الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 711/القصص

مجلة الرسالة/العدد 711/القصص

مجلة الرسالة - العدد 711
القصص
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 02 - 1947


لويز. . .

للكاتب الإنكليزي سومرست موم

ترجمة الأديب السيد مصطفى غازي

عرفت لويز قبل أن تتزوج. كانت وقتئذ فتاة ضعيفة رقيقة ذات عينين وسيعتين حزينتين، كان أبواها يحبانها ويرعيانها في قلق وترقب، إذ قد اتفق على ما أذكر أنأصابتها الحمى القرمزية وخلفتها ضعيفة القلب وفي حاجة إلى أن تعنى بنفسها عناية كبيرة، فلما تقدم توم متيلاند ليخطبها إلى نفسه فزع أبواها إذ كانا يعتقدان أن صحتها الرقيقة لم تكن لتحتمل متاعب الزواج ولكنهما لم يكونا موسرين وكان توم ميتلاند غنيا، ووعد بأن يبذل كل ما في وسعه في سبيل سعادة لويز فقبل الأبوان تزويجها منه وقدماها إليه هدية مقدسة.

كان توم ميتلاند شاباً متين البناء، رياضيا، جميل المنظر جذابه، ولقد وضع كل اهتمامه في لويز إذ لم يكن يأمل أن تحيى إلى جانبه بقلبها الضعيف طويلا، وعاهد نفسه على أن يقوم عنها بكل شيء ليجعل سنواتها القليلة على الأرض مليئة بالسعادة والهناء. وترك الرياضة التي كان بارعا فيها لا لأنها كانت تريد منه ذلك فقد كان يسرها أن يلعب (الجولف) ويصطاد، بل لأنه كان يصادف أن تصاب بنوبة قلبية كلما اعرض عليها أن يتركها لمدة يوم واحد. وإذا حدث أن اختلفا في رأي ما كانت تستسلم له توا فقد كانت اسلس الزوجات قياداً، ولكن العلة تعاود قلبها فتحمل إلى فراشها وتبقى فيها أسبوعاًً وادعة راضية، ويحس بأنه كان عليه إلا يكون قاسيا فيعارضها، فيتنازل لها عن رأيه وفي جهد يحاول إقناعها بان تفعل ما ترتئيه.

حدث ذات مرة بعد أن رأيتها تمشي ثمانية أميال في رحلة قامت بها أن قلت لتوم ميتلاند ملاحظا: إنها أقوى مما كان يتصوره المرء، فهز رأسه وتنهد قائلا: (كلا. كلا. إنها رقيقة جدا. لقد ذهبت إلى جميع الأطباء الأخصائيين المبرزين في مرض القلب فاتفقوا جميعا على أن حياتها معلقة في خيط، ولكن لها روحا لا تقهر) وأخبرها بما قلت عن تحملها فقالت لي مؤنبة: سأدفع ثمن ذلك وسأكون على باب الموت. فتمتمت قائلا: (يخيل إلي أحيانا انك قوية جدا على ما تريدين فعله). فقد لاحظت انه إذا حدث وراقتها بعض الحفلات تأخذ في الرقص حتى الساعة الخامسة صباحا فإذا كانت الحفلة مملة تشعر بتوعك شديد فيضطر توم إلى أن يعود بها إلى المنزل مبكرا. ويظهر إنها لم ترتح لجوابي وبالرغم من إنها نظرت إلي بابتسامة وادعة فإنني لم أر لهذه البسمة أثرا في عينيها الوسيعتين الزرقاوين، وقالت: (لعلك تتوقع مني أن اسقط ميتة لا لشيء إلا لأدخل السرور على نفسك).

ولكن لويز لم تمت ومات زوجها وهي حية بعد. لقد لقي حتفه عقب برد أصابه في إحدى رحلاتهما البحرية. وكانت رقة لويز قد دفعت به إلى أن يختصها بجميع الأغطية لتتدفأ بها. مات وقد ترك لها ثروة طيبة وأبنة، فلم تستطع لويز أن تتعزى، لقد كان عجيبا حقا أن تتحمل الصدمة، ولقد توقع أصدقاؤها إنها ستلحق بتوم المسكين عاجلا في القبر. وأحسوا جميعا بالأسف على ابنتها ايريس وقد تيتمت فضاعفوا عنايتهم بلويز.

كانوا لا يدعونها تحرك إصبعا. كانوا يلحون في توفير أسباب الراحة لها لأنهم لو خلوا بينها وبين أي عمل مرهق أو غير ملائم لرقتها فإن قلبها لا يلبث أن تعتاده العلة ويقف بها على باب الموت.

قالت أن خلو حياتها من رجل يعني بها يبلبلها ويرمضها، وإنها لا تعرف كيف تربي عزيزتها إيريس بصحتها هذه الرقيقة فسألها أصدقاؤها لماذا لا تتزوج. أوه إن هذا ما يأباه قلبها وإن كان العزيز توم لم يكن ليأباه بل لعلها إن تزوجت أن يكون ذلك أصلح شيء لإيريس. ولكن من يعني نفسه بزواج امرأة عليلة مثلها؟ ومن العجيب حقا أن يتقدم لها أكثر من شاب كلهم مستعد أن يتكفل بها.

وبعد عام من موت تم قبلت أن تتزوج من جورج هوبهاوس وكان شابا جميلا فارع القوام وعلى جانب من الثراء. ولم أر أحدا أسعد منه لفوزه بشرف القيام على رعاية هذا المخلوق الرقيق الدقيق.

قالت: لن أحيا طويلا لأزعجك. كان جنديا طموحا فاستقال من منصبه إذ كانت صحة لويز تحتم عليها أن تقضي الشتاء في مونت كارلو والصيف في دوفيل. ولقد تردد قليلا وهو يضحي بمستقبله ورفضت لويز أن تستمع إليه بادئ ذي بدء، ولكنها لم تلبث أن امتثلت كما هي حالها دائما فتهيأ لأن يجعل سنواتها الأخيرة سعيدة هانئة إلى أقصى حد.

قالت: أن هذا لن يستمر طويلا. سأحاول أن لا أكون مزعجة وفي خلال العامين أو الأعوام الثلاثة التي أعقبت زواجها الثاني استطاعت لويز بالرغم من قلبها الضعيف أن تذهب في أجمل الثياب إلى أشوق الحفلات وتقامر في إٍسراف وترقص بل وتغازل الشبان الفارعي القوام. ولم يكن جورج هوبهاوس من عنصر زوجها الأول فكان يستعين بالمشروبات الحادة من وقت لآخر وهو يقوم على خدمتها. وكان من المحتمل أن يصبح عنده الشراب عادة فتضيق لويز بذلك اشد الضيق، ولكن لحسن حظها (هي) قامت الحرب فالتحق بفرقته وبعد ثلاثة شهور قتل في الميدان. وكانت صدمة عنيفة على لويز، وشعرت مع ذلك بأنه يجب عليها في حالة دقيقة كهذه أن لا تسلم نفسها للحزن البالغ، وإذا كانت قد أصيبت بصدمة قلبية فإن أحداً لم يسمع بها، ولكي تتلهى عن أحزانها حولت فيلتها بمونت كارلوا إلى مستشفى للضباط الناقهين. وقال لها أصدقاؤها إنها لن تتحمل وطأة هذا العناء. فقالت: ليس عندي من شك في أن هذا سيقتلني، أنا أعرف ذلك ولكن ما حيلتي؟ يجب أن أصنع شيئا. . . ولكن العمل لم يقتلها وبقى في حياتها فسحة.

قابلتها مصادفة في باريس وكانت تتغدى في الريتز مع شاب فرنسي جميل النظر ممشوق القوام، وفسرت سبب مجيئها فقالت إنها إنما جاءت إلى باريس لتقوم ببعض أعمال تتعلق بالمستشفى وأخبرتني أن الضباط ظراف جدا وأنهم لا يدعونها تعمل شيئا ما مراعين في ذلك رقة صحتها. لقد كانوا يعنون بها كما لو كانوا جميعا أزواجها. وتنهدت (مسكين جورج. من ذا الذي كان يظن أنني سأعيش بقلبي الضعيف بعده؟).

فقلت: ومسكين توم! ولست أدري لم كرهت مني أن أقول ذلك فقد أرسلت إلى بسمتها الوادعة وقالت وقد اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع: إنك تتكلم دائما كما لو كنت تنفس على هذه السنوات القليلة التي يمكن أن أحياها).

- بالمناسبة. أو ليس قلبك الآن في حالة أحسن؟

- لن أتحسن مطلقا. لقد عرضت نفسي هذا الصباح على أخصائي فقال إنه يجب علي أن استعد لما هو أسوأ.

- حسنا. إنك تستعدين لذلك منذ عشرين عاما. أو ليس كذلك؟ ولما وضعت الحرب أوزارها أقامت لويز في لندن وكانت وقتئذ في الأربعين من عمرها نحيفة ضعيفة بعينها الوسيعتين وخديها الشاحبين. ومع ذلك فلم تكن تبدو إلا وكأنها في الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت إيريس قد شبت وأتمت دراستها فجاءت لتعيش معها. قالت لويز: ستعني بي. حقا أن من الصعب عليها أن تعيش مع امرأة عليلة مثلي ولكن ذلك لن يدوم طويلاً أنا موقنة برضائها.

وكانت إيريس فتاة جميلة، ولقد نشئت وهي تعرف أن صحة أمها منحرفة فلم يسمح لها في طفولتها أن تحدث ضجة في البيت، وكانت تدرك دائما ما يجب عليها من مراعاة راحة أمها. وبالرغم من أن لويز قالت لها الآن إنها لن تسمح لها بأن تضحي بنفسها من أجل امرأة عجوز مزعجة لم تستمع الفتاة لقولها فهي لم تكن تستشعر في عملها أنها تضحي بنفسها وإنما كانت تحس بالسعادة وهي تقوم بخدمة أمها العزيزة المسكينة. وتنهدت الأم وخلتها تقوم بجميع شؤونها. قالت لويز: إن الطفلة مسرورة بأن تجعل من نفسها شيئا ذا نفع. فقلت لها: ألا ترين أنه يجب عليها أن تخرج للرياضة من وقت لآخر. فقالت: هذا ما أقوله لها دائما، أنا لا أستطيع أن أقنعها بأن تسري عن نفسها. يعلم الله أنني ما أردت قط أن أعني مخلوقا بخدمتي.

ولما راجعت أيريس في ذلك أجابتني قائلة: مسكينة أمي العزيزة إنها تريدني على أن أخرج فأجالس الأصدقاء وأحضر الحفلات ولكنني أفضل أن أبقى في البيت فإنها في اللحظة التي أتهيأ فيها للخروج تعتريها نوبة من نوباتها القلبية.

لم تلبث إيريس أن وقعت في حب أحد أصدقائي. وكان شابا طيبا حلو الشمائل تحبه نفسي، ولقد رضيت به إيريس حين تقدم لخطبتها ففرحت بأن الفرصة في أن تحيا حياة مستقلة قد هيئت لها. وأعترض أيريس الشك في إمكان الزواج ولم يلبث الشاب أن حضر إلى ذات يوم وهو في أشد حالات الحزن وأخبرني أن الزواج قد تأجل إلى أجل غير مسمى.

لقد أحست إيريس بأنها لا تستطيع أن تترك أمها. وطبعي أن المسألة لم تكن تخصني بالذات ولم يكن لي فيها دخل ولكنني اهتبلت الفرصة وذهبت لأقابل لويز. لقد كان يسرها دائما أن تستقبل أصدقاؤها وقت تناول الشاي، أما وقد تقدمت بها السن الآن فقد أحاطت نفسها بمجموعة من الرسامين والأدباء.

فقلت لها بعد قليل: حسنا. لقد سمعت أن إيريس لن تتزوج

- أنا لا أعرف شيئا عن ذلك. كان يحق لها أن ترفض الزواج لو كنت أنا التي رغبت في ذلك ولكنني توسلت إليها وأنا جاثية على ركبتي أن لا تفكري في. لكنها رفضت أن تتركني

- ألا ترين أن في ذلك قسوة عليها؟

- من غير شك. ولكن هذا لن يدوم أكثر من أشهر قليلة ثم إني أكره أن يفكر أحد في أن يضحي بنفسه من أجلي.

- يا عزيزتي لويز لقد دفنت زوجين ولا أرى أي مانع يقف بينك وبين التفكير في دفن أثنين آخرين.

فقالت وقد ضاقت بكلامي أشد الضيق: أو تجد في الهزء بي متعة لك؟

- يبدو لي انك تقومين دائما على ما تريدين فعله وأن قلبك الضعيف إنما يمنعك من عمل الأشياء التي تضايقك.

- أوه. أنا أعرف. أنا أعرف ما تعتقده في دائما. إنك لم تصدق قط أني كنت مريضة في يوم من الأيام أو ليس كذلك؟

فقلت لها وأنا أحدق في عينيها: بلى أن ما أعتقده هو أنك قد خدعت من حولك هذا الخداع الهائل منذ خمس وعشرين سنة وأنك أعظم امرأة قابلتها أنانية وبشاعة. لقد حطمت حياة هذين الزوجين التعسين والآن تريدين أن تحطمي حياة ابنتك.

لم يكن ليأخذني العجب لو أن لويز قد أصيبت في هذه اللحظة بنوبة قلبية وكنت متوقعا كل التوقع أن تثور علي ثائرتها ولكنها اكتفت بأن ابتسمت في وجهي ابتسامة رقيقة وقالت: يا صديقي المسكين. في يوم ما ستندم أشد الندم على ما قلته لي الآن.

- أوصمت علي أن تمتنع إيريس عن الزواج بهذا الشاب؟

- لقد توسلت إليها أن تتزوجه. أنا أعرف أن ذلك سيقتلني. ولكن هذا لن يهم فما من أحد يأبه لشأني وإنما أنا حمل على كل إنسان

- أو قلت لها أن هذا سيقتلك؟

- لقد اضطرتني هي إلى ذلك.

- كما لو قد طلب منك أي مخلوق أن تعملي شيئا لم تكوني تفكرين في عمله.

- يمكنها أن تتزوج من حبيبها غدا لو شاءت. وإذا كان ذلك يقتلني فليكن.

- حسنا. فلنجازف.

- أولا تشفق علي.

- ما من مخلوق يستطيع أن يشفق على من يسليه تسليتك لي فغامت وجنتاها الشاحبتان وظهر الغضب في عينها برغم أنها كانت لا تزال تبتسم. قالت: ستتزوج إيريس في ظرف شهر وإذا حدث لي شيء فأرجو منكما أن تطلبان لنفسيكما الصفح والغفران. وسارت الأحوال على أحسن ما يكون. وحدد اليوم وأعدت ثياب العرس الرائعة ووزعت الدعوات. وكانت إيريس وفتاها الطيب مشرقين. وفي يوم الزفاف في الساعة العاشرة صباحا أصيبت لويز هذه المرأة الشيطانة بنوبة من نوبات قلبها ولفظت أنفاسها. . ماتت في وداعة وقد صفحت عن إيريس التي كانت سببا في قتلها.

السيد مصطفى غازي