مجلة الرسالة/العدد 714/إنه جهاد لا سياسة!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 714 إنه جهاد لا سياسة! [[مؤلف:|]] |
مصر العربية ← |
بتاريخ: 10 - 03 - 1947 |
للأستاذ محمود محمد شاكر
عجبتُ أشدَّ العجب حين قرأت في الأسابيع الماضية خبر وَساطة سورية ولبنان وغيرهما من بلاد العرب والتي أرادوا بها اجتلابَ التفاهم بين بريطانيا ومصر والسودان. ومعنى ذلك أن البلادَ التي دفعتها الغيرة والصداقة والقُربَى إلى هذه الوساطة، تَعْني أو تظنُّ أو تؤمِّل أن تكون المفاوضة بيننا وبين بريطانيا خيراً من الارتفاع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، ليقضي بيننا فيما اختلفنا فيه!
وللعجب من مِثْل هذا الفِعْل وجوهٌ كثيرةٌ. فمن ذلك أننا ظللنَا نفاوض هذه الدولة المتغطرسة سنين طوالا مغرّرِين بالمفاوضة، فما أجدتْ علينا إلا ألواناً من البلاء، وعلمتنا ضروباً من كَذِب الألسنة واحتيالها وخداعها، وعرفنا أن بريطانيا تراوغ ما استطاعت المراوغة، وتتجنَّى ما أطاقت التجنِّي، ولا نكسبُ نحنُ من ذلك شيئا إلا الفرقَة والتدابُر والتنابُذ والتشاتُم، وهي كلُّها من مبيدات الأمم. نعم، وكانت العبْرة التي لا عِبْرة بعدها أن القوم الذي ظلُّوا أكثر من خمسة وعشرين عاماُ يُصرُّون على أن المفاوضة هي خير طريق لاستنقاذ حقوقنا من الأيدي الغاصبة، هم هُم القوم الذين عرفوا أن لا جدْوى من المفاوضة، فقطوعها وآثروا أن يرفعوا الأمر إلى هيئة دولية تحكُمُ بيننا، هذا فضلا عن أن صريح الرأي، وصريح الدلالة، وصريح التجربة، تُوحي جميعاً بأن بريطانيا لم تستفد قطُّ من شيء في هذا الشرق المبتلى بها ما استفادت من مبدأ المفاوضة. فهو الذي أتاح لها في مصر مثلا أن تُطفئَ جمرة الشعب المصري التي ظلَّت تتوهَّج فيما بعد سنة 1919، حتى صدق فيها قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكاتِ ... ولكنه ضحكٌ كالبُكىَ
فمن هذه المضحكات المبكية، ما كان من تغرير المفاوضين الذين جاءوا بمعاهدة 1936، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها (معاهدة الشرف والاستقلال)!! ومن ذلك أن ترى شعباً قد أوذي وامتُهِن وحقّر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا العشب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبة في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذ الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها.
ومن أساس العجب أيضاً أن سورية ولبنان تعلم حق العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدي، وأنها لم تنل حقَّها إلا حين كانت يداً واحدةً تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطاً ولا وعوداً تعد بها فرنسا، وأصرت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعاً عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجباً ولا ريبَ.
أما العجبُ العاجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسالة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرّ الذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدةً لها أو انتقاماً منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كل الجلاءِ، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاء في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لا بُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتى يتهيَّأ ويستعدّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان!! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعود بنا إلى المفاوضة - أي إلى تعذيب الشعب المصري السوداني سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.
وأما أعجبُ العجبِ فهو أنهم نسوا ما تُلاقي فلسطين على يد البريطانيين اليوم، من إرخائها الحبْل لنذالة الإرهاب اليهودي ومعاونتها في هجرة اليهود بأساليبها الخدَّاعة، واحتمالها في ذلك الأمر ما لم تكن تحتملُ قليلا أو كثيراً من مثله حين ثارتِ العربُ على ظلمها وبغيها وعدوانها هي وأشياعها من يهود. وهل ننسى، نحن العرب، لم وعدت بريطانيا شّذَّاذَ اليهود. الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، بأن ينشئوا في فلسطين وطناً قوميَاً، ثم معاونتهم لهم في ذلك، ثم إغضاءها عن جشع اليهود بعد ذلك وطلبهم إنشاء (دولة يهودية) تقوم في قلبِ الأوطان العربية التي تحيط بها من كل ناحية؟ إن الوساطة لا تكون حقاً إلا حين تتوسَّط بين شريفين كريمين يُحْسِنان تقدير الوساطة. فما الذي رأته سورية ولبنان وسواهما من الشرف والكرَم في تاريخ بريطانيا في بلادِ العرب حتى تركب هذا المركب الوعر؟
الجواب: لا شيء، بل النقيض هو الصحيح.
وأنا لا أكتب هذا عتاباً ولا ملامة، فأنا لا أشك في أنهم جميعاً إنما أرادوا الخير، وظنُّوا الخير، وعملوا للخير، ولكن غير ذلك كان أولى وأدلَّ على فهم الحقائق.
لقد وضعت الحربُ العالمية الأولى (1914 - 1918) فإذا الشعوب (العربية) فِرَق مقطُّعة بين الدولتين الباغيتين فرنسا وبريطانيا، وكان رأي العرب مفرّقاً ضائعاً في فوضى الاضطراب الذي أعقب الحرب، ومع ذلك فقد قامت الثورات في كل مكان مطالبة بالحقوق الواضحة التي لا جدال في وضوحها، فأنكرتها علينا بريطانيا وفرنسا، ولكنا مع ذلك ثرنا وبقينا نثور في كل مكان.
ثم جاءتنا الحرب العالمية الثانية، فإذا رأى العرب مجتمع غير مفرق كما كان بعد الحرب الماضية، وبدأنا نثور فإذا الثورات عد خمدت بعد قليل، وإذا نحن نوشك أن نتفرق بعد اجتماع. ولعل هذا رأي غريب مع ما نرى من قيام الجامعة العربية، ومن تصريحات في مناسبات كثيرة بأنها تؤيد مطالب مصر أو مطالب غيرها من الأمم العربية بالإجماع. بيد أن السبب الذي من أجله أخشى تفرق الكلمة هو ما رأيت من أمثال هذه الوساطات التي ترد كلها إلى سبب واحد، هو أن الرأي العربي لم يدرس القضايا دراسة مستوعبة، ولم يتخذ لنفسه خطة بينة واضحة في كل قضية. وأظنه لو فعل ذلك لنفى من قلبه خاطر هذه الوساطات بين أقوام العرب، وبين الدول المتغطرسة التي لا أمانة لها، ولا هدف لها إلا استعباد هذا الشرق بأساليب (مطابقة لمقتضى الحال).
وإنه لأولى بنا جميعاً، نحن العرب، أن نصارح بالعداء كل أمة من أمم الطغيان الاستعماري، وأن نحذر كل الحذر مزالق السياسة وأساليبها الخداعة، فإننا أمم مجاهدة، وينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها في كل مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. والمجاهد مقاتل، لا صاحب سياسة ومواربة ومداراة، فإن ضرر هذه الثلاثة على الشعوب المجاهدة أكبر من أن نغفل عنه أو نتهاون فيه.
وأنا أتعجب أحياناً: لماذا لا تتعاون الدول العربية جميعاً الدول الشرقية الخاضعة للإستعمار، فتهب هبة رجل واحد، وتقاطع هذه الدول الباغية، وتقول لها: إني لن أتعاون حتى أنال كل حقوقي كاملة غير منقوصة! وهذا شيء ليس بغريب بعد قيام هيئة الأمم المتحدة التي يزعمون أنها أنشئت للمحافظة على سلام العالم، والتي تنقض مبادئها كل حجة تقال في مسألة مخافة العدوان على هذه الأمم بعد خروج الجيوش المحتلة من اراضيها، ولو فعلنا ذلك، وأبينا أن نلقي السلم حتى تحل هذه القضايا الكثيرة التي عقدتها بريطانيا وأشياعها من الدول المستعمرة، لكان قريباً أن ننال كل ما نريد، ولكان ذلك معواناً للشعوب العربية والشرقية على الشعور بقوتها وعزتها واجتماع كلمتها، ولكان ذلك وقاء لنا من أن نكون كما نحن الآن: خداع يراد بمصر، وخداع يراد بالسودان، وخداع يراد بالمغرب، وخداع يراد بالهند وما جاورها.
إنه ليس عجيباً. بل الدلائل على صدقه وعلى صلاحه ما رأينا من نتائجه بعد قيام الجامعة العربية التي لا تزال في أول نشأتها. فالجامعة العربية على قلة وسائلها وقلة تجربتها، قد جعلت العالم الغربي كله يتنبه إلى أن في الدنيا شيئاً من القوة لا ينفع في الخلاص منه سلاح فتاك ولا غطرسة حربية. فإذا اجتمعت الكلمة في الشرق كله، وهبت الأمم الشرقية كلها مرة واحدة لاستيقظ العالم كله على صوت هذه الضجة المدوية، ولطالبت الأمم الغربية نفسها بدراسة هذه المسائل المعقدة وفهمها على وجهها الصحيح، لا على الوجه الذي ظلت بريطانيا وسواها من حكومات الاستعمار تعمل جهدها سنين مطاولة على تدليسه وبثه في صحافتها وكتبها وإذاعتها. فلا سبيل إلى رد هذه الأكاذيب جملة واحدة إلا بأن نشعر العالم جملة واحدة بما نريد فيتنبه ويستعد للمعرفة، ونكشف له عن الأكاذيب التي أذيعت عليه من قبل، ونفضح أساليب سياسية الاستعمار في تشويه الشعوب وقضايا الشعوب.
هذه رأي، وطريقة العمل له ميسرة وواضحة. وهو شيء كبير، ولكن صاحب الحق الذي يستهول الإقدام على بيان حقه بالأساليب التي ينبغي اتخاذها وإن عظمت، لن ينال شيئاً إلا العجز، وتراكم العجز بعد العجز، ثم ضياع حقه إلى الأبد.
ولقد بدأت مصر والسودان تخرج بقضيتها عن محيط المفاوضة إلى الاحتكام إلى الدول الممثلة في هيئة الأمم المتحدة، فينبغي على كل عربي وشرقي أن يحرضها على ركوب هذا الطريق وإن شق مسلكه، وينبغي على كل دولة عربية وشرقية أن تقف صحافتها وإذاعتها صفاً واحداً للجهاد في سبيل مصر والسودان - أي سبيل فلسطين وليبية ومراكش والجزائر وتونس والهند وما والاها، أي في سبيل الدفاع عن حقوق جميع الشعوب التي ذاقت مرارة الاستعمار ونكاله أجيالاً أو أعواماً. والعاقبة للمجاهدين الصابرين على لأواء الجهاد وبأسائه.
محمود محمد شاكر