مجلة الرسالة/العدد 713/من حديث الجهاد
→ مسألة القضاء والقدر | مجلة الرسالة - العدد 713 من حديث الجهاد [[مؤلف:|]] |
النطق وكيف نشأ ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
ركبت الترام أمس وكان ممتلئاً بالناس، قد قعدوا على مقاعده، ووقفوا في رحباته، وتعلقوا بسلالمه، وكنت قاعداً في الدرجة الأولى، فرأيت امرأة ملتفة بملاءة على يدها ولد يظهر عليها أنها مسكينة مغلبة تريد أن تدخل علينا، فيمنعها رجل بلدي واقف بالباب، ويقول لها: (دامش مكانك، دا بريمو، مكان الخواجات) فتستكين وتقف، فدعوتها وأقعدتها في محلي، وهي حائرة لا تدري في خجلها وشكرها ماذا تقول لي، وسار الترام إلى المحطة التالية فنزل ناس وصعد ناس، وكان فيمن صعد امرأة فرنجية ضخمة كأن خديها زقان منفوخان، وكأن ثدييها عدلان على ظهر أتان. . . وأقبلت تزحم الركاب بوقاحة عجيبة حتى دخلت علينا. فلما رأت المرأة قلبت شفتها، وقلصت وجهها حتى صار كوجه قرد عجوز. . . وحملته كل ما استطاعت من إمارات الاشمئزاز والكبر، وضمت ثوبها ترفعاً أن يمس الملاءة وأشارت لها بيدها، أن: قومي. . .
فنظرت المسكينة نظره بلهاء، وابتسمت ولم تفهم. . . فقالت لها: (دا بريمو، أنت بيروخ هناك، يلا، يلا). . .
فقامت. . . فلم أملك أن صرخت بها: (أقعدي) وقلت لهذه الوقحة: (ألا يكفي أنك زاحمتها على خبز بلدها، وأكلت خيره من دونها، وغنيت به وفقرت هي فيه، حتى أردت أن تقيميها وتقعدي مكانها. . .)
وكانت ثورة مني عاصفة، فلم يجب أحد، ولكن شاباً (مهذباً) استاء مني، وأراد أن يعلن احتجاجه علي، فنهض قائماً وقال (تفضلي يا مدام) وأعطاها مكانه. . .
وذهبت أزور رجلا كبيراً، اعتزل الناس في بيته بعد أن ولج أوسع أبهاء القصور، وحل في أضخم كراسي المناصب، وتشقق الحديث معه حتى بلغ الكلام عن الإخوان المسلمين فقال: (إنهم سيتسلمون الحكومة يوما ما، ولكن المشكلة، أنهم يريدون العودة إلى الحكم الإسلامي، ومصر تمدنت وارتقت حتى صارت قطعة من أوربا، فكيف يمكن أن ترجع إلى أحكام الشرع؟)
وسمعت كثيرين من رجالات العرب، يتظرفون بدس الكلمات الفرنسية أو الإنكليزية ف أحاديثهم العربية، من غير داع إليها، ولا فائدة منها، ويجدون ذلك رافعا من أقدارهم معليا من منازلهم.
ورأيت كثيرين من الشباب تجيئهم بالحكمة أو النظرية فتعزوها إلى صاحبها الشرقي المسلم، فيلوون وجوههم عنها، ولا يحفلونها، فإذا نسبتها للفيلسوف الألماني أو الأديب الإنكليزي هشوا لها وبشوا، وتلقوها بالتجلة والإكبار.
وقرأت لكثيرين من المؤلفين والباحثين فصولا في الدين أو اللغة، لا مرجع فيها إلا النقل، ولا تنقل إلا عن أئمتنا وعلمائنا، فرأيتهم يدعون المنبع ويستقون من ذيول السواقي، ويتركون مراجعنا ويعزون إلى فلان وعلان من المستشرقين.
وليس فينا من لا يرى تقليد الأوربيين مدنية، واتباعهم رقياً، ومن لا يشعر في قلبه بإجلالهم، ويتمنى أن يزور بلادهم، ويثقف ألسنتهم، ويا ليت أنا إذ أحببناهم جمعنا حبهم، ولم يفرقنا غرامهم شيعاً وأحزاباً لهم، ويا ليت أنا ارتفعنا اليوم عما وصفه جبران خليل جبران، منذ ربع قرن، حين قال: (كان العلم يأتينا من الغرب صدقة وإحساناً، فنلتهم خبز الصدقة لأننا جياع فأحيانا ذلك الخبز، فلما حيينا به أماتنا، أحيانا لأنه أيقظ بعض مداركنا، ونبه عقولنا، وأماتنا لأنه فرق كلمتنا، وأذهب وحدتنا، وقطع روابطنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة، مختلفة الأذواق، متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية، وترفع لواءها، وتترنم بمحاسنها وأمجادها. فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي ارتشف رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسياً، والشاب الذي لبس قميصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا روسيا).
فإذا كنا - ولا نريد أن نماري في الحق، ولا نجادل في الواقع؛ إذا كنا نطوي قلوبنا على حبهم، ونضم جوانحنا على إكبارهم، ونرى أنفسنا صغاراً أمامهم، ونقلدهم في كل شيء ونمشي وراءهم، فماذا ينفعنا قولنا بألسنتنا إننا نكرههم ونعاديهم، ولا نقعد عن حقنا حتى نناله منهم برغمهم؟
لقد تعلمت في المدرسة الابتدائية حكاية لا أزال أذكرها إلى اليوم، هي أن رجلا كان يذبح العصافير في يوم بارد ويبكي، فقال عصفور منها لأخيه: ألا ترى إلى شفقة هذا الرجل ورقة قلبه؟ قال: ويحك لا تنظر إلى دموعه، ولكن انظر إلى ما تصنع يداه.
فهل تظنون أن الإنكليز والفرنسيين أصغر أحلاماً من العصافير حتى يخدعوا وبخطبكم وأقوالكم، ويعموا عما تصنع أيديكم؟
إن قضية فلسطين لم يجر مثلها ولا في أيام نيرون. ولو قرأناها في أخبار الأولين، لما صدقنا أنه يسوغ في إنسانية البشر، وعقل العقلاء، أن تقول لرجل: أخرج من دارك ليأوي إليها هذا المشرد المسكين، ونم أنت في زقاق، أو اضطجع على المزبلة، أو مت حيث شئت. هذا قضاء المدنية، وهذا حكم الديمقراطية.
وإن حوادث المغرب لم يقع مثلها ولا على عهد محاكم التفتيش أن يذبح عشرات الألوف من الأبرياء، لأنهم قالوا لمن دخلوا عليهم بلدهم، واغتصب أرضهم، وأكل خبزهم: أطعمنا معك من خيرات أرضنا، وارفق بنا في عدوانك علينا. . .
فهل أحسسنا حقيقة ببغضاء الفرنسيين والإنكليز؟ ألا يزال فينا من يثني على الإنجليز في الصحف (تقريراً للحقيقة؟)، ويحتفل بدوهامل (تمجيداً للأدب؟) ويودع المجندات الإنكليزيات بالأسى (تقديراً للجمال؟)، ألا يزال فينا نواد أقيمت لتثبيت الصداقة بيننا وبين هؤلاء الذين فعلوا هذه الأفاعيل في فلسطين والمغرب؟
فكيف يجتمع الحب والبغض في قلب واحد؟
إننا في أيام لها ما بعدها، ومصائب تنسينا أواخرها أوائلها فإذا كنا جادين حقيقة في إنقاذ فلسطين والمغرب، وفي العمل لمصر وللعربية الإسلامية وكنا نريد أن نكون أمة تستحق أن تعيش، فيجب أن نتخلص أولا من استعمار الأوربيين أدمغتنا وألسنتنا وبيوتنا، وأن نحكم عقولنا فلا نقتبس منهم إلا ما نعتقد نفعه لنا، وأن نثق بأنفسنا، ونشعر بكرامتنا، وأن يفهم الحاكم منا أن لنا شرعاً أفضل من قوانينهم، فيجب أن نقتبس الأحكام من شرعنا، وأن يعلم الطالب أن لغتنا أكمل من لغاتهم، وأدبنا أسمى من آدابهم، وتاريخنا أمجد من تواريخهم، وأنها لم تخدم أمة العلم ما خدمته أمتنا، وأن يعتقد التاجر أن من الفرض عليه أن يروج البضاعة الوطنية، ويقاطع الأجنبية التي تزاحمها، وأن يؤمن الأديب بأن لهذه الأمة حقاً على قلمه، أن يدافع عنها، ويعيد إليها كرامتها، وثقتها بنفسها، ويصغر الأجنبي في عينها، وأن يفهم أخنع رجل فينا، أنه أعظم من أكبر خواجة من الخواجات، أو (مستر) من المساترة أو (هر) أو (سنيور) من السنانير والهررة، وأن يعلم أنه هو صاحب البلد، وهؤلاء بين غاصب أو لص أو (شحاذ)، وله هو مقعد الدرجة الأولى في الترام، وله الغرفة الأولى في الفندق، والمائدة الأولى في المطعم، وأنه حينما يقنع بالأقل ويتوارى ويبتعد، ويدع الأجنبي يملك الأرض، والعمارات، والمتاجر، يكون مجرماً كالجندي الذي ينهزم بالمعركة.
وملاك الأمر كله، أن نعلم أننا أساتذة الدنيا، ونحن سادتها عززنا بقرآننا وديننا، ولا يزال القرآن مبعث عز لنا، فلنعد إليه ولنجعله إمامنا في حياتنا، ومعقد فخارنا، ولندع الدنيا إلى أتباعه لأنه لا فلاح لها إلا به.
إننا اليوم أضعف من الغربيين في القوى المادية، فلم يبق لنا إلا القوى الروحية: قوة الإيمان وقوة الأخلاق، وقوة العفاف فلنحافظ عليها، ولنحارب الإلحاد والنفاق والفجور، لأنها عون للعدو علينا، وسلاح له يعمل فينا، وأن نجرد للعدو جندا اخرجوا حبه من قلوبهم، وضلالاتهم من رؤؤسهم، وعاداته من بيوتهم، وأبغضوه بغضا بلغ الشغاف، وخالط الدم، وسرى في الأعضاء وظهر في الأفعال. جنداً صدورهم حافلة بالإيمان، عامرة باليقين، يثقون بماضيهم وأنهم يستمدون منه الظفر: من ألف معركة منصورة كانوا أبطالها ومن ألف سنة مباركة كانوا ملوك الأرض فيها، ويثقون بحاضرهم وأن دمائهم، ما أضاعت هذا الإرث، ورؤؤسهم ما فقدت هذه الذكريات، ونفوسهم ما خسرت ذلك الشمم وتلك الفضائل، ويثقون بمستقبلهم وأنهم سيملكون الأرض مره أخرى وسيعودون ملوكها. جنداً: شباباً هم في الحكمة كالشيوخ، لم تسترقهن الشهوات، ولم تستعبدهم الملذات، ولم تلعب بهم الصبايا، وشيوخاً هم في العزيمة كالشباب، لم تفتنهم المناصب، ولم يطغهم الغنى، ولم يسر في أعصابهم الخور. . .
بهذا الجيش فلنجاهد، جهاداً متصلا مستمراً، لايني ولا يقف حتى يهدم قلاع العدو كلها، ظاهرها ومضمرها، وواضحها وخفيها.
إن الجهاد إن لم يبدأ من البيت والمدرسة والجريدة، فلا يمكن أن ينتهي إلى الساحة الحمراء، فإذا أردتم أن تبلغوا نهاية الطريق فامشوا من أوله، وإن شئتم أن تصلوا إلى أعلى السلم فابدءوا من أسفله، فإن من يمشي من آخر الطريق يرجع إلى الوراء، ومن ينزل من رأس السلم يصل إلى الأرض.!
(القاهرة)
علي الطنطاوي