مجلة الرسالة/العدد 71/ليلة في مضارب النَّوَر
→ الشخصية | مجلة الرسالة - العدد 71 ليلة في مضارب النَّوَر [[مؤلف:|]] |
حول مقال الشخصية ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1934 |
للأستاذ عبد الحليم عباس
في سهول حوران التي ليس للأفق في فسيحها حد، وقف الليل يصغي لهذه الفتاة النورية تعبر عن شجو شعب لفظته الحياة، فلفظها وفي صدره غصة، وفي قلبه جرح لا يلتئم.
غنت ورقصت كالطير الذبيح.
وكانت أغانيها صدى لهذه الغربة الطويلة.
من بدء الخليقة زمّوا رحيلاً، يفتشون لهم عن وطن، كادوا يبلغون حد الأفق، ولما يجدوا مبتغاهم، كل شبر فيها ممتلك، وراء الأفق. . . وراء الأفق، عل لكم به داراً.
والتمعت الكواكب، فكأنها قلوب تجف، أو عيون تذرف فاطَّلعت إليها، وكأنما ادّكرت أوطاناً مجهولة، وأحباباً خلفتهم عند مطلع الشمس، فاندفعت تغني ما أنقل معناه، وكان غناؤها في هذه النوبة بالغاً في أساه، مشجياً في تعابيره، يحمل في ثناياه ريح الكبد المحروق. قالت:
(إيه يا ليل الشجن، ليت جوانبك الفسيحة تطوى، وآفاقك المترامية تتضام على نفسها، فإذا هي في مدى النظر دار وأيكة، نجلس فيها مع الحبيب، لا يفزعنا النوى ولا تطوح بنا المقادير.
إيه يا ليل الشجى: ظننا الغربة يوماً وليلة، وما علمناها العمر كله، فمتى تكون الرجعة، ومتى نلتقي والأحبة.
إيه يا ليالي، خلفناهم شباباً فبعد عشرين عاماً كيف آضت لممهم السود المعطرة، وشفاهم الريانة بخمر الحياة؟ كيف أضحت وجناتهم الناعمة؟ هل جعدها النوى وغضنتها السنون؟ وقاماتهم المنتصبة كالغصن الرطيب، أظنها انحنت تحت ثقل العمر والشجون. . . ليتني صخرة صماء مشدودة إلى هاتيك الربوع التي أحببت فيها حبيباً لم يغدر ولكن غدرت بنا الحياة.
إيه فتاتي! أوصيك ألا تلقي السمع لكلمات الحب تند عن أفواه الشباب الجملية، ما برح مكتوب على شعبك النوري جوب الأرض، وذرع هذه الفلوات. فموت القلب بالخلو من الحب، أخفُّ من احتراقه في جحيم الذكريات.
أغمضي عينيك عن الهوى، عن النعمة الكبرى، فلو كنا أهلاً لها، لبرئنا على غير هذه الشاكلة. . .).
إلى هنا وكأنما طغت موجة الحزن في نفسها، وكأنما فتحت لها الأنشودة عالماً من الذكريات الشجية فجلست مجهودة لاغبة.
وكنا في مضاربهم أربعة، كلنا يفهم الحياة إلى غير الوجه الذي يفهمها عليه الآخر، فمنا من يطلب فيها اللذة، ومنا من لا يبالي بلذتها وألمها، ومنا من لا يرى فيها متسعاً للذة، ومنها من يجدف عليها في الصباح، ويهزأ بها عند المساء، وفي الليل يدب إلى لذائذها يعصرها حتى لا يدع فيها بقية؛ ونحن وإن اختلفنا فيها كثيراً نلتقي على شعور بعينه، وهو الحس بألم الغير، والرثاء لآلام الناس.
فكان من هذا أن هزنا شعور طيب، هو مواساة هؤلاء المناكيد فكففنا عن طلب الغناء. وساجلهم الحديث منا فتى لبق. قال وهو يوجه كلامه إلى هذه التي غنت وجلست هامدة، كأنما ذابت روحها مع أغانيها:
- ألك أخوة يا عزيزتي؟
- نعم، ثلاثة، واحد دفنته في الصين، وأخر واريته في طيبة، والثالث على قيد الحياة.
- كلنا سنموت، فكيف رأيت هذه الديار؟
- هي دياركم أنتم، أما دارنا، فهذا البيت الممزق، وظهر هذا البهيم.
قال وهو يحبُّ أن يمزج الجد بالدُّعابة ليخفف هذا الألم الطافح ويستل هذا الحزن المستعصي:
- ليست الأرض ملكاً لأحد، أما سمعت قول الأديب الأكبر، أهون عليّ أن أتصور الإنسان ملكاً للجبال، ولا أتصور الجبل ملكه. ملكه كيف؟ أيستطيع أن يحمله؟
- لا أفهم ما تعني.
- ستفهمين، أجمل ما على أديم الأرض هذه الزهور الناجمة تميس بقاماتها، وأجمل ما فيها هذا العطر يفوح، فهل يملك عطر الزهرة؟ هل تُحجب وجنة السماء عن أعين الرائين؟ أبهج ما في الحياة ملك الجميع، وما بقي فأقوات وفضلات يشترك الإنسان فيها مع أدنى المخلوقات.
- صحيحٌ هذا، ولكن هذه أشياء ليس لنا منها أدنى فائدة، أنأكل الكواكب؟ أم نقتات بهذا الذي تنشره الزهرة؟
فبهت صاحبنا
فنبهناه إلى غلطته، والى أن هذه التي يخاطبها أضيق عقلاً وأسف إدراكاً من أن تفهم مجالي الفن الرفيع.
فلم ييأس، وعاد يفهمها، ويأتي باللفظ القريب إلى عقليتها، يقول: إنها لا تقيت، ولكن فيها شيئاً أثمن من القوت، وهل خلق الإنسان لملء بطنه فحسب. . . هل أحببت؟
فكأنها خجلت من هذا السؤال الثائر، فرمت برأسها إلى الأرض، فعاد يلح عليها بالإجابة.
- نعم، أحببت، والنَور شعب لا يخجل من المصارحة بمثل هذه الأحاديث.
- وهل في الحب لذة؟
- نعم يا أفندي.
- أيهما أكبر لذة، الحب أم القوت؟
- الحب يا أفندي. . .
- إذن في الدنيا أشياء كثيرة أثمن من القوت، أفهمتِ؟
- نعم.
- وهذه الأشياء يتساوى فيها الغني والفقير، والأمير والحقير، بل إن حظ الصعاليك ليربو في بعض الأحايين على حظوظ ذوي الجاه العريض والمنازل الرفيعة.
فصمتت، وكأنها تفكر وتزور حديثاً، وبعد حين قالت: والغربة، هل يستقيم معها نعيم؟ أنظر هانحن أولاء نقيم هنا بعضاً من أشهر الصيف، فإذا جاء الشتاء بقره، اضطررنا إلى النزوح كارهين، فنحن نقضي العمر كله رحيلاً، ولو شئت لقلت حنيناً، نحن إلى هذه المرابع، وغدا نحن إلى غيرها إذا أنسنا بها، وهكذا نقضي العمر بالذكريات الموجعة، والحنين الذي يُقطع نياط القلوب.
قال: اسمعي، ليس على ظهر هذا السهل - سهل حوران - الممتد شمالاً حتى أذيال الشام، المنفسح غرباً إلى سفوح هذه الجبال التي شاقها منظر سماء عجلون، فنهضت إليها بغابات الصنوبر، وملتف أشجار السنديان والبلوط، لتقبل وجنتها. . . وليتك ترينها في الصباح، والضباب يلفها في مثل غلائل العروس وهي تجاهد بنسيمها المنعش، ونداها العطر لترى السماء، فتمزق الردن تارة، وتشقق البنائق أخرى، وهي في كل ذلك آية في السحر والجمال والجلال. . أقول ليس على هذا السهل أخلد حياة، وأكبر فؤاداً وإحساساً من صديقكم شاعر الواد.
- أعرفتِه؟
- نعم، فهو يزورنا في غالب لياليه، ويبقى حتى مطلع الفجر. .
- هذا الشاعر الضائع يا فتاتي، هو في هذا السهل أضيع منكم غربة، يذيب كبده في لحنه، وتسيل روحه على قوافيه. . . ولا من يسمع.
- كيف!؟ إنه لا يحضر إلا ومعه لفيف من صحبه وخلطائه فكيف يكون غريباً في دياره وبين أحبابه؟
- هو غريب وحيد، يأتيكم ليأتنس بكم، هو غريب لأنه لا يجد صدى لروحه، وليست تقاس الغربة ببعد الشقة والنأي عن الوطن، وإنما تقاس بما بين الأرواح والأرواح من تفاوت وتقارب، كم من ضجيعين على مهاد واحد بينهما من البعد ما بين ذاك النجم وهذا الوتد.
فهزت النورية رأسها فعل الحائر الذي لم يفهم.
وكنا ضقنا بصاحبنا ذرعاً، وأسمعناه من قوارص اللوم والاستخفاف بفلسفته التي جاء يلقيها في مضارب النَوَر شيئاً كثيراً، وكأنه تعب. . فلم يعمل في هذه المرة على إفهامها. . . فقلنا له متندرين مالك؟ عد إلى وصول قولتك، وشرح فلسفتك.
قال: أطلتم اللوم، لقد نلنا مبتغانا، أما كان عزمنا أن نذهب بشيء من ألم هذه الفتاة، فها هي الابتسامة تسيل على شفتها، وشفاه عدة من قومها، قلنا: غلطت يا أستاذ، فما هي ابتسامة الصفو، وإنما هي ابتسامة الاستخفاف بك، والهزء من أقوالك.
- ليكن، فما يضيرني أن أكون ساعة موضع سخرية النَّور. .
وطلعت علينا الشرطة، فخفقت قلوبهم، فراحوا يلملمون أنفسهم، ويلقون علينا نظرات الرجاء أن نكفيهم شر هذا البلاء فكنا عند حسن ظنهم.
وقمنا إلى السيارة، ولما تبوأنا مقاعدنا جاءت النورية وهمست في أذن صاحبها:
- أيوجد مثلنا أناس يذوقون حر سياط الجنود الغلاظ الأكبد؟ وهل يساوينا أحد في هذه النعمة؟
- نعم يا فتاتي، ليست هي على ظهوركم بأشد نكاية وألماً وأثقل وطأة منها على ظهور الأحرار.
- ومن هم الأحرار؟؟
لا أدري، أخشى سياطهم إن تفوهت، وتلمس جنبه كأنما أحس بألمها، هم، هم صفـ. . . . وة رجال الو. . . طن، في كل أمة، سلي عنهم مصر. . .! وضاع الصوت في لجب هذه الرعناء.
شرق الأردن
عبد الحليم عباس