مجلة الرسالة/العدد 716/صورتان للخير والشر
→ مقالة بلا موضوع! | مجلة الرسالة - العدد 716 صورتان للخير والشر [[مؤلف:|]] |
تفسير الأحلام ← |
بتاريخ: 24 - 03 - 1947 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
رجلان. . .
أحدهما ملك كريم هبط إلى الأرض بروح السماء، وسيصعد إلى السماء بمكرمات الأرض. . .
وثانيهما روح خبيث صعد من الطين كأنه فقاعة من غاز عفن! وكأنه بثرة ذات قيح وصديد في وجه مجدور. . .، ثم عاد وسفل في الطين وأبى الارتفاع، وسيكون مرجعه إلى عالمه، كالم نجاسات الأرض. . .
وقد رأيتهما في مكان واحد في وقت واحد، فرأيت الضدين الأبديين الخالدين تصطرع روحهما على روحي، فكانت محنة هي محنة العيش بين المتناقضين كمحنة الحديد يوقع عليه في النار ثم (يُطَشّ) في ماء مثلوج. . .
أولهما له وجه أصيل الحسن والسماحة عميق المعاني الإنسانية، يأخذك إلى رحاب الوضوح التفاؤل والحب العميق للخير، ويدعوك إلى تصديق ما أتت به دعوات السلام والحب والبر، وله عينان كأنهما منبعا نور وصفاء يغسلك بأشعته ويطهرك وينير لك سبل الحياة.
والثاني له وجه عميق القبح ممسوخ المعاني، رآه مرة أحد أرباب الصفاء والنفاذ فقال: إنه وجه غادر. . . وله عينان كأنهما جُبّان جفّ فيهما الماء وسكن الظلام وانطلقت الحشرات، فهما يغمران قلبك بالظلام والوحشة، ويأخذان فكرك وخيالك إلى أودية التشاؤم والكراهية للإنسانية، ويوحيان إليك أن كل ما تقرأ عن عالم الخير والسلام وهم واهمين وغفلة غافلين بلهاء. . .
وللأول يد تفيض بالفيض فيضاً ولا تحبسه عن أحد، وتعطي الناس مستحقين وغير مستحقين، وتمسح الجراح والآلام، وترتق الفتوق وتسد الثغور وتسند الذي يريد أن ينهار وتشير دائماً إلى منطقة النجاة والسلام كأنها علامة إرشاد منصوبة على طريق الإنسانية. . .
وللثاني يد كأنها ناب ذئبة جائعة ذات أجراء صغيرة، فهي تختطف لنفسها ولأجرائها قلوب الناس وأكبادهم أو كأنها فم قبر مخروق يأخذ ولا يعطي إلا الشكل والفقد. . .
الأول عظيم بالطبع، عظيم بالوضع، يتوجه مجد الفعال العظيمة والمكرمات الخالدة، ولكنه يتواضع حتى يحس محدثه ومجالسه أنه أمام رحمة مجسمة خلفت إنساناً. . .
والثاني لا يحملك وجهه وعمله على إعطائه ما يليق بآدمي من احترام وائتناس، وإنما تجفل لمرآه أول ما تقع على عينك ظلاله وعلى وعيك أعماله، ولا يحملك ما يحاول أن يحيط به من زينة الثياب والرياش والأثاث البراق إلا على مقارنة قبح ذاته وصفاته بجمال ما يحيط به من الأثاث الجامد!
هذا الأول أسدى لنفسي معاني كثيرة من الخير، وما تملك نفسي إلا أن تسدي إليه الحب وتسجيل الذكر وتخليد الصورة في مثل هذه المناسبة، لأنه مرتفع عن مستوى الحاجة. . . وذاك الثاني أسدى لنفسي شراً كثيراً، وأقل ما أسديت إليه أنني كنت ألتمس المعاذير لقبح خلقه وهوان شأنه على معاشريه، وكنت أغضي عن ذلك رحمة له إذ لم يخلق نفسه، وأنا أرحم القبح ولكن لا أهواه كابن المعتز. ومع ذلك فقد كان حمقه معي أعظم مما مع غيري. . .
وتسأله لماذا يا فلان؟ فيخرس لسانه ويجيب وجهه بتعليل الطبع السائر على نهجه. . . ولقد أجاب لسانه مرة حين قلت له: إنني لا أطيق الشر فهلم معي إلى الخير. . . فقال: لن تستطيع أن تغير ما في القلوب بالأقوال. . .
فكانت هذه حكمته الوحيدة الخالدة. . .
هذا النوع من الناس هو الذي قد يحملك على جحود الخير والإيمان بالشر، إذ يحيل قلبك من هدوئه واطمئنانه إلى الثورة والتشكك واعتناق الشر وتحطيم المثل العليا، أو أنه على الأقل يجعلك تعتقد أن الشر عريق في الوجود عراقة الخير، كأنهما مخلوقان لإلهين مختلفين يحتربان ويصطرعان على تسيير دفة الدنيا، يديرها أحدهما إلى الأبيض ويديرها الآخر إلى الأسود. فيجب أن تطيع الثاني كالأول ويتسع قلبك له وتطاوع شيطانك فيه بحيث لا يحدك ضميرك ولا وجدان ساعة بُحران الشر واحتدام الضغينة فلكل وقت، فكن للشر بقلبك كما تكون للخير بقلبك!
هكذا يسمم هذا النوع من الناس نفسك بشزّة نفسه، كما يسمم الثعبان دمك بلسعة نابه ومسموم لعابه، فلا تتمالك إلا أن تقئ وتهذي وتتلوى وتأتي بالحماقات والشناعات. . .
إنه يجذبك من عالم أحلامك السعيدة العليا إلى الحضيض الذي تتمرغ فيه وتتقلب عليه مع بنات الطين والظلام. . .
إنه بوق الشيطان ينفخ فيه على أفاعي الشر والضغينة في الحجرات المظلمة من نفسك كلما أوشكت أن تموت؛ لتحيا دائماً معك لأنها أعظم جنوده التي أرصدها لحرب ذلك الطفل العبقري الوديع: الحب!
وإن هذه الأفاعي إذا صحت ونشطت فلن تأكل في الحقيقة إلا فلذات قلبك ولن تشرب إلا دمك. . . ولقد جعلت من الذين أوسعوا لها من صدورهم مسمومي الإدراك مطموسي الإحساس بجمال الوجود ولذة الحب والرحمة.
إنها كريهة الدبيب مغتالة لأفضل ما في النفس، مثيرة للدم الأسود المحموم.
إن الشر يجب أن لا يكون إلا لدفع الشر الذي لا يُدفع بالخير. فيجب على القديس الحليم أن يكون عنيفاً شديداً مع الذين لا يرون المثل الأعلى إلا في الشر والعنف. . . أما أن يتخذ ذخيرة وغذاء تجتره النفس انسياقاً مع الغرائز القديمة، واستجابة للوحش الذي فينا، وتنمية لنوازعه وتنقيباً عن سفالاته المطمورة فذلك هو الهدم لدعائم الحضارة والارتداد والانتكاس إلى الوحشية التي تطمس الآفاق التي رأتها الإنسانية على ضوء السكينة النفسية والحب المتبادل.
فليُعِن الله محبي الخير على الحرب الدائرة بينهم وبين هذه النفوس العريقة في عالم الأذى. . .
وليحفظ رقة الخير وضعفه بين الشرور كما يحفظ حرير الورد من جوار الأشواك المسنونة المشرعة التي تهدده دائماً بالتمزق وتؤذي من يريد أن ينعم به نعمة خالصة.
عبد المنعم خلاف