الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 715/النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟

مجلة الرسالة/العدد 715/النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟

مجلة الرسالة - العدد 715
النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 03 - 1947


للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

2 - نشوء النطق في النوع الإنساني

أثبتنا في مقالنا الأول بالمشاهدات والاختبارات المختلفة أن النطق ليس غريزياً في الإنسان ولا هو قاصر عليه ولا مميز له دون الحيوانات الأخرى، بل هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت عليه وعلى بعض الطيور وعدد من الحيوانات العليا وعلى الأخص القرود الشبيه بالإنسان، وإنما الرفق بين الإنسان وبين الحيوانات هو فرق في الدرجة ليس إلا.

ونتكلم اليوم عن كيفية نشوء النطق في الإنسان فنقول: إن لنا في كيفية نشوء النطق في الأطفال الآن وفي اللغة البسيطة التي يبدءون بها الكلام، وكذلك في لغات بعض القبائل المتوحشة الحالية، صورة مصغرة من كيفية نشوء النطق في أول أمره.

إن كل ما يمتاز به البشر عن الحيوانات الأخرى من هذه الناحية هو نمو المخ وبالتالي النشاط العقلي من جهة، ونمو التكوين التشريحي والفسيولوجي للأعضاء التي تشترك في عمليات النطق من جهة ثانية، ونمو الحياة الاجتماعية من جهة ثالثة في النوع الإنساني أكثر منه في الأنواع الحيوانية الأخرى للأسباب الطبيعية التي سيأتي الكلام عليها.

وقد بينّا في مقال نشر في (الرسالة) منذ بضع سنين أن الظروف الطارئة المحلية التي اضطرت أجدادنا البعيدين إلى الالتجاء للغابات ليحتموا بها ويقتاتوا بثمارها أدت إلى نمو اليدين أثر استعمالهما في تسلق الأشجار والقبض على فروعها. ومن القواعد المقررة في علم الحيوان أن جميع الحيوانات والطيور التي تعيش على الأشجار يقابل بعض أصابعها البعض الآخر للقبض على الفروع والأغصان. وهذا ما حدث للإنسان وللقرود وباقي مرتبة الحيوانات الرئيسية وقد سميت هكذا من باب التفخيم والتعظيم لأن من بينها النوع الإنساني.

ولقد توسع الإنسان في استعمال يديه بعد ذلك بالقبض على مختلف الأشياء ورفعها وفحصها ونقلها وكسرها وتقطيعها وتهيئتها لأغراضه المختلفة فخف العمل إلى حد كبير عن الفكين اللذين كانا يقومان بجميع تلك الأعمال ولهذا تقلصا وصغر حجمهم إلى الشكل الذي هما عليه الآن بعد أن كانا على درجة كبيرة من الضخامة وممتدين إلى الأمام، وكانت تحركهما عضلات قوية تصل إلى قمة الرأس من كل ناحية فتلتف حول الجمجمة وتقيدها وتحول دون نموها ونمو ما تحتويه وهو المخ مركز التفكير واداته. وقد صغر حجم الفكين في البشر أكثر منه في القرود العليا الأخرى لأسباب محلية خاصة طرأت مصادفةً على الفريق الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى النوع الإنساني.

وكان من نتيجة تقليص الفكين في الإنسان بعد أن صارا قاصرين على مضغ الطعام أن قل بالتبعية شأن العضلات المحركة لها وصغر حجمها وصارت لا تصل إلا إلى أعلى الخدين بالقرب من الأذنين فتحررت الجمجمة من قيودها وتخلصت من ضغطها وخلا لها الجو فنمت ونما معها ما بداخلها وهو المخ نمواً كبيراً وهذا هو السر في تفوق الإنسان العقلي العظيم.

وترتب أيضاً على نمو اليدين واستخدامهما في كافة أعمال الحياة أن زالت الحاجة إلى الذيل فضمر وزال بعدم الاستعمال في الإنسان وفي القرود العليا (الغورلا، والشامبنزيه، والأورنجوتان والجيبون).

غير أن الذيل يظهر في أجنتها بما فيها النوع الإنساني في أول أطوار تكوينها ثم لا يلبث حتى يضمر ويزول جرياً على نواميس الوراثة الطبيعية لأن من القواعد المقررة في علم تكوين الجنين أن كل فرد يمر وهو جنين بجميع الأطوار التي مر بها نوعه في الأزمنة الغابرة. وهو ما يعبرون عنه بقولهم: (إن تطور جنين الفرد يلخص تطور نوعه) - وهذا دليل من الأدلة المختلفة على صحة ناموس التطور والتسلسل - وما زالت في الإنسان وفي القرود العليا المشار إليها بقية أثرية من الذيل وهي عبارة عن بضع فقرات ضامرة ملتحم بعضها ببعض في آخر السلسلة الفقرية ويسمونها:

ومن نتائج نمو اليدين أيضاً أن صغر حجم الأسنان لعدم استعمالها إلا في مضغ الطعام، وخاصة الأسنان الأمامية: الأنياب والأسنان القاطعة فصار المجال أوسع أمام الشفتين، وكانتا في الوقت نفسه قد ترهفتا - نتيجة صغر حجم الفكين - إلى أن تحولتا (الشفتان) شيئاً فشيئاً إلى أداة صالحة للابتسام والنطق

وخلاصة القول إننا مدينون بنمو مخنا وعقلنا، وتفوقنا على باقي الحيوانات الأخرى، واستعدادنا للنطق بوضوح وبسهولة أكثر من الأنواع الأخرى؛ إلى نمو يدينا، نتيجة اعتياد أجدادنا البعيدين الحياة على الأشجار وتسلقهم إياها وقبضهم على فروعها وغصونها ألوفاً من السنين. ولاشك في أن التجاءهم إلى الأشجار والغابات كان لأسباب طبيعية طرأت عليهم مصادفةً كأن يكون الغذاء الذي كانوا يعيشون عليه من قبل قد قل أو أنعدم فاضطروا إلى تسلق الأشجار ليقتاتوا بثمارها، أو أنهم احتموا بها هرباً من الوحوش الكاسرة أو الزواحف والحشرات السامة أو من كوارث الطبيعة كالغرق وغيره. وهكذا أدت تلك العوامل المحلية الطبيعية المحض إلى نتائج هائلة لم تكن منتظرة

ولا يفوتنا أن نقول كلمة عن مراكز النطق في مخ الإنسان فقد تطورت للقيام بوظيفتها هذه، إما بنموها نمواً كبيراً أكثر مما كانت عليه في الطيور والقرود العليا، وإما بتحول بعض مراكز أخرى في المخ عن وظائفها الأصلية إلى وظيفة النطق المركزية. وإن حدوث هذا التحول في أعضاء الحيوانات والنباتات وفي أنسجتها من وظيفة إلى أخرى لكي تلائم الكائنات الحية الظروف المستجدة والعوامل الطبيعية الطارئة أمر شائع ومعروف في العلوم البيولوجية كتحول الأقدام إلى أجنحة في الزواحف القديمة التي اضطرتها الأسباب المحلية الحادثة أن تقفز من شجرة إلى شجرة أو من شاطئ إلى شاطئ إلى أن اعتادت الطيران، وتحولت إلى صف الطيور كما تنطق بصحة ذلك أحافير الصور أو الحلقات المتوسطة التي عثروا عليها متحجرةً في طبقات الأرض التي تكونت في تلك الأعصر الجيولوجية القديمة، وعلى الأخص الأركيوبتيركس وهو شكل متوسط بين الزواحف والطيور. ومثل تحول قشر السمك إلى الأسنان في الزواحف وذوات الثدي التي منها الإنسان، وتحول قشر السمك أيضاً إلى القشر الضخم الذي يغطي أجسام التماسيح، وإلى الهيكل الكبير الجامد الذي تتكون منه ظهور السلاحف.

ولعل مراكز النطق هذه التي نحن بصددها نمت في النوع الإنساني أكثر من اللازم حتى صار حيواناً ثرثاراً كثير الكلام كما قلنا في مقالنا السابق.

ومن العوامل الرئيسية الهامة التي دعت الإنسان إلى النطق والكلام، الحياة الاجتماعية. فبعد أن كان أجدادنا البعيدون يعيشون فرادى لاحظوا أنه كلما صار فريق منهم جماعة يستطيعون القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً كالدفاع عن أنفسهم ضد وحش مفترس أو كصيد فريسة كبيرة أو زحزحة صخرة ضخمة أو تسلق شجرة عالية لجني ثمارها أو تقطيع أخشابها لتهيئة مأوى أمين وغير ذلك من صعاب أمور الحياة. ولكن حياة جماعاتهم هذه كانت قصيرة الأمد في بادئ الأمر لأن الأقوياء منهم كانوا يبطشون بالضعفاء ليستولوا عنوة أو خلسة على ما حصلوا عليه من الغداء أو الإناث أو المأوى الصالح، فلا يلبثون أن يتشتتوا هرباً من اعتداء بعضهم على بعضهم، فيشعر الفرد منهم بضعفه وهو وحيد أمام قوى الطبيعة والوحوش المفترسة الخ. فيجتمعون ثم يتشتتون ثم يجتمعون، وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً بفوائد الحياة جماعة، وأخيراً فطنوا إلى أنه لابد لبقائهم مجتمعين من احترام حياة الغير وملكيته وإناثه وغير ذلك من القواعد التي دعت إليها المصلحة المحض - مصلحة الجماعة وبالتالي مصلحة الفرد وانتقلت هذه الصفات أو القواعد - التي نسميها حميدة لأنها منافعه - من الآباء إلى الأبناء، ومن جيل إلى جيل حتى صارت غريزية فينا أو كادت، وهذا هو منشأ الغريزة الاجتماعية الأخلاقية في الإنسان وفي الحيوانات التي تعيش جماعة كالنمل والقرود العليا.

نعود إلى النطق فنقول: إنه ما إن بدأ أفراد الناس وأفراد باقي الحيوانات الاجتماعية يعيشون جماعة حتى شعروا بالحاجة إلى التفاهم بعضهم مع بعض والتعبير بأية وسيلة عما يجول في خواطرهم مما يهم كل واحد منهم أو يهم الجماعة. وكان الاستعداد للنطق قد تحقق عندهم بعد أن نما مخهم، وتقلص الفكان وصغر حجم الأسنان، وتحررت الشفتان وترهفتا على الوجه المتقدم بيانه، نتيجة لنمو اليدين، بسبب تسلق الأشجار والحياة في الغابات. فأخذوا يحاولون بعضهم التفاهم مع بعض بمختلف الطرق.

التفاهم بالإشارات:

أخذ الناس وسائر الحيوانات العليا - ومثلهم الأطفال الآن - يبدون إشارات كانت في بادئ الأمر آلية غير اختيارية ولا تقليدية تدل على الانفعالات النفسية أو الحاجات الجسمانية الحيوية وهذه الإشارات ترجع إلى عوامل بيولوجية وفسيولوجية بعضها معروف أسبابه وبعضها مجهول كتقطيب الوجه عند الغضب أو الحزن أو الابتسام عند الارتياح والسرور وكهز ذيل الكلب عند الفرح والترحيب بقدوم من يحب، وكهز رأس الإنسان للدلالة على التعجب وانحنائها للمذلة والخضوع، وكالعض على الأصابع للدلالة على الندم، وككثير من الإشارات التي يصاحب بها الإنسان كلامه الآن ويمكن ردها إلى عوامل بيولوجية قديمة ورثناها عن أجدادنا الذين تسلسلنا منهم.

ثم اعتاد الإنسان أن يقوم بهذه الإشارات بمحض إرادته للتعبير عن المعاني التي تؤدي إليها فصارت اختيارية. فإذا أراد أن يعبر عن استهجانه لشيء أو كراهيته لشخص نراه يقطب وجهه كأنه يقول: (إني أكره هذا). ومثل ذلك ما اعتاده الناس من قديم الزمان أن يرفعوا رؤوسهم إلى أعلى للتعبير عن النفي أو يهزها إلى اليمين واليسار لهذا الغرض نفسه. كأنهم يقولون (لا) كما أنهم يعبرون عن الإيجاب بخفضها نحو الأرض بمعنى (نعم).

ثم أخذوا يعبرون عما يقصدون بتقليد شكل الأشياء التي يريدون الإفصاح عنها أو عن بعض صفاتها كما يفعل الأطفال والخرس الآن.

وبعد أن كانت إشارات الإنسان في أول الأمر تعبيراً عن المحسوسات والأجسام المادية تطورت تدريجياً تحت تأثير حاجات الناس المستمرة وارتقاء حياتهم الاجتماعية والعقلية وتحولت (أي الإشارات) إلى التعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية. فبعد أن كانوا يعبرون عن الصخر مثلاً بإشارة إلى قطعة منه صاروا يدللون بهذه الإشارة إلى معنى الصلابة. وهذا ما تفعله إلى الآن كثير من القبائل البعيدة عن العمران سواء في إشاراتهم أو في لغاتهم الكلامية البسيطة المحدودة. وهذه هي أيضاً إشارة الخرس عن هذا المعنى - معنى الصلابة.

ومما يروى على سبيل الفكاهة لهذه المناسبة أن حرس برلين يعبرون من زمن عن شخص فرنسي بحركة يدهم بعنف على رأسهم من الخلف كمن يحاول قطعها. وقد اتضح أن هذه الحركة تشير إلى حادث موت لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي أعدمته الثورة الفرنسية بالمقصلة.

(يتبع)

نصيف المنقبادي

المحامي