مجلة الرسالة/العدد 71/في الأدب الدرامي
→ بين فن التاريخ وفن الحرب | مجلة الرسالة - العدد 71 في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
من مشكلات الحياة ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1934 |
13 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الدرامة في خلال القرون
كان لهذا النوع أوائل في أدب الإغريق واللاتين ظهرت في أشكال مختلفة وأسماء متعددة، وظلت محافظة على وجودها أثناء العصور الوسيطة وبعد عصر النهضة في ثوب الرواية الجدية الهزلية، ولكن الدرامة بمعناها الحديث لم تعرف إلا في القرن الثامن عشر حين كتب (لاشوسيه) مدرسة الأمهات، و (ديدرو) رواية الابن الطبيعي، و (سيدين) رواية الفيلسوف بغير علمه، و (بومارشيه) رواية الأم المجرمة، و (فولتير) روايتي نانين والطفل المبذر. وقد كان هؤلاء المؤلفون يقتبسون موضوعات رواياتهم من الحياة الحضرية والمعيشة المنزلية، ويملئونها بالحساسة المتصنعة والآراء الفلسفية والحكم الخلقية في لهجة تارة تكون بكائية وتارة تكون خطابية. على أن هذه الدرامة لم تلبث أن نزلت إلى مكان المأساة العامية (الميلودراما)، وهي درامة تسير بالموسيقى وتفيض بالضربات المسرحية العنيفة، والمواقف الشديدة المخيفة، والعمل الروائي المعقد، وتدين بنجاحها إلى إثارة الشعور وإهاجة الوجدان. ثم أدرك الدرامة الخمول وأخلقها الترك فامحت من المسارح حوالي سنة 1830 حتى جاء أرباب المذهب الابتداعي فنفخوا فيه من روحهم وبعثوها إلى الحياة في شكل جديد، واختاروها ميداناً للمعركة الحاسمة بينهم وبين رجال المذهب الاتباعي، فرفع هوجو لواءها وشرع منهاجها في مقدمة كرومويل سنة 1827 وجعل ميزتها الظاهرة امتزاج الجد والترفع بالهزل والمجون على نحو ما تجد في روايات شكسبير. ثم أخذ هذا المذهب الحديث يتحلل من قواعد المذهب القديم، ولا سيما قانون الوحدات الثلاث كما ترى ذلك ظاهراً في روايات الزعيم كرناني وكرمويل وماريون دلوزم وروي بلاس وبيرجراف الخ. على أن سهم الابتداعيين قد طاش، وأملهم في إصلاح المسرح قد كذب. فقد تجد في روايات هوجو درراً من الشعر الرصين، وغرراً من المقطوعات البليغة، وصوراً من المواقف التي تسترق الشعور وتملك القلب، ولكنك تج بجانب ذلك البناء الواهن والإحالة القبيحة والعمل المرتبك والتاريخ المشوه، فضلاً عن أنه أحل الطباق والمقابلة محل النظر والملاحظة، وملأ المسرح بالأنماط الغريبة من الناس كقاطع الطريق الشهم (هرناني)، والخادم الوزير (روي بلاس)؛ ولم يجد في طبقة السراة إلا أنماطاً ممقوتين أو مجرمين، أما الطبقة السفلى فهي عنده مستودع العواطف الكريمة والأخلاق القويمة. ثم إن الدرامة الابتداعية خلت خلو الميلودراما من دروس العواطف وتحليل الأخلاق، وتعدت حدود المنطق في سير العمل، وسترت كل ذلك بسيل من الحوادث الخارقة، والمسائل المعقدة، والمفاجآت المدهشة، وما يتخلل ذلك من المبارزة والقتل والتسميم والخطف والتعرف. لذلك لم يصطبر الناس على هذه الدرامة طويلاً فملوها وأغفلوها، وحلت محلها في المسارح والقلوب في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الملهاة الاجتماعية، أو الملهاة الحديثة، أو الملهاة المبكية، أو الدرامة الواقعية. وهي في الحقيقة طور من أطوار الدرامة التي بدأها (ديدرو) ورفع سَمْكها اسكندر دوماس الصغير، وأميل أوجييه وفيكتوريان سادرو. تستمد من الدرامة التاريخية عناصر الجد، ومن ملهاة (اسكريب) فن التعقيد، ومن قصة بلزاك درس العادات وتحليل الأخلاق، وتدور موضوعاتها على بحث المسائل المتعلقة بالمال والأسرة، وما ينجم من صراع الطبقات، وصدام الجماعات؛ وتعني على الأخص بوصف العادات والسعي في تهذيبها وإصلاحها. وكان لاسكندر دوماس الفضل في تطبيق المذهب الواقعي على هذه الملهاة أو الدرامة بتأليفه ذات الكاميليا وهي درامة جريئة الفكرة، طريفة البحث، جديدة الشكل، أحدثت في المسرح انقلاباً خطيراً كان له أثره ونتيجته حتى اليوم. لأن المؤلف كان أول من زين المسرح بالأثاث الجديد وأظهر الأشخاص في اللباس العصري، ومثل البيئة الحاضرة في شكلها الحقيقي، فهو خلق الملهاة الحديثة كما خلق من قبلها الملهاة العلمية وهي مبنية على نظرية سماها المسرح النافع ملخصها أن الكاتب المسرحي يجب أن يبادر إلى حل المشاكل الاجتماعية على المسرح وإلا كان مضحكاً مهرجاً. يجب أن يعرض على الناس ما يشغلهم من مشاكل الأسرة، ويثقلهم من أحوال المجتمع، ثم يناقش هذه المسائل، ويحل هذه المشاكل بتغليب الخير على الشر، وإقرار الحب في النفوس مقر المال.
وظل المسرح اليوم في فرنسا جارياً على سننه المشروع في منتصف القرن التاسع عشر في شئ من البساطة والسهولة. وأشهر الملاهي الدرامية في العهد الأخير ما كتبه الأستاذ جول لمتر إما تحليلاً للعواطف (كالثائرة) و (الغفران)، وإما زراية على ذميم العادات (كالنائب ليفو). وكذلك الأستاذ هنري لافادان عني بدارسة المجتمع الفرنسي الحديث، وعرض لما ينجم عن المنافسة بين طبقاته من المشاكل المعضلة والمسائل العويصة في رواية (أمير أُوريك). ثم المنطقي الجبار بول هرفيو فقد عالج المشاكل الاجتماعية التي تتولد من الزواج والطلاق، ونحا في بحثها منحى اسكندر دوماس الصغير في رواياته العلمية ولكنه كان أكثر منه بساطة وأشد جفاء. كتب ذلك في ملاهيه المشهورة، وهي التيه والكلبتان (الكماشة) وقانون الرجل وأعرف نفسك - وشوط القبس ولا تزال هذه الرواية إلي اليوم أبلغ روائعه وواسطة بدائعه. ثم الأستاذ (بريو) مؤلف القباء الأحمر والأستاذ فرنسوا كوريل مؤلف الدمية الجديدة، ونشوة الحكيم والأستاذ (الفريد كابو) مؤلف الحظ والطير الجريح، والأستاذ (هنري برنستين) مؤلف السارق، والسر، وشمشون. ولا نريد أن نسترسل في ذكر أسماء الكتاب المعاصرين، فأكثرهم لا يزالون يؤلفون ويرزقون. وإنما ذكرنا منهم من سبق لنقول لك أن ما ألفوه قد يطلق عليه أحياناً اسم الدرامة، وأحياناً اسم الملهاة الدرامية أو الجدية، والاسم الثاني أدق لما ذكرناه من الفرق بين النوعين.
هذا مجمل ما أتى على الدرامة من الأطوار في فرنسا. أما في أسبانيا فالمسرح قومي محض، ولد في الكنيسة وظل على صفته الأمية حتى جاء عصر النهضة، فجنح بعض الكتاب إلى بناء المسرح الأسباني على الطراز الإغريقي، ولكن ذوق الجمهور أحالهم عن ذلك القصد وصرفهم عن محاكاة المأساة الاتباعية فسخروا من قانون الوحدات الثلاث، وجمعوا في الرواية الواحدة بين الحوادث المضحكة والمواقف المفزعة، وبين سراة الطبقة العليا وصعاليك الطبقة الدنيا. ثم كانوا يعقدون العمل ويفخمون الأسلوب، حتى سرت من روحهم نفحة إلى كوريني وكان الشرف محور مآسيهم، وموضوع حوادثهم، ومكان قوانينه الصارمة منها مكان القدر من مآسي الإغريق. على هذه القواعد والصفات كتب نابغتهم الخالد لوب دي فيجا (1562 - 1635) مآسيه، وهي لا تقل عن ألفي مأساة، يدخل منها في باب الدرامة الروايات التاريخية (ككشف العالم الجديد) وروايات (سان سَكْرِ مَنْت) كوراث السماء. وقد تميز هذا الكاتب بالخيال الخصب، والقريحة المتقدة، والتنوع البديع، والقدرة المعجزة على تصوير الأخلاق، ولا سيما أخلاق النساء. وكان همه أن يعرض الحوادث دون أن يشرح أسبابها، ويمثل الحياة الحقيقية دون أن يطرز أثوابها. ثم يليه في النبوغ والأثر (كالدرون دي لاباركا) (1600 - 1680) وقد بقي من دراماته اثنتان وسبعون درامة أشهرها (الحياة حلم) و (كرامة المولى). وأما في إنجلترا فقد ولد مسرحها في الكنيسة أثناء العصور الوسيطة كما كان الأمر في فرنسا وأسبانيا، وكذلك لم يقو تقليد الكتاب والشعراء لآداب المهمة على الحيلولة بين الدرامة الحديثة وبين الانتشار والتقدم. ففي القرن السادس عشر جاء (مارلو) فهز النفوس وحرك المشاعر بمآسيه (أدوار الثاني) و (يهودي مالطة) و (موت الدكتور فوست وحياته). ولكن شكسبير ظهر فأخفت ذكره ووضع قدره. وكان القدماء من أرباب المذهب الاتباعي يذكرون شكسبير بالسوء، ويتناولونه بالنقد حتى لقبه فولتير: (بالمتوحش السكران). أما أرباب المذهب الابتداعي فيرونه مثال الفن الروائي، ورسول الشعر التمثيلي. وقد سردنا لك فيما سبق طائفة من مآسيه في بعضها ما يشبه الدرامة، ولكن دراماته الحقيقية هي: صاع بصاع، تاجر البندقية؛ وقطعه المقتبسة من تاريخ إنجلترا، كالملك حنا، وريشارد الثاني، وهنري الرابع، وهنري الخامس، وريشارد الثالث، ودرامات شكسبيرعلى الجملة ضعيفة البناء، بعيدة الأمكان، متكلفة الأسلوب. وقد أراد أن يمثل فيها مناحي الإنسانية كلها، فجمع بين العظيم الرفيع والعامي الخليع والمضحك الماجن، وجعل العواطف الرقيقة الوادعة بجانب الأهواء العنيفة الفاجعة، ولم يقنع بتمثيل الحوادث مجردة، بل حرص على أن يصور الأهواء والعواطف التي صدرت عنها وتولدت منها.
وأما في ألمانيا فليسنج (1729 - 1781) هو خالق مسرحها القومي: وقف بين مواطنيه وبين المأساة القديمة، فحال بينهم وبين تقليدها، ودعا الناس قبل الابتداعيين إلى الأخذ عن شكسبير، والى وضع الأساس لبناء المأساة العصرية. وأشهر مآسيه (منا دبر نهلم) و (ناتان الحكيم) و (أمليا جالوثي). أما جيته فقد جمع بين الذهن القديم والعبقرية الحديثة، وقد ظهر ذلك جلياً في دراماته، وأشهرها (جوتْر دِيرْ ليشِنْجِنْ) و (تركاتو تاسو) و (إِجْمُنْت) و (فوست). فأما (جوتر) فهي صورة قوية - وإن تكن غير جلية - لألمانيا في أواخر العصور الوسيطة. وموضوعها أن السيد جوتر لا يعترف لأحد بالسلطان غير الإمبراطور، فهو يشعل الثورة في رؤوس الفلاحين، ويقودهم لمحاربة النبلاء والكهنة، ثم ينتهي أمره بالأسر والسجن في قاع مظلم بقية حياته. وأما درامته فوست فهي مجده وخلوده تجدها غامضة في جملتها ولكنها رائعة في تفصيلها. موضوعها أن الدكتور فوست تبرمه الحياة ويعنته الوجود ويكربه فراغ نفسه فيتعاطى السحر، ولكن اليأس يحتوشه فيدفع به إلى الانتحار. وبينما هو متردد بين الحياة والموت إذ يفجأه قرع الأجراس المؤذنة بدنو عيد الفصح فيذكره بقيامة المسيح ويأفكه عن عزمه المشئوم، إلا أن الشك يعاوده، فيدفعه إلى محالفة الشيطان فيبيعه نفسه على أن يمتعه بزهرة الحياة ونعيم الدنيا. فيؤتيه الشيطان من كل شئ إلا السعادة، فيشرف على الموت، إلا أن ماري تدركه فتنجيه.
وعلى طريقة جوت كتب صديقه شيلر دراماته الرائعة كدرامة اللصوص، ودون كارلوس، ووليام تل. وأنبه الكتاب الروائيين في ألمانيا اليوم هو (جيرار هوبتمان).
ومن فحول الدرامة في العصر الحديث الكاتب النرويجي (جوهان إِبْسِنْ) (1828 - 1906) وكان ينزع في مآسيه الدرامية نزعة فلسفية اجتماعية، فهي من الدرامات العلمية أو الرمزية، وقد سما فيها بقوة الفرد وهمته إلى أبعد غاية وأرفع منزلة حتى لو ناقض ذلك الدين والتقاليد. أشهر دراماته بيت العروس والأرواح والكنار الوحشي.
يتبع
(الزيات)