مجلة الرسالة/العدد 714/الأدب في سبر أعلامه
→ معاوية بين يدي عائشة | مجلة الرسالة - العدد 714 الأدب في سبر أعلامه [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 10 - 03 - 1947 |
6 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
طالب فاشل
لما بلغ ليو السادسة عشرة من عمره أراد أن يلتحق بجامعة قازان، واختار قسم اللغات الشرقية إذ كانت بغيته أن يكون في غده من رجال السياسة؛ وكان لا بد لمن يلتحق بهذا القسم أن يجتاز امتحان اللغات العربية والتتارية والتركية، مضافا إليها بعض اللغات الغربية وبعض فروع المعرفة العامة، ونجح الفتى في بعض مواد هذا الامتحان وأخفق في بعض؛ وقد حصل في اللغة الفرنسية على أعلى درجة، وتفوق في الألمانية والعربية والتركية، وكان أقل من ذلك جودة في المنطق والرياضة واللغة والإنجليزية والأدب الروسي؛ أما التاريخ والجغرافيا فقد كان نصيبه فيهما الرسوب إلى حد بعيد، وقد ذكر عن نفسه أنه سئل أن يعدد المواني الفرنسية فما استطاع أن يذكر منها واحدة؛ ثم أعيد امتحانه بعد أشهر فيما رسب فيه فنجح وقبلته الجامعة منتسباً. . .
وجلس بين صفوف الطلاب، منصرفاً أكثر وقته عما يقول الأساتذة، يقلب عينيه في أقرانه حيناً فيعجبه منظر هذا وتضحكه هيئة ذاك؛ وينظر إلى الأستاذ حينا فيسخر مما يقول أو يرسم صورة هزلية؛ ثم ينشغل عما حوله حينا كأنما أخذته عن نفسه فما يفيق إلا على نهوض الطلاب ينطلقون من درسهم، فيسرع في انطلاقه منه لأنه ضائق به صدره. . .
وكيف يجعل الفتى للدرس باله وإنه لفي شغل تارة بما يطوف برأسه من أحلام الشباب وأوهامه، وآونة بما يهبط على خاطره من أفكار منها ما يتصل بالدين ومنها ما يتصل بالحياة. . .
أما عن الشباب وأحلامه فقد كان له في قازان مجال أي مجال للهو واللعب، وألفى الفتى نفسه وقد أخذ حب اللهو عليه كل مذاهبه وطالعته مفاتن الحياة ومسراتها من جميع أقطاره، وهو فتى متوثب الشباب تعتلج في نفسه عواطف شتى من الحب والطموح والشهوة وك ما هو بسييل من هذا؛ ولذلك ألقى بنفسه في متع الحياة صالحها وفاسدها وأرخى العنان لشهواته ونزواته، حتى لينسى في تلك المسرات كل ما عني به نفسه من قبل من رغبة في الكمال. . .
والكمال عنده يوم ذاك أن يلبس أحسن الثياب وأجملها وأن يفتن في اختيار الألوان حتى يحمل الناس على الإعجاب بذوقه، ولعل عدم رضائه عن خلقته قد أدى به إلى كثير من الإسراف في هذا السبيل؛ ثم إنه يلعب الورق ويشرب الخمر في جماعات من لذاته؛ ويدخن الطباق في غليون جميل يحرص أن يكون ثمنه أغلى ثمن، ويتطيب ويمشط شعره ويدهنه بما يكسبه اللمعان، ويتكلم الفرنسية في أناقة متكلفة؛ وإنه ليشهد كل حفلة يقيمها أرستقراط المدينة وذلك بدعوة من أصحابها فما يفوت أحداً أن يدعوه وقد أمسى شخصية من شخصيات المجتمع، وإنه ليبذل قصارى جهده أن يلفت الأنظار إليه، ولكم يبهجه أن يتحقق له ما يريد وبخاصة إذا ظفر بنظرات الأوانس، ولكم يؤلمه ويكدر عليه عيشه أن يصادف من أحد عدم الاكتراث له أو الفتور في تحيته؛ وإنه ليندس بين كل جماعة فيتحدث ويعرض آراءه ويخالف ويعارض ليبرهن على أصالته وقوة شخصيته.
وإنه ليغشى دور اللهو جميعاً، فيتكلف أكثر ما يستطيع من مظهر أرستقراطي في حديثه وتحياته ومشيته وجلسته؛ ويدلي بآرائه فيما يشهد من تمثيل أو يسمع من موسيقى، ويأخذ بقسط من الرقص، وإن كان لا يحسنه كما يجب أن يحسنه.
وإنه ليحسب أكثر من مرة أنه نضو حب، فيخيل إليه تارة أنه أسير هوى لشقيقة صاحبه دياكوف، وتحدثه نفسه أنها خير ما يختار من زوجة؛ ثم إذا به يتجه بخياله وقلبه إلى صديقة لأخته ماري إذ يراها وهي طالبة في معهد عال تجمع إلى جمال الخلقة حسن الخلق وسعة الثقافة؛ ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه وقد علق قلبه بفتاة تزوجت حديثاً، ولكنه يؤثر أن يموت بين يديها على أن يكاشفها بما يحس نحوها من حب. . . ولن تزال أحلام الحب تطوف بقلبه شأنه في ذلك شأن غيره من الشباب، ولا تزال الرغبة في الزواج تلح على نفسه وتوحي إليه كثيراً من الأماني العذاب، ولكنه لا يستقر على رأي، وقصاراه أن يحلم بمن يتوق إلى أن يحبها لتكون له زوجاً تجمع بين صدق العاطفة ورجاحة العقل وتحس نحوه مثلما يحسه نحوها وتفهمه كما يفهمها، وأنى له أن يظفر بهذه الزوجة التي لا يجدها إلا فيما يحلم من حلم؟
ولم يقتصر الفتى على الأحلام، فقد كان طلب نساء يسعى إليهن ويسعين إليه ولا يتورع أن يتسلل إلى بيوت يتهامس الناس بأسمائها ويتغامزون بها؛ ولن تخرج المرأة في رأيه عن إحدى اثنتين، فإما واحدة يلهو بها ويطفئ بها لهيب جسده، وإما ثانية يحلم بين يديها أحلام الزواج والعفة ولا يستطيع خياله أن يتجه لحظة أمامها إلى معنى من معاني السوء، ومن عجيب أمره أنه على تنبله بالثياب والمال وعلى حيويته وقوة بدنه كان خجولا شديد الاضطراب إذا وجد نفسه في مجلس أوانس أو سيدات مهما بلغت ألفته لهن، أو إذا تحدث إلى فتاة أو سيدة فما يزول عنه خجله أو يبارحه اضطرابه إلا بعد حين.
ومن كان يحيا حياة كهذه مطلق العنان مسرفا في اللهو كان حقيقة أن يفشل في طلب العلم؛ ولذلك فشل تولستوي فشلا كبيراً، على أنه يحاول أن يبرئ نفسه فيرد سبب إخفاقه إلى اضطغان أستاذ التاريخ الروسي عليه، ويزعم أنه كان حسن الإلمام بهذه المادة، كما يعلم أن هذا الأستاذ أسقطه كذلك في اللغة الألمانية على الرغم من أنه يجيدها أكثر من أي طالب آخر في قسمه بما لا تجوز معه المقارنة.
وترك تولستوي كلية اللغات الشرقية إلى كلية القانون، ولكنه في عامه الثاني بالجامعة لم يك أحسن حالا منه في عامه الأول، فقد ظل مسرفا في لهوه لا يقف فيه عند حد، يسهر أكثر لياليه حتى يسفر الصبح في مجونه وفتونه، ولبث على هذه الحال حتى انتصف العام الدراسي أو جاوز المنتصف.
وكان في الجامعة يتنبل بماله وثيابه، ويصل إليها على جواد جميل وحوله بعض الخدم، ولا يجالس أو يصاحب إلا من يراه في مثل طبقته، ويترفع على من يراه دونه، ولذلك كان بغيضاً إلى هؤلاء ثقيلا عندهم، قال أحدهم يصف شعوره نحوه (لقد كنت أبتعد عن الكونت، ذلك الذي نفرني من أول الأمر تظاهره بالجفاء كما نفرني شعره القصير الخشن وما ينبعث من عينيه نصف المقفولتين من نعنى يخز النفس، وإني لم ألق قط شاباً مثل ما لهذا الشاب من ذهاب بالنفس ورضاء عنها، الأمر الذي يعد غريباً كما أنه لا يفهم؛ وقلما كنت أقابل الكونت أول الأمر، ذلك الذي على الرغم من قميء منظره وخجله قد اتخذ له رفقة ممن يدعون الأرستقراط؛ وقلما عني بأن يرد تحيتي كأنما يريد أن يشير بذلك إلى أننا أبعد من أن نتساوى حتى في هذا المكان حيث أنه يأتي إليه في عربة أو على ظهر جواد وآتي أنا راجلا) وذكر هذا الزميل مرة أخرى أنه تصادف أن حبس في حجرة في الكلية هو وتولستوي بعض الوقت عقابا لهما على تقصير، فرأى تولستوي في يده كتاب تاريخ، فقال إن التاريخ في رأيه أتفه موضوع، فما هو إلا مجموعة من الخرافات والتفاصيل العديمة الجدوى تتخللها طائفة من الأرقام وأسماء الأعلام؛ وتطرق الحديث إلى الشعر فتهكم تولستوي وسخر من الشعر؛ ثم تحدث عن التعليم الجامعي بوجه عام فسخر منه ما وسعته السخرية وسخر من تسمية الجامعة دير العلم إلى أن قال (ويحق لنا أن نتوقع أننا نترك هذا الدير رجلين نافعين مزودين بالمعرفة، لكن ماذا عسى أن نحمله معنا من الجامعة حقاً، وأي شيء نصلح له ولمن من الناس نكون ضرورين؟
هذا هو رأي زميله عنه، ولكن الذين عرفوا تولستوي وقد نسي تكلفه يجدونه شخصاً غير هذا، فهو ذكي الفؤاد محبب العشرة إلى رفقائه، طيب القلب، واسع الأفق متوثب الروح، صادق الحماسة لما يعتقد أنه حق أو صواب.
وهو في أثناء إجازته الصيفية في ياسنايا، ينسى ما كان منه في المدينة من تكلف يبعد به عن طبيعته، ولو أن أحداً من خلانه وآه هناك لأخذه العجب من أن يكون هذه هو الطالب الإرستقراطي الذي عرفه في الجامعة؛ فهو هنا في القرية يستحم في النهر ويجلس تحت شجرة يطالع قصة فرنسية، ويصيد السمك أو الطير ويمشي في الغابة ما وسعه المشي وقد أطلق نفسه على سجيتها، فلا أناقة في ملبس ولا تكلف في مشية أو جلسة أو حديث؛ وإنه لينام في شرفة ويأكل حيث يحب ويلبس ما يلائم لبسه الحر فحسب؛ حتى إذا عاد إلى المدينة رجع إلى تكلفه وأرستقراطيته.
ونجده يعد إسرافه في لهوه يثوب بعد منتصف العام الدراسي الثاني إلى شيء من الجد؛ ويجد لذة في دراسة القانون المقارن والقانون الجنائي وعقوبة الإعدام، ويقبل على القراءة إقبالا شديداً حتى ليتجاوز المقرر كثيراً في هذه الموضوعات، ويأنس منه أستاذه هذا الإقبال فيكلفه أن يقارن بين كتاب منتسكيو (روح القوانين) وبين قانون كاترين الثانية، فيجد الفتى في هذه المقارنة متعة عظيمة حتى ليميل إلى ترك الجامعة كي يستطيع أن يقرأ ما يحب أن يقرأ في غير قيد بما يتطلب المنهاج، فإنه إذا أقبل على قراءة شيء أحبه لا يحب أن ينصرف عنه إلى غيره حتى يستوعبه ويستوفي منه ما يريد. ويخرج الفتى من مقارنته بين الكتابين بأن كاترين في كتابها قد خلطت آراء منتسكيو الحرة باستبدادها وغرورها، وأن هذا الكتاب قد أجدى على كاترين من الصيت أكثر مما أجدى على روسيا من الخير. . .
وفي شهر مارس من سنة 1847 يصيبه المرض ويلح على بدنه القوي فيحمل إلى مستشفى يقضي به أياماً؛ وهناك يبدأ الفتى كتابه يومياته فتكون هذه اليوميات من أهم مصادر تاريخ حياته، فلقد دأب على كتابتها أكثر أيام عمره؛ ولم ينقطع عنها إلا بضع سنين ثم عاد إليها.
وكانت أول صفحة منها بتاريخ اليوم السابع عشر من ذلك الشهر ومما جاء فيها قوله: (ليس يصحبني خادم هنا ولا يساعدني أحد، وعلى ذلك فلن يؤثر مؤثر خارجي في ذاكرتي أو حكمي على الأشياء، ويجب تبعاً لذلك أن يزداد نشاطي العقلي. . . وإن أهم ما كسبته من ذلك هو أن أرى في وضوح أن تلك الحياة المضطربة التي يعزوها الناس عرفا إلى الشباب إنما مردها في الحق إلى فساد روحي مبكر؛ إن من يعيش في جماعة يجد في العزلة من الفائدة له مثلما يجده منها في الجماعة من كان يعيش في عزلة؛ وما على المرء إلا أن ينسحب من الجماعة وينطوي على نفسه ليرى كيف يطرح عقله ذلك المنظار الذي كان يرى خلاله كل شيء حتى ذلك الوقت في ضوء مهوش. . . ولأن يكتب المرء عشرة مجلدات في الفلسفة أهون عليه من أن يحقق فكرة واحدة تحقيقاً عملياً).
وفي منتصف أبريل من تلك السنة كتب في يومياته يقول: (لقد فشلت منذ قريب في أن أجعل سلوكي كما أريد، وكان مرد ذلك بادئ الرأي إلى أنني تركت المستشفى، ثم بعد ذلك إلى من أجدني أعود إلى مخالطتهم من رفقة يوماً بعد يوم؛ وأختتم ذلك بأنه ينبغي أن يقودني تغيير المكان إلى أن أفكر في جد كيف تؤثر فيَّ الظروف الخارجية كلما تجددت الشروط والأوضاع).
ويتفكر في مستقبله فيعاوده ما كان يطمح إليه من كمال على الرغم مما أسرف فيه من عبث ولهو فيقول: (إني أجدني دائماً بحيث يطالعني هذا السؤال: ما الغرض من حياة الإنسان؟ ويغض النظر عما بلغته بطول تفكيري من نتائج وعما أعده في رأيي منبع الحياة؛ فإني ما أزال أصل إلى خاتمة لا تتغير ومؤداها أن الغرض من الوجود الإنساني إنما هو أن نبذل أكبر عون نستطيعه في سبيل أن يرقى كل شيء حي رقياً عالمياً عاماً؛ وإني لو لم أجد غرضاً لحياتي لكنت أشقى بني الفناء على أن يكون غرضاً نافعاً عاماً. . . وعلى ذلك فيجب أن تكون حياتي اليوم كفاحاً دائباً نشطاً في سبيل تحقيق هذا الغرض الذي ليس لي غرض سواه).
ويعود الفتى إلى اعتزامه وما يقطعه إلى نفسه من مواثيق فيذكر ما سوف يأخذ به نفسه من ألوان الجد في عاميه القادمين بالقرية، فسيدرس القانون كله ليتهيأ للامتحان النهائي للجامعة وسيدرس الطب العملي وقسطاً من ناحيته النظرية واللغات الفرنسية والروسية والألمانية والإنجليزية والطليانية واللاتينية، والزراعة النظرية والعملية والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم الطبيعية، وسيدون ما يعن له من ملاحظات وسيبلغ الكمال في الفن والموسيقى، وسيكتب المقالات في شتى المواضيع التي يدرسها إلى غير ذلك من ألوان الجد والدأب. . .
ثم إنه يقطع على نفسه عهداً أن ينجز ما جمع عزمه عليه مهما تكن العقبات وأن ينجزه على خير وجه وألا يرجع إلى الكتب فيما نسي من أمر بل يعمل على أن يسترده من ذاكرته؛ وأن يحرص على أن يبذل عقله أقصى ما في وسعه من طاقة وأن يجهر بقراءته وتفكيره، وألا يخجل من أن يصارح من يقطعون عليه عمله بأنهم يعوقونه عنه؛ وليدعهم أول الأمر يشعرون بذلك فإن لم يفهموا فليصارحهم به في شيء من الاعتذار.
وحق للمرء أن يعجب من هذا الذي يعتزمه الفتى بعد ما كان من لعبه وبطالته، ولعل إسرافه على نفسه هو الذي يوحي إليه بما عسى أن ينسيه ذلك العبث ويعوضه عما فاته من جد؛ وفيم العجب وتلك حال من حالات الشباب، والشباب يتخيل أنه قادر على كل شيء فلننظر ماذا أنجز الفتى من هذا الذي جمع العزم عليه.
لم يلبث الفتى أن ترك الجامعة دون أن يحصل على شهادة ما؛ ففي سنة 1846 خرج أخوه نيقولا من الجامعة والتحق بالجيش، وعاش ليو مع أخويه الباقيين في بيت استأجروه وقد تركوا بيت عمتهم فلا رقيب عليهم؛ وبعد أشهر قليلة قسمت ثروة أبيهم بينهم فكانت ياسنايا بوليانا من نصيب ليو، مضافاً إليها أربع ضياع أخرى تبلغ أربعمائة وخمسة آلاف من الأفدنة، كما كان من نصيبه نحو خمسين وثلثمائة من الفلاحين الذكور ومن ورائهم أسرهم؛ وفي يناير سنة 1846 يحس ليو بكثير من الضيق بعد أن بارح أخوه الجامعة كما يسأم حياة المدينة وملاهيها وغرورها، وحياة الجامعة وقيودها والامتحانات وسخفها، فيكتب إلى إدارة الجامعة لتستبعد اسمه من سجلاتها معتذراً بسوء صحته وبأمور تتصل بمطالب أسرته؛ ونطلق من الجامعة إلى غير عودة، فهل هو فاعل في غده ما تخيله في قازان من ضروب الجد؟
(يتبع)
الخفيف