الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 710/الحياة الأدبية في طرابلس الغرب

مجلة الرسالة/العدد 710/الحياة الأدبية في طرابلس الغرب

مجلة الرسالة - العدد 710
الحياة الأدبية في طرابلس الغرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 02 - 1947


بين الماضي والحاضر

للأستاذ صلاح الدين بن موسى

لعل الحديث عن الأدب في هذا القطر البائس أمر فيه شئ كثير من الغرابة عند أبناء العروبة الذين ارتسمت في مخيلتهم وأفكارهم صور مبهمة غامضة عن طرابلس الغرب - أو (لوبيا) كما يحاول أن يسميها بعض المتأخرين - فهم لا يعرفون عن هذه البلاد إلا قوما خربت ديارهم وخربت مدنهم، وأصابهم من ويلات الحرب ما تركهم في غفلة أو حيرة، وهم بسببها بعيدون كل ماله صلة بالحياة الروحية شعرية كانت أم نثرية وإن أسباب المعيشة وذلك الفقر المدقع في الغذاء والكساء كانا حائلا دون انصراف القوم لتثقيف عقولهم وتحقيق النهضة الأدبية بينهم، وتلك هي الصورة الخاطئة التي ترتسم هذه الأيام في أذهان بني يعرب ويصرحون بها في مجتمعاتهم الأدبية وأنديتهم الثقافية. لهذا وقد وقفت على الحقيقة الناصعة ولمست روح النهضة الأدبية في بلاد (ليبيا) أحببت أن أجعل من حديثي هذا على صفحات (الرسالة) معرضا للفكر الحديث والنهج الأدبي في طرابلس عساي بذلك أكون قد حققت قسطا من واجبي نحو قطعة غالية من بلاد العروبة. . .

قبل الحديث عن نهضة طرابلس الغرب الحديثة سأحاول أن أعطي للقارئ صورة صادقة لتدرج الحياة الأدبية منذ العهد العثماني حتى وقتنا هذا فيرى تطور الروح الأدبي ونمو الذوق الشعري خلال هذه الحقب المتتالية ومبلغ التقدم الذي حازته هذه البلاد في زهاء ربع قرن تقريبا. . .

كانت النهضة الأدبية زاهرة يانعة، قبل احتلال الطليان طرابلس الغرب وكان فيها كثير من الأدباء المجيدين والشعراء الملهمين نذكر منهم: الشيخ علي سيالة صاحب المعلقات الشهيرة، الشيخ محمود نديم بن موسى، والشيخ إبراهيم باكير، والأستاذ العلامة سعيد المسعودي وآخرين ممن ساعدوا على نشر اللغة العربية وبعث مبادئ الحرية والحياة الصحيحة المستقلة.

وكانت جريدة (الرقيب العتيد) خير رسول أمين للنهضة الأدبية تنقل منتجات عقول الآباء ووحي شعورهم أو تفكيرهم، وكان لصاحبها الشيخ محمود نديم بن موسى اليد الطو تشجيع الأدباء ناديا للثقافة والأدب كان يلقى فيه المحاضرات المختلفة في السياسة والأدب والاجتماع ويعقد الاجتماعات الأدبية والمساجلات الشعرية والملاحم التمثيلية.

وكان الاستعمار الإيطالي، فطغى على تلك الأفكار الوثابة وغمرها بسيل من التبلبل والارتباك وسد عليها المنافذ فلم تجد ما تتسرب منه وتسمع صوتها، وأمسى هذا الوضع السياسي يسيطر على العقول وبصرف نتاج الأدباء فيما يعود عليه بالراحة والاطمئنان ويعمل ما من شانه جلب الأهلين إليه ومحبتهم له واستسلامهم لما يريد بهم المستعمر، فكنت ترى الأديب منهم يذيب دماغه ويشحذ قريحته في نظم قصيدة أو رصف مقال في مدح الحاكم وسياسة دولته مما أقعدهم على مجاراة الأمم العربية أبعدهم عن الأدب العصري الذي يتناول كل ناحية من نواحي الحياة وحصره ضمن نطاق ضيق، فالاستعمار الإيطالي أطفئ هذا السراج الذي أخذ يضيء ما حوله واخمد جذوة هذا الروح الفياض، وأضحى الأدب منصرفا إلى غير ما يقوم الحياة الحقيقية والاستعمار يناهضه ويسعى بكل ما أوتيه من قوة في إبعادهم عما يرتجي من الأدب وإقصائهم عن غايته الشريفة ويقف عثرة في سبيل الوصول إلى حقائقه المرجوة.

. . . كانت الحرب الثانية وبالا على طرابلس الغرب قاسى أهلوها من مصائبها الشيء الكثير، فشردوا في أقاليم القطر المختلفة وهجروا المدن العامرة، وصواعق الأساطيل وقذائف الطائرات تدك البيوت القائمة وتهدم شوامخ القصور بين عويل النساء وأنين الشيوخ.

لهذا كان من الطبيعي أن تهمد الروح الأدبية تماما في هذه البلاد ويسود القطر ظلام وجهل يبعث الأسى في النفوس، وكانت سنو الحرب في طرابلس مرحلة فتور وجمود في الحياة الأدبية بل في الحياة العلمية بصورة اعم، فكانت مدارس القطر مغلقة والطلاب مشردين والشباب الذي كان يتذوق شئ من الأدب أضحى طريدا في القفار، وبات القلق يسيطر على السكان ويبعث فيهم الرهبة والخوف. وانجلت الحرب عن ديار أصابها الخراب والدمار، وشعب أخره التفرق والانشقاق وقد تربى الجهل على منصة البلاد فلا علم ولا أدب ولا صحف ولا نواد.

وكان في طرابلس الغرب بعض من ذوي العلم والعرفان ممن سلموا من براثن الحرب الضروس فشمروا عن ساعد الجد والعمل وبدءوا صراعا عنيفا بين الجهل والعلم، يؤازرهم في عملهم هذا عدد من رجال الدين وضباط الوصاة البريطانيين فكان لنشاطهم هذا أثره في ازدهار الحياة العلمية والأدبية في سنين قليلة وانتشار المدارس العلمية والأندية الثقافية المنوعة فاقبل الشباب الطرابلسي ينهل م موارد العلم والأدب في مصر ويعود إلى بلاده مزودا بثقافة رفيعة ساعدت على تطور الحركة العلمية والأدبية في البلاد. وكان إقليم برقة أسبق من طرابلس في مضمار الحياة الأدبية، ولعل قربه من مصر خصه بهذه المزية السامية الرفيعة، فسرعان ما أنشئت فيه نواد مختلفة للأدب والعل، منها نادي عمر المختار، والنادي الثقافي اللذان كان عملهما مقتصرا على مدينة (بن غازي) إذ بعثا فيها الروح الأدبية شعرية كانت أم نثرية فنبغ الشعراء والكتاب الذين راو في صحيفة (برقة الجديدة) ميدانا فسيحا للتعبير عن شعورهم والإفصاح عما تجيش به نفوسهم. ولعل صاحب هذه الجريدة الفتية الأستاذ (صالح البوصير) في طليعة الشباب العاملين في الحقل الأدبي فقد قرانا له في صحيفته مقالات مختلفة في الأدب والعلم والاجتماع. وهناك الشاعر الملهم السيد (إبراهيم محمد الهويني) وله قصائد رائعة نشرتها له (برقة الجديدة) تباعا وفي إحداها قوله مادحا سمو الأمير إدريس السنوسي:

نظمت شعور القلب حتى غدا شعرا ... وهذبت هذا الشعر حتى انثنى درا

ومن ذا الذي يستطيع مدحا لعنصر ... تسامي فكان النجم والشمس والبدرا

أمير كان الله أعطاه حكمة ... أذل بها الأعداء وقاد بها الدهرا

فأهلا بعهد قد أنيرت سماءه ... وبعدا لهذاك الزمان الذي مرا

ومن الشعراء الشبان الذين أنجبتهم برقة السيد (محمد بشير المغربي) ومن درر قوله هذه القطعة الجميلة في شكوى الحياة والأصحاب:

على أي جنب في الحياة أميل ... ومالي في ظل الزمان مقيل

وأي سراب قد أضل مشاعري ... وظل به ماء اللجين يسيل

أسير وما هذا الطريق موصل ... لأمر وقد لا يستطاب وصول

دعوت رفاقي للوقوف وإنه ... قليل وما بين الرفاق دليل

فجاوبني منهم تقلب أوجه ... رأيت به ما في الصدور يجول فقلت لهم سيروا وحسبي وقفة ... وصبر على قبح المقام جميل

وأي مقام قد أقمت فليتني ... رحلت ولو أن الرحيل قفول

نسير فرادي والطريق إلى المنى ... له شعب دون المدى ووصول

وللدهر والآمال بين صدورنا ... صراع ودقات القلوب طبول

ألا إن أسباب النجاح قليلة ... وأكثرها دون النجاح كليل

وتكاد تكون مدينة (درنة) بمناظرها الجميلة الفاتنة ملهما لكثير من الشعراء والأدباء الذين قدموا للأدب العربي فصولا أدبية قيمة وقصائد شعرية خالدة، فها هو ذا شاعرها الأول السيد (إبراهيم أسطه عمر) يعبر لنا عن شعور بلده نحو سموا الأمير السنوسي:

إلى الأمير فدته النفس اهديها ... مقالة كنت قبل اليوم أخفيها

لكنني لم أجد ظرفا يلائمها ... غير الذي نحن فيه قد يواتيها

مقالة ملؤها الإخلاص ارفعها ... لقائد الشعب، قلب العشب ممليها

آن الأوان فما التأجيل يمنعنا ... لنعلن الحق إقرارا وتنبيها

وحقنا وحدة القطرين تتبعها ... حرية أنت معناها وراعيها

وفي (برقة) خلا هذين الشاعرين الشابين كثيرون وإنما لم يصلنا شئ من آثارهم العديدة (أحمد فؤاد شنيب) وهو شاعر صغير السن عاش في دمشق وعاد أخيراً إلى وطنه الأم ليبدأ نضالا أدبيا جديدا في بلاده العزيزة ومن لطيف قوله وهو في دمشق يصف ليلة مولد:

مالي أراك كدرة تتلألأ ... شعت فاكسبها البهاء جمالا

وكسوت هذا الكون أسنى شعلة ... سطعت فألهب نورها جمالا

وللنثر مكانه المرموقة في برقة والمحاضرات الأسبوعية تحتفل بأروع الكلمات الأدبية والسياسية ونحوها يلقيها شباب توفر على درس الأدب واللغة العربية وأسرارها وتلك هي قطعة نثرية لأديب درنة (فرج بن جليل) يتحدث فيها عن وحي الهجرة:

(في سجل الخلود ساعات فاصلة ولحظات حاسمة إذا انحرف فيها ميزان القدر يمنة أو يسرة تبعته نتائج كبيرة خالدة وأثار عظيمة باقية تجر ورائها الخير الكثير أو الشر المستطير وتبعث في الدنيا ضياء باهر أو انتشر ظلاما دامسا. ومن اخطر تلك اللحظات واعظم تلك الساعات تلك التي هاجر فيها محمد بن عبد الله، تلك اللحظة الخالدة في تاريخ الإسلام ذات الفضل الأكبر في تغيير مجرى تاريخ البشرية)

وهذه قطعة أخرى لأديب شاب من شباب طرابلس الغرب يصور لنا كيف راقب الهلال وصحبة ليلة العيد:

كنا بربوة جماعة نترقب ظهور الهلال وكانت أنظارنا معلقة بالسماء نجوب بها باحثين منقبين في صفحاتها نريد بصيصا من نور يكون حجة لنا بعيد، وبعد لأي من زمن طال فيه اتجاهنا إلى السماء إذا بخط وضاء لا تكاد تدركه الأبصار يتجلى في كبدها أشار بعضنا إلى انه الهلال. . . الخ. . .

تلك يا قارئ نماذج صادقة شعرية ونثرية من أدب طرابلس الغرب، ولعلك أدركت انه لم يصل بعد إلى درجات الكمال والسمو شأنه في البلاد العربية الأخرى، ولكن الأمل العظيم أن يثمر الأدباء اللوبيون عن ساعد الجد فيبعثوا لأدبهم ماضيه القديم وتغدوا مؤلفاتهم الأدبية وكتبهم العلمية في صدارة مكتبات البلاد العربية فإن عهد الخمول وكبت الملكات وخنق الحريات قد زال بخلاص هذه البلاد من جور الإيطاليين وظلمهم واصبح الطريق ممهداً أمام الأدباء ليعززوا أدبهم ويجددوا للغة العربية منزلتها في بلادهم وليس هذا ببعيد إن شاء الله

صلاح الدين بن موسى