الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 71/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 71/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة - العدد 71
في الأدب الإنجليزي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 11 - 1934


شارلس مورجان ومناحي التطور في القصة الحديثة

بقلم محمد أمين حسونه

- 1 -

إن ظهور رواية شارلس مورجان (صورة في مرآة) ونفاد طبعتها في بضعة أيام، من شأنه أن يوجه أنظارنا إلى كاتب قصصي برز فجأة بين المؤلفين العصريين، وامتاز بعبقرية فذة تجلت في سطور هذه الرواية كما تجلت في روايته الأخرى (النافورة) التي هتف لها النقدة ورفعوها إلى الصف الأول بين الروايات التي ظهرت عقب الحرب الكبرى.

فبينما يحدثنا المؤلف عن هذا النوع الجديد من التصوف (حياة التأمل - الذي يحيط بفصول روايته كهالة من القداسة، ويحلق بنا في الأجواء التي تخلد فيها أرواح وآرسطو وأفلاطون وديكارت، إذ نراه في فصل آخر ينزل بنا إلى التحدث عن علاقة الأجساد بالشهوة، أي يعود بنا آدميين تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا، فيصف في صراحة مخيفة التبشير باللذة الجنسية وأثرها في العلاقات الجنسية وصفاً هو أشد وقعاً من الفن الذي ابتدعه الروائي الإباحي د. هـ. لورانس.

كان القصصيون إلى العصر الفكتوري يهتمون كثيراً بصنع قوالب لشخصيات شاذة ثم يصبون ماء الحياة فيها ويحملون القارئ على أن تعلق هذه الشخصيات بذاكرته، وكثيراً ما كانوا يملئون صفحات مملة باردة يصفون فيها نشأة أبطالهم وعوائدهم وطباعهم ونظرتهم إلى الحياة والدين والأخلاق، ثم تنتهي الرواية بترجيح كفة الخير على الشر. وكان اهتمام الروائيين في عصر الملك إدوارد موجهاً إلى تسجيل الحركات والدوافع والفضائل، وكانوا يلقنون البطل أقوالاً يعرب بها عن عقائدهم وأفكارهم ونزعاتهم ودروساً وعظات أخلاقية، أما الفن الروائي الحديث فيختلف عن هذا كله وينحو منحى جديداً، فقد جعل كتابه من أهم مظاهره تقريب الحياة إلى ذهن القارئ بأن يشعر كأنه يعيش في نفس البيئة والجو، كما يهتمون بتسجيل حركات شخصيات رواياتهم وخواطرهم ومشاعرهم والخفية ورسم أطياف أحلامهم وذرات تفكيرهم وارتباطها بنشاط العقل وإبراز العبقريات المدفونة وتقديسها، فالرواية الحديثة حوض بلوري تسبح فيه الرغبات والآمال، والأفراح والأتراح، وتشف من جوانبه الهواجس والأحلام. . . .

ونحن نشعر لأول وهلة بعد مطالعتنا لقصص شارلس مورجان بهذه الصفات جميعاً، وبقوة جذابة في الأسلوب وفي اللهجة، قوة هادئة منظمة تسيطر على الأعصاب وتبدو من خلالها صفات المؤلف التي لا تمت مطلقاً لا إلى الواقعية ولا إلى التحليلية، بل إلى تجارب ثمينة وإرادة حديدية وفن إبداعي لم يسبقه إليه أحد.

بدأ شارلس مورجان حياته في البحرية الإنجليزية وعمره سبعة عشر عاماً فطاف ببلاد وموان مختلفة، وقد تولد ميله إلى الأدب بتأثير حادث خفي. ولما زار أكسفورد للمرة الأولى راقته حياة الطلبة ودفعته رغبته في إتمام تعليمه وتعلقه وشغفه بالأدب إلى أن يؤثر الالتحاق بالجامعة على الاندماج إلى الأبد في سلك البحرية. غير أن شبوب الحرب العالمية حال دون أن يحقق رغبته فاضطر أن يعود ثانية إلى العسكرية واشترك في الدفاع عن أنفرس إلى أن سقطت في يد الألمان فوقع في الأسر وأرسل إلى إحدى المعتقلات العسكرية في هولندا ثم أفرج عنه عقب الهدنة وعاد إلى إنجلترا ليلتحق ثانية بجامعة أكسفورد.

كانت أول أعماله الأدبية روايته الأولى (غرفة البنادق) في عام 1919 وقد تحدث فيها طويلاً عن حياة البحرية، غير أنها قوبلت من جانب الصحف والنقدة بقلة الاكتراث لعدم ذيوع اسم مؤلفها، وفي عام 1925 أصدر روايته الثانية (اسمي لا عَدّ له) فكان نصيبها نصيب روايته الأولى.

أحس مورجان بدبيب الفشل يتطرق إلى نفسه، وانصرف إلى الوحدة والمطالعة وخاصة في كتب الفلسفة والتصوف، وفي عام 1932 ظهر في الجو الأدبي للمرة الثانية بروايتين: الأولى (صورة في مرآة)، والثانية (النافورة) يصفهما كلير اليان انجيل الناقد الفرنسي: (بأنهما ثمرة مجهود طويل دقيق، أشرفت عليه إرادة جبارة تدل على نضوج في الرأي وقوة في التفكير) ويقول عنه محرر (النوفيل ليترير) في معرض نقده لفن شارلس مورجان: (بأن أهم مميزات عبقريته تحفظه في التعبير، ولا يمكن مطلقاً اتهامه بالبرود والجفاء لأن الانفعالات المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس، ولهذا فأشخاص قصصه يشعرون ويتألمون ولكنهم يتهامسون دون رفع أصواتهم).

يمتاز أسلوب مورجان بفصاحة في التعبير، وربما كانت روايته (النافورة) مشوبة بشيء من الإسهاب في الوصف، ويمكن أن يقال أيضاً بأن الوضع في روايته الأخرى (صورة في مرآة) غير متناسق في مجموعه، غير أن بعض نكات المؤلف الطريفة تعطينا شيئاً من الطلاقة إلى جانب عبوس الموضوع. وقد جاءنا المؤلف بأشباح هم أبسط تكويناً من أبطاله، يعيشون فوق سطح الموضوع لا في قاعه؛ مثال هذا: وصفه في القسم الأول من (النافورة) حياة الضباط الإنجليز في المعتقلات الهولندية، والآنسة فولاتون العانس في رواية (صورة في مرآة) وجعلها تلقي الكلام على عواهنه في شئ من المزاح الخطر. ومع ذلك فالمعاني التي يأتي بها المؤلف ترتكز على تلك الصراحة التي يصور بها نفسية أبطاله، وهو لا يكاد يشرح مسألة هامة حتى يترك المجال رحباً لاثنين أو ثلاثة من أبطاله، فيختفي وراء شخصياتهم ليلقنهم آراءه وأفكاره.

في رواية (صورة في مرآة) يصف لنا حياة رسام شاب يدعى نيجل فرويز يقابل مصادفة صديقة له كان يحبها منذ سنوات، فحين يلتقي بها بعد هذه الغيبة الطويلة ينبعث الماضي من قلبه فجأة كعالم كان يجهله. حاول أن يهبها حبة فأخفق، لأن صورتها الأولى التي كان يهيم بعبادتها قد تغيرت بمرور الزمن، وكانت أيضاً على وشك أن تتزوج من غيره، فتترك عريسها وتتعلق بالرسام الشاب وتمنحه قوة حبها السابق، على حين أنه يشفق عليها فقط لأنه يعطف على ذكرى الماضي ويقدسه.

وتعتبر روايته الثانية (النافورة) رداً على هذه النظرية، فموضوعها هو التفاهم الفكري بين رجل وامرأة، والتفاهم الروحي بين رجل ورجل هما في القصة أخصام، ولكن الخصب الفكري والتوافق في ذلك الأفق العالي من الثقافة يمحو الخصومة ويسمو بهما إلى مراتب الآلهة.

بطلها لويس اليسون شاب لا يزال في مقتبل العمر، ولكن لفرط تعمقه في الفلسفة والتفكير يبدو أكبر سناً من حقيقته. وعندما يتكلم بروية يضطر غيره إلى الإصغاء؛ هو مغرم بالتاريخ لا يدرسه لنفسه ولكن للفلسفة في التاريخ، يدرس تطور العقل الإنساني المشترك في العصور المتعاقبة ويتابع ناحية جلية منه، وهي أن هناك عقلاً واحداً من أقدم عصور التاريخ إلى اليوم، وسواء أكان هذا العقل عقل أفلاطون أو ديكارت أو نيوتن فإنه العقل الإنساني يحاول أن يخترق الحجب وأن يمزق قناع الغيب.

فشارلس مورجان يطبق النظرية الفلسفية الحديثة القائمة على توحيد العقل الإنساني ويطبق أثر تصوفه في أخلاق أفراد قصته، فيقول على لسان أحدهم حين يتلو صلاته في تقوى وخشوع: (عندما كنت طفلاً أخذ الله بيدي، ولما كبرت هربت منه، وعندما احتجت إلى الراحة والسلام بحثت عنه وطفت المدينة بمصباح، ثم غمرتني المذلة وانحنيت إلى الأرض أبحث عنه في الأوكار وتحت صفحات الأزهار، ولكن لم أجد سلاماً ولا راحة، وصرت كطفل أو كعالم كبير ضل طريقه فلم أعد أعلم عمن أبحث، فرميت مصباحي ومفاتيحي وبكيت، ورأيت فجأة نوره يملأ قلبي، وعدت إلى المدينة فإذا النور لا يزال حيث هو، وإذا بي أمرح في سجن نفسي بينما الدنيا تتابع الطرق على بابي، ربي أعطني يدك عندما تدعوني إليك).

- 2 -

نراه يصف الأسرى في المعتقلات الهولندية فيسهب في تسجيل حركاتهم وخواطرهم، عندما يتألم الطيار الذي اعتاد الجو فلا يستطيع الصبر على الأسر، يقول للويس اليسون المفكر الغارق في فلسفته: أتعلم أني حين أطير أصل إلى لحظات ينكشف لي فيها الغيب وأرى ما لا تراه العيون كما ترى أنت بالطبع حين تخلو إلى نفسك والى أفكارك، ثم أعود إلى الأرض. . . أعود آدمياً مع الأسف كما تعود أنت بعد خلوتك لتختلط بنا وتتكلم معنا.

وعندما يتقابل لويس اليسون مع جولي ناروتز - وهي سيدة شابة إنجليزية متزوجة من ألماني لا تحبه - يعرف أنها كانت تلميذته القديمة وهو في لندن فتأخذ الذكريات تتفتح في قلبه شيئاً فشيئاً كما تتفتح الزهرة في أشعة الشمس وتحاوره قائلة:

- أستاذي. . . كيف تراني الآن؟ هل تغيرت؟

فيجيبها وهو شارد في تأملاته:

- معاذ الله. . لقد صرت كشبح جميل قام من هذه البحيرة.

فتلذعه بقولها:

- إذاً وداعاً للحم والدم!

تتحول صداقة لويس وجولي إلى حب، هو في نظرهما وسيلة للبحث عن توازن يتغلب على تقلبات الدهر، أو كما يصفه المؤلف نفسه: (عندما يتم امتزاج الرجل بالمرأة وهما في أشد أدوار النشوة ويحاولان أن يعبرا جسر الجسد إلى وحدة الروح، فإنهما لا بد واصلان إلى سخرية ما بعدها سخرية، ومهما أحاطا الحب من خيال وحرارة وإيمان وابتغاء الخلود بالذرية، فإن الإحساس الجسدي يظل كما هو، جسمان منفصلان كطائرين يحاولان التلاقي خلال (لوح) من زجاج!).

والخلاصةأن بطلي هذين النزاعيين النفسيين متشابهان كل التشابه، ينجل فريوز في السابعة عشرة من عمره، ولويس اليسون في الثلاثين، ولكن كليهما يبدو أكبر سناً من حقيقته، فنضجت في الحياة تجاربهما. وصورة الرسام الفنان تتشابه تماماً وصورة الضابط الشاب، فإنهما يمتازان بعمق الإرادة وانحصار قوة التفكير المحاط بتكتم يخضع المحيط بهما، ولوعة الذكرى التي تعذب ينجل وشعوره بالألم من مجرد مرور طيف كلير بمخيلته، وهو نفسه شعور اليسون عندما يلتقي بتلميذته جولي ويحبها. وقد يمتاز اليسون عن زميله بأنه رجل كثير التفكير، يسبح في آفاق عالية، فعندما يؤخذ إلى الأسر يفرح كالطفل ويقول، بأنه سوف يخلو إلى مطالعاته وتأملاته.

فحياة التأمل ما هي في نظره إلا التاج لآمال الرجال الذين فجعوا وهم في زهرة العمر.

أما كلير وجولي فإنهما تختلفان نوعاً، فبطلة (صورة في مرآة) بطيئة في فهم جموح عاطفة الطفل المعجب بها والذي يحبها حباً نادر المثال. لذا نراها مبتعدة عنه بل تكاد تكون سلبية، على حين أن جولي ضحية تنازع لعوامل مرتبكة، وهي لذلك كثيرة الاضطراب مبلبلة الفكر، وقد تجنب المؤلف أن يثير بشأنها مسألة الجنسيات، فهي إنجليزية ولكنها متزوجة من ألماني يدعى فون ناروتز، وشخصية هذا الضابط غريبة حقاً في الرواية، فالمؤلف يظهره أمامنا وقد عاد من الحرب مشوهاً مريضاً بالربو، يقاسي نوبات حادة من الألم، يقول عنه (إنه ترك مرتبة التفكير وصعد إلى أعلى من هذا واستقر، فها هو يعود إلى داره بآلامه التي لا تطاق، فيحاول أن يصبر كإله جبار).

ولكن البارون - رب القصر - وهو رجل موفور الصحة، لا يكتم رأيه العملي حيال فون ناروتز فيقول: (إن العالم كمزرعة لا يجب أن يتسامح المرء في الضعيف فها وإلا قل الإنتاج وحل الخراب، فالضعيف المريض يجب أن يمحى).

يسمع ناروتز منه هذا ويحاول أن يصبر على الألم ولا يشكو فيقول في إحدى محادثاته: حقاً إن الرجل القوي يتحكم لدرجة ما في الموت والحياة.

وهو قد جاء إلى القصر بآلامه وانتصر على الموت لأنه يحب زوجته جولي حباً عميقاً خالصاً ولأجلها يريد أن يعيش.

ولكنه يعلم بعد هذا أن العلاقة التي تربطه بزوجته أصبحت علاقة المريض بالممرض فهي تخونه مع لويس لأنها محرومة منه، ولو طالبها بالوفاء له وهي شابة ناضجة الأنوثة ملتهبة العاطفة لكان هذا فوق طاقة البشر، فيقذف بنفسه في غمرة من المثل الأعلى اليائس، وأخيراً يصل إلى حالة انفصال تام عن الحياة وحالة هدوء واستسلام وتجلد أمام الآلام ويأخذ الجبار في الموت فلا يلبث قليلاً حتى تختفي شخصيته.

وقد قصد المؤلف بإظهاره أن يطلعنا على صورة من صور النساك الحديثين الذين يعتبرون أن الحرب ما هي إلا تكفير ديني لخطايا البشرية، ولو كانت شخصية فون ناروتز غير هذا من الخلق لأصبح الموضوع تافهاً، ولكن إظهاره بهذه الصورة يدل تماماً على طريقة رسم المؤلف لشخصياته.

جميع أبطال شارلس مورجان مثقفون لا يعيشون إلا بأرواحهم، وبالرغم من تحليله النفسي الدقيق فإن لا يسرف مطلقاً في وصف (تيار الضمير) كما هو الحال في أكثر المؤلفات الإنجليزية الحديثة.

فأشخاص مورجان يحكمون عقولهم ويدرس بعضهم أخلاق بعض، وهم ذوو إرادة قوية، ولا يمكن للغريزة أن تحكمهم حتى في أعمالهم، يسلكون طريقهم الطبيعي، ويقفون أحياناً يائسين بعد تردد، وهم لا يعملون عملاً متفقاً عليه ولا يتحركون كالآلة، بل تبدو من خلال شخصياتهم الإرادة القوية والشعور باحترام أنفسهم، وبرغم الحوادث والكوارث التي تنتابهم تراهم محتفظين بنزاهتهم الأدبية وباستقلالهم في الرأي والحكم.

فشارلس مورجان يعد أيضاً من هذه الناحية من المؤلفين الإرشاديين، وهو يوجه قراءه إلى مثل عال واضح محدود. وفي الوقت الذي يتلمس في التأليف الروائي الإنجليزي سبلاً للوصول إلى نوع جديد، نرى مورجان يسلك طريقاً مبتكراً، وهو يشبه في فنه (برنسيس دي كليف) وغيرها من القصص التي يجمع أبطالها بين الشهوة والاتزان فيفخرون بتحمل آلامهم باحثين عن الراحة في شعورهم بالإخلاص للمثل الأعلى.

وخير ما أختم به هذه الدراسة المقتضبة أن أردد ما قاله الناقد الروائي لملحق التيمس الأدبي:

(إن الذي تطربهم الشهرة والذين يعترفون بقوة الإلهام ويقدرون أيضاً نعمة إظهار الأخلاق على حقيقتها وتحديد العواطف البشرية ورسمها، والذين يميلون بفطرتهم إلى آداب النثر الفني الإنجليزي وعظمته يستطيعون أن يجدوا كما وجدنا هذه الآثار الرائعة في روايات شارلس مورجان).

محمد أمين حسونه