مجلة الرسالة/العدد 713/من كتاب ديارات بغداد
→ النطق وكيف نشأ | مجلة الرسالة - العدد 713 من كتاب ديارات بغداد [[مؤلف:|]] |
خواطر مسجوعة: ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1947 |
الديارات وملحقاتها. . .
للأستاذ شكري محمود أحمد
الدير بيت يتعبد فيه الرهبان، ويكون بين الرياض والحدائق في ظواهر المدن والأمصار، أو في المواضع البعيدة عن الناس كالصحارى والمستشرفات ورؤوس الجبال.
وقد أخطأ ياقوت في الكلام على الدير والتعريف به في كتاب معجم البلدان بقوله: (ولا يكاد يكون بالمصر الأعظم، إنما في الصحارى ورؤوس الجبال). فإننا وجدنا أديرة كثيرة في ظواهر المدن، فقطربل مثلا وهي ملاصقة لبغداد فيها دير أشوني، قال الشابشتى: (وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه. . . ويباهون بما يعدون لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه، وديره وحاناته. . .) وفي قطربل أيضاً دير آخر أسمه دير (الجرجون) ذكره الشابشتى في الكلام على دير اشموني.
وقد أحصيت الأديرة التي كانت ملاصقة لبغداد أو قريبة منها فوجدتها تقرب العشرين ديراً، وربما كانت أكثر من هذا؛ أما الأديرة التي حول الحيرة أو قريبة منها فأكثر من عشرين ديراً. وهذا ينقض زعم ياقوت بأن الدير لا يكون في المصر الأعظم، وإذا استقصينا الشواهد على نقضه ضاق بنا المجال.
وربما يكون قول المقريزي في التعريف بالدير أقرب إلى الصواب، فقد قال: (الدير عند النصارى يختص بالنساك المقيمين به، والكنيسة مجمع عامتهم)
أما قول الفيروز ابادي في الدير، والتعريف به فقلق جداً لا يدل على اطلاع في هذا الموضوع، فقد قال: (الدير خان النصارى وجمعه أديار)، والخان يطلق على كل موضع يقام به في سفر أو غيره.
وقد جاء في الشعر العربي إشارات كثيرة إلى مواضع الأديرة التي تكون على سفوح الجبال أو في السهول والرياض. قال أبو الحسين بن أبي البغل الشاعر في دير الأعلى بالموصل، وقد اجتاز به يريد بلاد الشام:
انظر إليَّ بأعلى الدير مستشرفاً ... لا يبلغ الطرف في أرجائه طرف كأنما غريت غر السحاب به ... فجاء مختلفاً يلقاك مؤتلفا
فلست تبصر إلا جدولا سرباً، ... أو جنة سدفاً، أو روضة أنفا
وربما كان هذا الدير (دير الأعلى) أكثر الأديرة ارتفاعاً.
قال العمري: (وله درجة منقورة في الجبل تفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة).
وقال ربيعة الضبي يصف إحدى الحسان:
لو إنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرى متبتل
جآر ساعات النيام لربه ... حتى تخدر لحمه متشمعل
لصبا لبهجتها وحسن حديثا، ... ولهمَّ من ناقوسه بتنزل
ومما جاء في وصف موضع الدير الذي يكون بين الحدائق والرياض تحف به البساتين والحقول قول ابن المعتز في دير عبدون:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطالٌ من المطر
يا طالما نبهتني للصبوح به ... في ظلمة الليل والعصفور لم يطر
أصواتُ رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع، نعَّارين في السحر
وقال جحظة البرمكي في دير أشموني بقطربل، وقد خرج إليه في عيد من أعياده، فلما وصل إلى الشط، مد عينيه لينظر موضعاً خالياً يصعد إليه، أو قوماً ظرافاً ينزل عليهم، فرأى فتياناً من أحسن الناس وجوهاً، وأنظفهم لباساً، وأظرفهم آلة، فصعد إليهم وصاح بغلامه: (يا غلام طنبوري ونبيذي، فقالوا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا، فجلست مع أحسن الناس أخلاقاً وأملحهم عشرة، وأخذنا في أمرنا، ثم تناولت الطنبور وغنيت شعراً لي:
سقياً لأشموني ولذاتها ... والعيش فيما بين جناتها
سقياً لأيام مضت لي بها ... ما بين شطيها وحاناتها
إذ اصطباحي في بساتينها ... وإذ غبوقي في دياراتها
وعلى ذكر أشموني وخبر جحظة البرمكي وشعره فيه، يجمل بنا أن نذكر هذه القطعة البارعة لأبي الشبل البرجمي فيه، وهو كصاحبه جحظة من (عصابة السوء) النواسية:
شهدت مواطن اللذات طراً ... وجبتُ بقاعها بحراً وبرا فلم أر مثل أشموني محلاً ... ألذ لحاضريه ولا أسرا
به جيشان من خيل وسفن ... أناخا في ذراهُ واستقرا
كأنهما زحوف وغيً ولكن ... إلى اللذات قد كرا وفرا
سلاحهما القواقز والقناني ... وأكواس تدور هلم جرا
وضربهما المثالث والمثاني ... إذا ما الضرب في الحرب استحرا
وأسرهما ظباء الدير (طوعاً) ... إذا أسد الحروب أسرن قسرا
فالدير إذن يكون على قمم الجبال وسفوحها، وفي السهول بين الرياض والجنائن ملاصقاً للمدن أو بعيداً عنها في الصحارى والمواضع المنقطعة عن الناس.
ويسمى الدير أحياناً بالعمر وجمعه أعمار قال صاحب تاج العروس في العمر: (والعمر بالضم المسجد والبيعة والكنيسة، سميت باسم المصدر لأنه يعمر فيها أي يعبد).
وقد فرق صاحب مراصد الاطلاع بين الدير والعمر، فخص ما كان منهما قريباً من المدن والعمران بالعمر وما كان بعيداً عنهما بالدير، وذلك في قوله: (. . . وما كان من مواضع المتعبدات التي فيها مساكن الرهبان بقرب العمران فإنه يسمى العمر).
وقد مرت هذه اللفظة في شعر الفتاك والماجنين الذين كانوا يألفون الديارات ويتطرحون فيها، قال أبو نؤاس:
أذنك الناقوس في الفجر ... وغرد الراهب في العمر
وحنّ مخمور إلى خمرة ... وجاءك الغيث على قدر
يا حبذا الصحبة في العمر ... وحبذا نيسان من شهر
يا عاقد الزنار في الخصر ... بحرمة الحانة والفهر
هات التي تعرف وجدي بها ... واكن بما شئت عن الخمر
يا حبذا الجهر بأمر الصبا ... ما كنت من ربك في ستر
وقد أرجع حبيب زيات هذه اللفظة (العمر) إلى أصل أرامي بمعنى البيت والمنزل.
ملحقات الدير:
تشتمل الأديرة على الكنيسة والهيكل، والقلالي وبيوت المائدة، ومستودعات الخمور، والبساتين ومعاصر الكروم والحانات ودور الضيافة، وحجر الرهبان، وحجره لرئيس الدير الذي يشرف على تنظيمه.
ويحف بالدير أحياناً بنايات مرتفعة يسكن كل واحدة منها راهب يقال لها القلالي أو القليات، ومفردها على الأول قلية، وعلى الثاني قلاية، ومعناها الصومعة، وقد تكون هذه القلالي في داخل الدير خلف سوره.
وربما كانت هذه اللفظة (قلية) في الأصل خلية، وجمعها خلايا لأنها تشبه الخلايا في شكلها وانتظامها حول الدير.
وقد مرت هذه اللفظة في شعر العصبة النواسية في مواضع كثيرة نكتفي بقول الثرواني في دير بالحيرة عرف بقلاية القس.
قال:
خليلي من تيم وعجل هديتما ... أضفيا بحث الكأس يومي إلى أمسي
وإن أنتما حييتماني تحية ... فلا تعدوا ريحان قلاية القس
وتنتشر حول الأديرة الحقول والبساتين المعمورة بمختلف الأثمار والأزهار، وقد كانت الكروم أكثر هذه المزروعات عناية، وذلك لأن الخمور النصرانية التي كانت تدخر في الأديرة لها شهرة ممتازة يقبل عليها الناس من كل جانب.
واشتهرت المزرفة - وهي قربه ملاصقة لبغداد، فيها اديرة كثيرة - بالرمان الذي ضرب المثل بجودته حتى قيل الرمان المزرفي. وهذه القرية بين قطربل وبزوغي، وتبعد عن بغداد ثلاثة فراسخ.
ومن الأثمار التي عني بزراعتها في الأديار الزيتون والنارنج والفستق والبندق واللوز. وكان الرهبان يعنون بتربية النحل للاستفادة من شمعه وعسله.
وكانت الأديرة مزينة بالقناديل والصلبان والدمى، مصبوغة بالأدهان، وقد كانت هذه الدمى منقوشة على الحيطان بمختلف الألوان، ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد بالشعر على ذلك لأنها مرت في مواضع كثيرة من الشعر العربي، حتى أصبح ذكرها من متلزمات القصيدة - في بعض الأحيان - كذكر الأطلال والدمن والربوع.
في الغالب المشهور أن هذه الأديرة كانت محاطة بالأسوار المرتفعة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك. وربما كان لها باب حديد كدير الأسكون بالحيرة، أو باب حجر كدير باطا، ويسمى هذا الدير أيضاً (دير الحمار) وقد كان بين الموصل وتكريت قال ياقوت: (. . . وله باب حجر يذكر النصارى أن هذا الباب يفتحه الواحد والاثنان، فإن تجاوزوا السبعة لم يقدروا على فتحه. .).
ولكن هذه الأسوار المرتفعة، والأبواب الحديدية القوية لم تكن لتحمي الرهبان والراهبات على كثرة عددهم من اللصوص والفتاك، فقد أصيبوا كثيراً بالنهب والقتل وهتك الحرم.
وقصه اللصوص في دير العذارى خير شاهد على ذلك، وخبر الحادث يرويه لنا الجاحظ في كتابه (المعلمين) وهذا الكتاب مفقود، لكن الخبر ينقله عنه البكري والبلاذري وياقوت والشابشتي والعمري. قال: حدثني ابن فرج الثعلبي أن فتياناً من بني ملاص من ثعلبة، أرادو القطع على مال يمر بهم قرب دير العذارى، فجاءهم من خبرهم أن السلطان قد علم بأمرهم، وأن الخيل قد أقبلت تريدهم، فاختفوا في دير العذارى. فلما حصلوا فيه، سمعوا أصوات حوافر الخيل التي تطلبهم وهي راجعه من الطلب فأمنوا. فقال بعضهم لبعض: ما الذي يمنعكم أن تأخذوا القس وتشدوه وثاقاً، ثم يخلوا كل واحد منكم بواحدة من هذه الأبكار، فإذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد؟ وكنا جماعة بعدد الأبكار اللواتي كن في حسابنا أبكاراً. ففعلنا ما أجمعنا عليه، فوجدناهن كلهن ثيبات قد فرغ منهن القس.
وينظم أحد هؤلاء اللصوص قصتهم هذه مع الرواهب قائلاً:
ودير العذارى فضوح لهن ... وعند اللصوص حديث عجيب
خلونا بعشرين ديرية ... ونيل الرواهب شئ غريب
إذا هن يرهزن رهز الظراف ... وباب المدينة فج رحيب
واشتهرت قصة دير العذارى هذه حتى وردت في مواضع مختلفة في الشعر العربي.
وفي أحداث سنة 449 هـ (1057) يذكر صاحب مرآه الزمان: (فيها صعد عشرون رجلاً من الغز إلى دير للنصارى بميافارقين، فيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين واشترى الباقون نفوسهم بست مكاكي فضة وذهب).
فالأسوار المرتفعة والأبواب الحديدية التي كانت تحصن الأديرة لم تحافظ على الرهبان والرواهب، لذلك نجد أكثر هذه الأديرة متجمعة بالقرب من المدن الكبيرة، والعواصم المزدحمة، والأمصار المأهولة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك.
أما الكرح بالكسر فبيت الراهب، ويكون أصغر من القلية، يسكن فيه الراهب إذا قعدت به الحال ولم يستطع الحصول على قلية. وجمع الكرح أكراح، ويجيء جمعه أيضاً على صيغه التصغير اكيراح. قال ابن منظور في اللسان ج 3 ص 405 هي بيوت للرهبان يخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم. ومعنى هذه اللفظة اليونانية الكوخ الصغير.
وأشهر المواضع التي عرفت بالأكيراح هو دير حنة بالحيرة الذي وصفه أبو نؤاس في موضعين، قال:
دع البساتين من ورد وتفاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
اعدل إلى نفر دقت شخوصهم ... من العبادة إلا نضو أشباح
يكرورن نواقيساً مرجعة ... على الزبور بامساء واصباح
تنأى بسمعك عن صوت تكرهه ... فلست تسمع فيه صوت فلاح
إلا الدراسة للإنجيل في كتب ... ذكر المسيح بإبلاج وإفصاح
يا طيبه وعتيق الراح تحفتهم ... بكل نوع من الطاسات رحراح
يسقيكها مدمج الخصرين ذو هيف ... أخو مدارع صوف فوق أمساح
ويصف في موضع آخر من شعره رهبانه ورواهبه، وكيف أصبحوا أنضاءً من العبادة:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... منن يصح عنك فإني لست بالصاح
رأيت فيك ظباء لا قرون لها ... يلعبن منا بألباب وأرواح
دع التشاغل باللذات يا صاح ... من العكوف على الريحان والراح
واعدل إلى فتية ذابت نفوسهم ... من العبادة نحف الجسم أطلاح
لم يبق فيهم لرائيهم إذا حصلوا ... خلاف ما خوفوه غير أشباح
تلقى بها كل محفو مفارقه ... من الدهان، عليه سحق أمساح
لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافاً من الغدران بالراح
والغريب أن ناشر مسالك الأبصار يقول إن الأكيراح: بلد نزه كثير البساتين والرياض والمياه
والصحيح ما أثبتناه من أن الأكيراح هي بيوت صغيره تشبه القلية يسكنها راهب واحد إذا لم يستطع الحصول على قلية.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية