مجلة الرسالة/العدد 711/من صميم الحياة
→ حول قضية فلسطين: | مجلة الرسالة - العدد 711 من صميم الحياة [[مؤلف:|]] |
على ذكر المولد النبوي: ← |
بتاريخ: 17 - 02 - 1947 |
في حديقة الأزبكية
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت بالأمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي، فسلم وقعد ساكتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليَّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله، ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرم بمجلسي، ويرقب قيامي، فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ: (تفضل!). فقال متردداً: (أني أريد أن أقص عليكم قصتي. . . علَّها. . . تكتب في الرسالة. . . ولكن. . . سأجيء في وقت آخر) وألقى علَّي نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول: (لولا هذا الرجل!).
قال الأستاذ معرفا بي: (انه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقص القصة أمامه، فلعله إذا سمعها منك كتبها هو). فلما عرفني اشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول. . .
وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي، وكانت تلك أول مرة اقدم فيها إلى القاهرة، وارى فيها الدنيا، أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل على غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل، ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقي في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة، لم اخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لدات لي فرايتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج، وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، والى حلقة الشيخ، فقرانا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة، ثم اقبلنا على الأدب، نعب الشعر الغزل، كما يعب من النبع العذب الصادي الظمآن، ونحفظه في صدورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه، فيكون في صدورنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطبا يابساً يزيد اشتعال، ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً، وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة، وظلتا من خلف زجاج النافذة، وصوتها من وراء الباب، لا نرى منها اكثر من ذلك، فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم. . . وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.
- قلت: فما فائدة الحجاب؟ - قال: أن الخير المطلق ليس من طبيعة الدنيا، والعبرة بالغالب، فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون فيه خير قليل، وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلب، او الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.
وعاد إلى قصته، فقال:
وكنت سمعت على القاهرة إنها، لا تؤاخذوني، إنها كباريز، بلد لذة وانطلاق، وإنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغني والفقير، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق، يصنع كل فيها ما يريد، لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فانه حرام. وكف عن ذا فانه عيب، وإن. . . لأستحي والله أن أتكلم. . .
قلنا له: قل يا آخي، انك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح
فتردد قليلا، وغض بصره. ثم قال:
- وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني، أعني أن في مصر نساء كثيرات أ. . . الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا. بل صورة (البلاج) ومشاهده، والسفور والاختلاط، وان الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا، ولكن صوت الاثنين والأخبار والمسامرات، منها تكونت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً. . .
- أنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم. . .
- ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال، ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل، وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر، ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلا، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلدي، كانوا دلوني عليه من قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)، فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام، يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.
- ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية، وكنت قد قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب، لأنه أوسخ معابد الشيطان، السوق التي تباع فيها اللذائذ، فاقتربت منها وقلبي يجف كأني مقبل على جريمة قتل، وهل الزنا إلا أخو القتل؟ وتمثل لي ماضي وأخلاقي، وطلعة الشيخ، فارتددت وتلفت أنظر هل راني من أحد - لا تضحكوا أرجوكم فإني اصف لكم ما وقع لي، ومر رجال، خيل إلي أن واحداً منهم يحدق في، ويحدّ النظر إلي ويتبسم فشعرت أن دمي كله قد صعد إلى رأسي، وأن أذني قد صارتا جمرتين ملتهبتين، وتصبب العرق من جبيني، لما وقع في نفسي من أن الرجل يعرفني، ويعلم ما اسعي إليه، فأسرعت في مشيتي حتى نبهت الناس ألي بإسراعي، فجعلوا ينظرون إلي متعجبين من عجلتي، وكلما رأيت ذلك منهم ازددت عجلة، كأني الجواد الأصيل يقرع بالمقارع ليقف، وكلما أحس وقعها طار جرياً، حتى إذا ابتعدت وقفت، ووجدت راحة الخلاص من الإثم، كما يجد الغريق راحة الوصول إلى الهواء، ومشيت لا اعرف لي وجهة، فعاد الشيطان يوسوس الي، فثارت الرغبة في نفسي كرة أخرى، وندمت على أن أضعت هذه الفرصة التي انتظرتها دهراً مديداً، وفكرت فيها مسهداً ليالي طوالا، وقطعت من اجلها قفراً وخضت بحراً، ومشيت من مشرق الشمس إلى مغربها، فعدت وجعلت أدور حول سور الحديقة، وقلبي يكاد يمزق بوجيبه جدار صدري، وكان اليوم يوم أحد، فرأيت غوانيها من خلال السور قاعدات باديات المفاتن أو مضطجعات أو منبطحات على الكلأ ساحرات بالمقل النواعس، وبالسوق والأفخاذ، فكدت أجن، ولا تنسوا أنى لا أزال اعتقد أن الحديقة هي (أزبكية المنفلوطي). . .
وشددنا أشداقنا كيلا يفلت الضحك منا، ومضى في قصته.
قال: ورأيت على مقعد شاباً وفتاة، وهما يتناجيان، وعلى وجهيهما من ظلال الحديث، مثل ما يكون على وجه البحيرة الساكنة من شعاع القمر، وقد تداني الرأسان، والتفت الأيدي بالمناكب، وتعارض الساقان، وأحاطهما بجناحيه إبليس الهوى، فجن جنوني، ودفعتني موجة الانفعال التي ماجت في نفسي، فأقدمت حتى إذا ضعفت الموجة وماتت، كما تموت أمواج البحر وسط اللجة، ألفيتني عند الباب، فوقفت لا ادري ماذا اعمل، وتخيلت كأني قد أقمت على عمود في رحبة القرية والناس كلهم ينظرون إلي يقولون: هذا الذي دخل الأزبكية التي لم يعرف (المنفلوطي) من تحديدها إلا إنها فوق الغبراء تحت السماء، وتمنيت من الخجل أن أغوص في الأرض وأحسست أن الدنيا تدور من حولى، ولم ينقذني إلا رجل دخل فتوسط الباب الدوار، فدفع (قرش تعريفة) فأداره له البواب حتى صار في الحديقة، فصنعت صنيعه وأنا لا أعقل ما أصنع. . .
جلت في الحديقة فوجدت نساء من كل لون وجنس، ولكني كنت كمن ألقي في الماء قبل أن يتعلم السباحة، فلم أدر كيف السبيل إليهن، وحاولت أن أتذكر ما قرأت من القصص وماذا يعمل إبطالها في مثل هذا الموقف، وما حفظت من أشعار الغزل، فلم يخطر على بالي إلا أبيات (سألت الله يجمعني بسلمى) فقد كانت حالي كحال هذا الشاعر، أرقب أن تجيء إحداهن فتأخذ هي بيدي وتجرني إليها، ولكني لم أر غرفاً ولا مخادع، ثم وجدت بناء في الحديقة فعلمت أن المخادع والغرفات فيه، وبقيت إلى المساء أدور، لا أفكر في طعام ولا أشكو التعب، حتى إذا قيل اخرجوا ستغلق الحديقة، خرجت وما أظن أن على ظهر الأرض إنسان أخيب مني. . .
وجعلت أعود إليها، كل يوم، فلما كان بعد ثلاثة أيام، وكنت قاعداً على مقعد وأمامي امرأة قصيرة الثوب، عارية الساق قد رفعت رجلا على رجل، فأبدت ما أحسست به كالبارود في أعصابي، وجعلت أنظر إليها، علها تلقي بصرها علي، فأغمزها بعين - وقد فكرت في ذلك الليلة البارحة كلها، ورأيته هو الطريق إليها، بعدما أعياني الوصول، وجربته أمام المرآة حتى حسبتني أتقنته والتفتت إلى فغمزت بعيني، فإذا بها تشمخ بأنفها، وتقوم فتمضي وعلى وجهها مثل إمارات الاشمئزاز. . . وسمعت ضحكا من ورائي فتلفت مذعوراً، فإذا أنا بشاب على رأسه كمة بيضاء يلبس (قفطاناً) يبدو عليه أنه فلاح، تلوح عليه سيمياء الفقر، وراى ذعري فقال: (إزيَّك) قلت: (كلُّش زين) ففهم أني غريب، وأني عراقي. فقال: (عجبتك؟) فاستحييت أن أجيب. فقال الخبيث: (ليه؟ أنت مكسوف)؟ ما تتكسفشي! تعال أوديك واحدة أحلى منها).
إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا ماذا صنعت بي هذه الكلمة وأنا الذي عاش عمره يشتهي أن يشم ريح امرأة من مسافة فرسخ وتشجعت فقلت له بصوت مخنوق: (شْلُون؟).
قال: (شلون يعني إيه؟ تعال معايا. تعال) واخذ بيدي وأخرجني من الحديقة، وقال: (تحب ناخذ تاكسي ولاَّ نركب الترام؟) وكنت نافذ الصبر، مجنون الرغبة، فقلت: (تاكسي). ولو كانت طيارة لركبت إلى ما يأخذني إليه طيارة، ولم أساله إلى أين، حتى نزلنا من السيارة، فسألت السائق: (كم تريد)؟
قال: (ثلاثين قرشاً) فارتعت لحظة ولكني لم أبال، ونقدته الأجرة ونظرت فإذا الذي بقي في جيبي اثنان وعشرون قرشاً، وسائر فلوسي عند الفندق. نفقة الشهر كله خمسة عشر جنيهاً. . .
قال الشاب: (إيدك على جنيه بأه). قلت: (جنيه؟) قال: (أمّال؟ دي بنت تمانطاشر، زي الأمر). فنظرت هنا وهناك أبغي مهرباً ولا أعرف الطريق. فقال: (مالكش مزاج ولا إيه؟). قلت: (في وقت ثاني). قال الخبيث: (على خاطرك. هات تعبتي بأه) فأعطيته خمسة قروش، ولم يحب أن يفلتني قبل أن ينتف ريشي فعاد يحدثني حديث الرجس، وقال لي أن عنده بنات أخر، ولكن لكل ثمن، فبنت مصرية سمراء كأن عينيها عينا غزال شارد، وبنت شامية من صفتها كذا، وبنت عراقية من بلادنا من نعتها كذا، وبنت رومية كأن جسمها العاج المشرب بعصير الورد، وكأن شعرها أسلاك الذهب، تسقي من فمها خمراً، ومن مقلتها سحراً ورآني أرتجف من الانفعال، ورأى وجهي شاحباً، فقال: هي بنت بيت (مش من دول) لا تأخذ فلوساً لأن أباها من كبار أصحاب المصارف، ولكن للبواب جنيهان ليغض النظر، وله هو جنيه، واثنان لوصيفتها لتكتم الأمر، وتحفظ الباب. . .
وسحرني الملعون. فقلت: (لا بد لي من الذهاب إلى الفندق لآتي بالفلوس) قال: (هيا بنا).
وتسلم الجنيهات الخمسة، وأدخلني عمارة فخمة في شارع الملكة نازلي، فأصعدني إلى الطبقة السابعة، وأشار إلى باب فقال: إنها هنا. ولكنه لا يستطيع أن يدخل معي، فهو ينتظرني عند البواب، ونزل بـ (المصعد) الذي صعدنا به، وأقدمت مضطراً فقرعت الباب بيد ترتجف، ففتحة لي خادم اسود مسن، ووقف ينظر ما أقول له، ووقفت مبهوتاً فقال: (إيه؟ عاوز مين؟) فسكت. قال: (الله! أنت عاوز مين؟) قلت: (جورج)، وكان هذا هو الاسم الذي خطر على لساني. قال (جورج؟! دا منزل أحمد بك صالح المحامي) واغلق الباب في وجهي، ولم أجد المصعد فنزلت على الدرج، من الطبقة السابعة، فلما بلغت الباب لم أجد الشاب ولا البواب! طبق الأصل
علي الطنطاوي