كل مرة أسطع منها في سالفتها نورا وأطول أمداً حتى ذهب الليل وانهل النور فأضاء كل ركن في القارة ومحا كل ظلمة.
ولكن ليل روسيا قائم قاتم وآفاقها عابسة دامسة؛ وكان يدب تحت هذا الليل نحو تسعة وأربعين مليونا من الأنفس كلهم عبيد ومن هؤلاء زهاء ثلاثة وعشرين مليونا تابعون للقيصر، ومثل هذا العدد تابعون لملاك الأراضي، وما تبقى بعد ذلك فتابعون للكنيسة أو أوزاع وخدام.
ولم يك هؤلاء الملايين يملكون من أمرهم شيئا؛ إذ كانوا في كل أمر خاضعين لمشيئة سادتهم لا ينتقلون من جهة إلى جهة غيرها ولا يمتلكون شيئا أو يبيعونه إلا بإذن من هؤلاء السادة؛ وهم فوق ذلك مكلفون بأن يؤدوا للسيد ما يطلب من المال كضريبة أو كمنحة وأن يعملوا مسخرين في أرضه، وللسيد إذا باع أرضه أن يبيعهم كما تباع القطعان والسلع؛ وهو ينزل بهم ما شاء من أنواع العقاب كالجلد والحبس والنفي إلى سيبيريا.
وكان السادة الأرستقراط يعيشون عيشة مترفة، ولهم في قصورهم كل ما في الحياة الأوربية من مظاهر النعيم، فالموائد والحفلات الساهرة الأثاث والخدم على اختلاف أعمالهم ومراتبهم كل أولئك على النمط الأوربي. وأخذت العادات وآداب المجتمع الأوربي تتغلب على عادات الروس وعرفهم في هذه البيوت الأرستوقراطية التي تجعل قياس التمدن الأخذ بأكبر قسط من كل ما هو أوربي، حتى اللغة فإنهم في هذا الوسط يتكلمون الفرنسية في حفلاتهم التي تجمع بين الرجال والنساء وفق الأسلوب الأوربي. . .
وانحطت الحكومة، فلا أمانة ولا عدالة، ولا إصلاح؛ وكانت وظائف الدولة لمن يدفع من المال أكثر مما يدفع غيره، لو لمن كان له بذوي الجاه صلة، فأصبحت الرشوة أمرا لا غرابة فيه، وتفشت حتى تسللت إلى المحاكم دانيها وعاليها، ولم يكن للحكومة منهاج أو شبة منهاج للإصلاح، وحسب رجالها في المقاطعات أن يجمعوا لأنفسهم المال بكل ما وسعهم من حيلة أو واتاهم من بطش. . .
وكان الملايين من الزراع أضعف من أن يشتكوا؛ لهذا حملوا الآلام كما تحملها الدواب فلم يكونوا صابرين على حالهم وإنما لم تكن لهم فيه حيلة! ولقد كانت حال هؤلاء المساكين أسوأ كثيراً من حال المزارعين في فرنسا قبل ثورتهم الكبرى، ولكن أولئك الفرنسيين كانت بينهم طبقة امتلكت وتعلمت وتأثرت بكتابة المفكرين والفلاسفة وهي الطبقة الوسطى، ومن بين صفوف هذه الطبقة انبعثت الشكوى ثم رجفت بعد ذلك الراجفة!
أما في روسيا فلم يكن غير كبار الملاك وهم السادة وملايين الزراع وهم العبيد؛ على أن مقاومة الاستبداد في روسيا جاء على يد نفر من هؤلاء السادة المتملكين، الأمر الذي يبدو عجبا لما فيه من تناقض؛ ولكن للمسألة وجها يفسر هذا التناقض، وذلك أن هؤلاء السادة لم يكرهوا الاستبداد ولكنهم كرهوا أن تعتمد الحكومة القيصرية على طبقة الموظفين والحكام ومعظم رجالها من عنصر ألماني وتهمل أعيان الروس رغبة في القضاء على طموحهم نحو التسلط، ومن ثم رحب هؤلاء بكل شكوى تنبعث ضد القيصر وحكومته.
وثمة فريق آخر أشد العطف على كل رغبة في الإصلاح وهؤلاء هم رجال الجيش العائدون من فرنسا والقارة بعد سقوط نابليون وبخاصة الشبان، فلقد امتلأت قلوبهم بآمال وأحلام، وعادوا إلى روسيا آملين أن يطلع على بلادهم نور يزيح عنها هذا الغسق، كما عاد لافابيت وأقرانه من شباب فرنسا الذين تطوعوا في صفوف الأمريكان في حرب استقلالهم إلى وطنهم يحملون مبادئ الثورة ويرتقبون الميلاد الجديد. . .
وتسامع هؤلاء الرجال بالجمعيات السرية في القارة كالكاربوناري في إيطاليا والهيتيريان في اليونان، فأسسوا لهم في روسيا رابطة الخير العام، وجعلوها سرية بالضرورة، وتفرع من هذه الجمعية فرع في الشمال كانت وجهته الملكية الدستورية، وفرع في الجنوب كان لا يرى غير الجمهورية؛ كما نبتت في الجنوب جماعة سرية أخرى جعلت منهاجها ضم جميع السلاف في اتحاد عام ولكن هذه الجمعيات كانت كما وصفها أحد الكتاب (جيلا لا آباء له ولا أبناء)، فظلوا بعد أفكارهم ومبادئهم عن أذهان معاصريهم محصورين لا يكاد نطاقهم يتسع، ولم يأتوا عملا ذا بال إلا في سنة 1825 فإن لما مات الإسكندر ترك ثلاثة أخوة كان أكبرهم قسطنطين ولذلك فهو وارث الحكم، ولكن الذي ارتقى العرش كان نيقولا بدعوى أن أخاه تنازل له عن حقه كما أراد القيصر المتوفى؛ وأحيط ارتقاء نيقولا العرش على هذا النحو بشبهات فانتهزت الجمعيات السرية الفرصة ورفضت فرقة جيش موسكو أن تقسم يمين الولاء للقيصر الجديد، ووقعت بعض القلاقل في الجنوب، ولكن القيصر ما لبث أن تغلب على هذه الحركة في يسر وتعرف بحركة الديسمبريين لأنها وقعت في ديسمبر من ذلك العام؛ وقضى بعض أفراد الجمعيات نحبهم ونفى البعض إلى سبيريا. قال أحد زعمائهم عند إعدامه (لقد كان خطأي أني حالت أن أجمع الحصيد قبل أن أبذر الحب)؛ وقال آخر (لقد عرفت من قبل أن لا أمل لنا في النجاح كما عرفت أنه لابد أن أضحي بحياتي! إن ساعة الحصار آتية فيما بعد).
لقد كان الحصار الذي يرجون هو الحكم الدستوري والمساواة لدى القانون وتحرير الزراع؛ ولئن قضى عليهم اليوم فلم تذهب دماءهم عبثاً، دم هو مهر للحرية الزهراء. . .
واشتدت حلكة الغسق في عهد نيقولا الذي عرف منذ البداية بالصرامة القاسية، وامتدت يد الطغيان إلى كل مكان، فعلى كل ما يطبع من الكتب والصحف وما يرد منها من الخارج. رقيب عتيد له من السلطان ما يمكنه من إلقاء أي شخص في غيابة السجن أو نفيه بغير محاكمة؛ والشباب سجناء في روسيا لا يسمح له لهم بالتعلم في أوروبا مخافة العدوى، ورجال الشرطة السرية يبثون عيونهم في كل ركن، ولا يحد سلطانهم قانون ولا عرف؛ ولا تقل آثامهم وفظائعهم عن فظائع محاكم التفتيش الإسبانية في العصور الوسطى إن لم تزد عنها فحشا وهولا، والقيصر مهيمن متربع على عرشه يحسب سكون الناس رضاء وولاء أو لا يجري في حسابه من عصيان أو ولاء. . .
ونسى القيصر أو لم يدر بخلده أن الحرية يعمل لها أعداؤها وأنصارها على سواء، فأولئك يذيقون الناس لباس الذل والخوف ليزدادوا له مقتا ويحتالوا على النجاة منه؛ وهؤلاء يذيقونهم الأمن والسلام ليلذهم طعمه ويحرصوا على الدفاع عنه.
ونعم القيصر بالا بما يرى من هدوءه، ولكن دوى العاصفة يسمع من خارج روسيا لا من داخلها، فها هي ذي حرب القرم تضعه وجيشه منذ سنة 1853 تلقاء جيوش انجلترة وفرنسا وتركيا مجتمعة، ويتلفت القيصر باحثا عن حماسة الروس فينقلب إليه البصر خاسئا إذ أن كل ذي رأى في البلاد ينقم على الجيش ضعفه ويعزو ذلك إلى ما شمل الحكومة كلها من فساد. . ويحرم الطاغية من الاحترام كما حرم من المحبة، ويوشك أن يسمع دوياً آخر من داخل بلاده؛ وأي دوي كان إذ مس أذنه أشد إزعاجاً له مما احتواه ذلك المخطوط الذي تداوله الناس فيما تداولوا من المخطوطات على غفلة من الرقيب والشرطة السرية. قال مؤلفه فيما قال (يقول القيصر: لقد جعلني الله حيث أنا مهيمنا على روسيا فعليكم أن تنحنوا راكعين أمامي فإن عرشي هو كرسيه، ولا تعنوا أنفسكم بالمصالح العامة فإني أفكر من أجلكم وأسهر على مصالحكم كل ساعة؛ إن عيني الساهرة تنفذ إلى المساوئ الداخلية وإلى ما يعده لنا في الخارج أعداؤنا؛ وما أنا في حاجة إلى من يشير على فإن الله يلهمني الحكمة فافخروا إذا أيها الروس بأنكم عبيدي واجعلوا مشيئتي قانونكم.
ولقد أنصتنا معشر الروس إلى هذه الكلمات في خشوع عميق وسلمنا طائعين. فماذا كانت العاقبة؟ كانت عاقبة ذلك أن دفعت المصالح الحقيقية تحت جبال من أكداس الأوراق الحكومية، وصار يستمسك بحرفية القانون في كل ما يصدر منا، بينما يترك الإهمال والجريمة بغير عقاب إذا جاءت من أعوان الحكومة، هؤلاء الذين يتمرغون في التراب أمام الوزارة ثم يسرقون في غير حياء. . . لقد باتت السرقة أمرا مألوفا حتى أصبح أكثر الناس احتراما أكثرهم سرقة؛ وصارت تقرر كفايات الضباط بمجرد النظر؛ وإذا حصل شخص على منصب قائد فإنه في نفس الوقت يمكن عده حاكما قديرا أو مهندسا ممتازاً أو سياسيا حكيما. وإن هؤلاء الذين يختارون حكاما في الجملة هم طغاة حقا يوكل إليهم عذاب الناس في الإقليم؛ وكذلك تملأ المناصب الأخرى دون أقل مراعاة للاستحقاق، فسائس الخيل مثلا يعين رقيباً للمطبوعات! ولماجن الأحمق من حاشية القيصر يعين أميرا للبحر!. . . وماذا صنعنا نحن معشر الروس طوال ذلك الوقت؟ لقد نمتا!. . أدى الفلاح ما فرض عليه وهو يئن ورهن المالكأااا نصف ضيعته وهو يئن، وأدبنا جميعا ما يطلب منا لرجال الحكومة ونحن نئن؛ ولقد هززنا رؤوسنا أحيانا في جد هامسين إن هذا عار وهوان، كما تهامسنا أن لا عدل في ساحات العدل، وأن الملايين يقضون حياتهم عبثا في سبيل تمتع القيصر بسياحاته وجواسق حرسه ومباني أبهته وسرادقاته؛ إن كل شئ حولنا خطأ، ومع ذلك فأنا بضمير هادئ يشاغب بعضنا ليحظى بالتقدم خطوة ليلحق بهذه الخدمة التي نمقتها كل المقت. . . فإذا صاح أحد بنا بغتة في هذه الغفلة الشاملة أن أفيقوا وجاهدوا في سبيل الحق وفي سبيل روسيا فما أعظم ما يبدو لنا من سخفه، ثم إنه يتعلم في سجن مظلم في سبيريا أي إثم عظيم ارتكبه بمحاولته إقلاق ما يغط فيه الغافلون من العبيد من نوم عميق.
ولكننا مع هذا كله كان لنا عزاء واحد؛ أمر يحق أن نفخر به وذلك هو قوة روسيا، وها نحن أولاء أسفاه بعد تفاخرنا قد أخذنا على غرة وأحيط بنا ونحن غافلون. . . أفيقي يا روسيا! التهمك الأجانب من أعدائك وحطمتك العبودية؛ واضطهدك وأخجلاه الحمقى من ذوي السلطة ومن الجواسيس. . . . أفيقي من نومك هذا الذي امتد في جهل وغفلة وقفي ثابتة هادئة أمام عرش الطاغية واسأليه أن يقدم حسابا عن الكارثة القومية)
وكان رجال الحكومة يشعرون أن كثيرا من الأنظمة القائمة يومذاك إنما تقوم على ما يحسه الناس في أنفسهم من اطمئنان إلى قوة القيصر أو قوة الدولة، فلما سقط حصن سباستبول زلزلت القيصرية زلزالا عنيفا، حتى لقد تناثرت الإشاعات أن القيصر نيقولا حين قضى نحبه إنما مات منتحراً، ولقد كان حكم ذلك القيصر الذي حكم روسيا ثلاثين سنة أشبه بظلمة الليل إذ تشتد حلكته قبيل الفجر، وكان لروسيا آخر عهدها بالظلمة، فلما مات تنفست الصعداء، وتلفتت تتلمس مطعم النور.
(يتبع)
الخفيف