الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 717/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 717/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 717
الأدب والفن في أسبوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 03 - 1947


ساعة مع الأستاذ وديع البستاني:

كانت ساعة طيبة حافلة قضيتها مع الأستاذ الشاعر وديع البساني، وكان الأستاذ قد طار منذ قريب إلى لندن في مهمة سياسية عربية، فاغتنمها فرصة للبحث عن أصول الأدب الهندي القديم في مكتبة المتحف البريطاني ومراجعة الملاحم الهندية العريقة التي عكف على نقلها إلى اللغة العربية سنوات طويلة، وقد أشرنا إلى خبر هذا في عددين سابقين من (الرسالة) وبعد أن أنجز الأستاذ مهمته وأخذ طريق العودة إلى وطنه (حينا)، أثر النزول في مصر لقضاء فترة من الوقت، وقد زرته حيث ينزل بفندق الكونتنتال في أمسية من أمسيات الأسبوع الماضي فتلقاني بالسرور وجلس يُفيض علي من زاخر علمه، ويحدثني عن آثار جهده في نقل أصول الأدب الهندي وما وقف عليه في ذلك من التحقيقات، فكان حديثاً عامراً قيدت منه بعض الشوارد المفيدة والشواهد النافعة. . .

الحمى. . . الحرام:

. . . سألت الأستاذ عن هذه الملاحم الهندية التي عنى بنقلها وعكف على ترجمتها، فوضع بين يدي حزمة ضخمة من المجلدات والطوامير وقال هذه هي الآثار المقدسة. وإذا قلت المقدسة فإني أعني إنها ظلت طوال العصر القديم كالحمى الحرام لا يفتح بابه لكل طارق ولا يباح عبروه لكل سالك، إذ كان البراهمة يحيطون كتب الحكمة القديمة المعروفة باسم (الفيدا) وملحمتي الرامايانا والمهابهاراتا بسياج من التقديس، فكان البراهمة لا يبيحون الإطلاع عليها إلا لأبناء الطبقات الممتازة، أما العامة من العمال وغيرهم فكانوا يحللون قتل الشخص منهم إذا اختلط نفسه ولو مصادفة بنفس من يتلو آية من كتب الحكمة أو يردد بيتاً من الرامايانا والمهابهارات، ولما قام حاكم الهند في عام 1784 بترجمة نشيد السماء ونشيد المعلم (كريشنا) إلى اللغة الإنجليزية نثراً وضع لذلك النشيد مقدمة افتخر فيها بأنه كان أول من أتاح له البراهمة ترجمة هذا النشيد. والحق أن هذا النشيد - وعدد أبياته في اللغة الهندية القديمة نحو ستمائة بيت - هو أول ما نقل من الأدب الهندي القديم إلى لغة أخرى، ومن بعد ذلك توافرت جهود الباحثين في نقل الملاحم الهندية، فقد نقلت الرامايانا كاملةً إلى اللغة الفرنسية كما ترجمت إلى الإيطالية بقلم أديب إيطالي تحت رعاية أحد الملوك الإيطاليين. ولها ترجمات عديدة في الألمانية والإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى، وحين أقول الرامايانا فإني أقصد رامايانا فالميكي التي نظمت بالسنسكريتية وذلك تمييزاً لها عن ملحمة أخرى لنفس القصيدة وضعت منذ ثلاثة قرون بلغة أخرى من لغات الهند، وقد بلغني أن الأديب المسلم العظيم الدكتور عبد الحق رئيس جمعية ترقي الأدب الأوردي آخذ في ترجمة رامايانا فالميكي إلى اللغة الأوربية وهي من أشهر اللغات الحية في الهند اليوم. وأحب أن أقول لك إني أطلعت على هذه الرامايانا الحديثة مترجمة إلى الإنجليزية، فوجدتها قد نقلت في لغة رديئة وتروي قصصاً تطنب في ذكر راما البطل المعبود، وقد علمت أخيراً أن هذه الرامايانا أخرجت في السينما وتكلف إخراجها نحو 27 ألف جنيه ولكنها في مدى سنة حصلت للشركة التي تولت إخراجها 240 ألف جنيه ربحاً.

فتح جديد في علم الفيلولوجي:

قال الأستاذ: ولقد أدى نقل الملاحم الهندية القديمة إلى اللغات الأوربية إلى فتح باب جديد للبحث في فقه اللغة (الفيلولوجيا) وإن من نظر الآن في قاموس كامل للغة الإنجليزية يدهشه ما يرى من كثرة المفردات الإنجليزية التي ترجع إلى أصل سنسكريتي، وسيكون لنقل هذه الآثار إلى اللغة العربية نفس الأثر؛ فقد ثبت لي ثبوت اليقين إن هناك تشابهاً كثيراً بين المفردات في اللغة العربية واللغة السنسكريتية، فكلمة (الفيدا) وكلمتي دين وديانة، وأسمي (البستاني) يرجع إلى أصل سنسكريتي فقد وردت كلمة (بستان) في شعر جرير الخطفي، وهي في الأصل مؤلفة من كلمة (بو) و (ستان)، وأصل (بو) في اللغة البهلوية - أي الفارسية القديمة - بول، ومنها الكلمة العربية (فول) وهي البقل المعروض الذي إذا زرع منه الحقل كان أبهى ما يكون منظراً وأطيب ما يكون رائحة بزهره الجميل. ومن كلمة (بول) أخذ اسم الزهرة في الفرنسية والإنجليزية، والمعنى الجامع في هذا كله: الرائحة الطيبة. وأما كلمة (ستان) فهي أصل لمئات الكلمات في اللغات اللاتينية وفي اللغة العربية. فإن معناها المكان أو الوقوف، ومنها هندستان أي مكان الهند وتركستان أو مكان الترك. فكلمة (بستان) معناها مكان الروائح.

أقدم الملاحم وأطولها: وسألت الأستاذ عما حققه من تاريخ نظم الراماينا والمهاباراتا فقال: إن الرامايانا أقدم من المهاباراتا بنحو قرن واحد وعدد أبياتها في الأصل السنسكريتي 24 ألف بيت فهي أقدم الملاحم العالمية قاطبة. أما المهاباراتا فعدد أبياتها 124 ألف بيت فهي أطول الملاحم العالمية قاطبة، ولكن عشرات الآلاف من أبيات المهاباراتا قد نظمت في مباحث وموضوعات عامة كأحكام الزواج وآداب الضيافة وتقديم القربان وفلسفة خلاص النفس مما لم يهتم أحد من المترجمين بنقله إلى اللغات الأوربية؛ إلا إن الحكومة الهندية قد أحدثت ترجمة كاملة نثرية باللغة الإنجليزية لهذه الملحمة وطبعت في كلكتا منذ أكثر من مائة سنة.

وآراء الباحثين تختلف في تعيين التاريخ للأدب الهندي القديم، فالمتهندون الذين وقفوا حياتهم على البحث في أصول الأدب السنسكريتي يذهبون إلى أن تاريخ هذا الأدب في وجوده يتراوح بين 2400 سنة و2000 سنة قبل الميلاد، والبراهمة والمحققون من أبناء الهند يعتقدون أن تاريخ وجوده أقدم من ذلك بكثير. ومهما يكن من شيء فإني على يقين بأن الرامايانا والمهاباراتا قد تقدمتا في الوجود على الإلياذة، وإذا كان هناك مظاهر كثيرة من التشابه بين هاتين الملحمتين والإلياذة فإن التاريخ لم يذكر إن فاتحاً فتح الهند قبل الإسكندر المقدوني الذي كان يحمل الإلياذة ويسرح كل أسير يروي بيتاً منها. ومن المعلوم على اليقين إن عهد الإسكندر أحدث من عهد الإلياذة نفسها. وفي أثناء سفرتي الثالثة إلى لندن، وهي هذه السفر عنيت بالاطلاع على ماجد من الكتب في مكتبة المتحف البريطاني لاستيفاء البحث في هذه الناحية، وقد سرني أنني لم أجد شيئاً هناك ينقض ما كنت قد وقفت عليه في هذا الشأن.

في ضيافة طاغور:

وحدثنا الأستاذ عن شغفه بالأدب الهندي القديم والروح الهندية الفياضة بالتأمل العميق وهو لما يزل في مطلع شبابه فقال: لقد أخذت وأنا في طراوة العمر بذلك النغم الذي تبينته في الأدب الهندي والفلسفة الهندية وحملتني نفسي في هذا السبيل على أن أعيش عيشة أهل الهند وأن أنسك نسكهم فسافرت إلى هناك وقضيت شهرين في ضيافة طاغور، وأخذت أروض نفسي على حياة الهنود الناسكين، وكنت قد أحسست في جنايا قلبي بكل المشاعر الإنسانية كشعور المحب وشعور العاشق وشعور الصديق ولكن لم أكن قد أحسست بعد بشعور الوالد، ومن ثم رغبت في الزواج وحملني الإحساس بشعور الأبوة أن أكون أباً، وتزوجت وأقلعت عن حياة النسك ولكني بقيت مندمجاً في تلك الروح الهندية العميقة مأخوذاً بصفائها، ومن ثم كان شغفي بتلك الآداب الهندية القديمة ونقلها إلى اللغة العربية إذ إنها لم تنقل للغة العربية بل لا تزال مجهولة لأبناء العروبة على حين قد عرفها أبناء اللغات الأخرى.

هذه الملاحم:

قال الأستاذ وقد نقلت الرامايانا أعنى رامايانا فالميكي والمهابارابا. والنالا ودامينتي وهي إحدى القصص الخمس المروية في المهاباراتا وقد ثبت إن ثلاث من أبواب كليلة ودمنة وردت قصصها في المهاباراتا ووقع تعريبي لنا لا ودامينتي في 1254 بيتاً، كما نقلت مسرحية الشاكونتالا وقد وضع هذه المسرحية شاعر عاش بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد اسمه قاليداس، كما عنيت بنقل الأساطير الهندية القديمة المعروفة بكتب الحكمة وهي ترجع في تاريخها إلى ما قبل وجود الملاحم. . . هذا وقد أسمعني الأستاذ جملة فصول من هذه الملاحم التي نقلها شعراً فأعجبني إنه استطاع أن يكون شاعراً يؤثر الديباجة الرائقة والأسلوب الشعري الموسيقي حتى لقد فاق في ذلك البستاني الكبير في ترجمة الإلياذة. وقد استرعى نظري إنه نقل من الرامايانا فصلاً عن (وصف الشتاء في بنشقائي) فآثر نقله بنغمه الهندي على بحر غير بحور الشعر المعروفة في العربية، وقد أخبرني إنه أثر ذلك ليعطي صورة صادقة من النغم الهندي والروح الهندية.

في الدين الهندي:

وسألته عما يقال عن المعبود (كريشنا) في الأدب الهندي وهل هو يقابل (أبولو) في أدب اليونان. فقال لي أن كريشنا لا يقابل أحداً من آلهة اليونان أو اللاتين، وإنما هو التجسد الثامن عند الهنود، ويعتبر بوذا التجسد التاسع؛ أما التجسد العاشر فلم يظهر بعد وعلامة ظهوره عندهم أن تقوم الملوك ملكاً على ملك وأن تطلب المرأة مساواتها بالرجل. ويعتبر راما التجسد السابع كما أعتبر المسيح تجسداً إذ نسب إلى الله أباً وهذه فكرة هندية قديمة.

فإن كلا من كريشنا وراما نطفة الإله قشنوا وشيوا وهو أقنوم موحد (برهم)، فالدين الهندي دين توحيد لا دين تعديد.

لغة القرآن:

وانتقل الأستاذ يحدثني عن ذكرياته في الحياة ونشأته في الأدب فقال: لقد نشأت في رعاية أبن العم الشيخ سليمان البستاني معرب الإلياذة وكنت أقول الشعر وكان يسددني في طريقه، فلما علم إني بلغت فيه مبلغاً ناداني في يوم وقال لي يا وديع، لقد سرت في طريق الشعر وبلغت فيه مبلغاً، ولكن هل تحسن القراءة؟ ثم ناولني كتاباً وقال اقرأ، فقرأت، ثم قال لا بأس، ولكن أنصحك يا وديع أن تحفظ كثيراً من القرآن الكريم، وأن تقف على أحكام تجويده وتلاوته وتروض لسانك عليه فإن ذلك مما يقوم قراءتك، وإن ذلك هو الأساس السليم لتقويم اللسان في القراءة. وإني قد أخذت نفسي بذلك في صدر شبابي وهكذا أبناء الأسرة البستانية الذين أمسكوا أنفسهم بالعناية بالأدب، فأخذت بنصيحته ونفذتها.

وبعد ألا ترى أيها القارئ إنها كانت ساعة حافلة بالأدب والعلم؟ أجل وإني لأسدي صادق الشكر عليها إلى الأستاذ الجليل.

المجمع اللغوي يؤبن عضوين من أعضائه:

أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا الأسبوع حفل تأبين في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية لفقدي العلم والإنسانية المغفور لهما الشيخ مصطفى عبد الرزاق والدكتور علي إبراهيم باشا، وبعد أن أفتتح معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع الحفل بكلمة رصينة في تقدير مناقب الفقيدين العظيمين وتصوير الخسارة بفقدهما تقدم الدكتور علي توفيق شوشة باشا فألقى كلمة خاصة بتأبين المغفور له علي إبراهيم باشا استهلها بالحديث عن حياة الفقيد طالباً ثم دكتوراً صغير اختار مدينة أسيوط ميداناً لنشاطه ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى القاهرة إذ ذاع صيته وطبقت شهرته فافتتح مستشفى يحمل اسمه في شارع الصنافيري فلم يكن هذا المستشفى مجرد عيادة بل كان كذلك مجال خير عميم للتخفيف من ويلات الإنسانية وميدان نشاط ثقافي رائع إذ صدرت منه أول مجلة طبية حياته رجل الإنسانية وخادمها، فكان دائماً المجاهد في مكافحة الأمراض المتوطنة والأمراض الوافدة، وكان دائماً يعمل في حرص بالغ على رفع صوت مصر في المؤتمرات الدولية، ثم كان إلى جانب عبقريته الطبية صاحب ذوق فني وطبيعة جمال النفس وصفاء الذهن وقد تجلى هذا في شغفه رحمه بالتحف النفيسة والآثار الغالية الجميلة.

وألقى الأستاذ أحمد أمين بك كلمة التأبين للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق فقال: رحم الله صديقنا وزميلنا مصطفى فقد كان ممتازاً في خلقه؛ ممتازاً في نفسه؛ ممتازاً في علمه، أما امتيازه في خلقه فقد نأى به عما يتخلق به أمثاله من أبناء الحسب والنسب والغني والجاه فما بطر ولا تعجرف، وأما امتيازه في نفسه فإنه يظهر في أسلوبه الذي كان يؤثره واختيار اللفظ الأنيق في تدبيج عبارته؛ ثم تحدث عما كان يتحلى به من كرم النفس وسماحة اليد وبذل العون للمحتاج، وإنتقال بعد ذلك فتحدث عن حياة الفقيد ونشأته الأولى في كنف الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبدة ثم تنقله بعد ذلك في مدارج الحياة حتى انتهى إلى مشيخة الأزهر ثم قال إنه كان في هذه المرحلة الأخيرة من حياته برماً لما يحيط به من الصعاب في القصد إلى إصلاح الأزهر، وكان يطوي نفسه على كثير من الخير في هذا السبيل لولا إن عاجلته المنية. . .

رحم الله الفقيدين الجليلين اللذين خسرتهما مصر، وخسرهما العلم، وفقدتهما الإنسانية. . .

(الجاحظ)