الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 71/داء الوظيفة

مجلة الرسالة/العدد 71/داء الوظيفة

مجلة الرسالة - العدد 71
داء الوظيفة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 11 - 1934


قال وهو يقلب كفيه من الهم، ويعض على يديه من الغضب: سقط الوزير سقوط الورقة الجافة قبل أن يمضي القرار بالوظيفة، فهل رأيت مثل هذا الحظ المتخلف والقدر العابث؟. . .

فقلت له: هون عليك يا بني، ولا تسلط على نفسك أساك، إن معك الشباب القادر، والأمل الطموح، والثروة المساعدة، ودبلوم الزراعة التي تفتح لك كنوز الأرض، وتدر عليك أخلاف السماء، وفي القرية متسع لأمثالك ممن يحيون مواتها، ويجددون حياتها، ويفيضون على أهلها نعمة العلم، وخير المدنية، ونعيم الحضارة؛ فلِمَ لا تستأجر مزرعة في بعض دوائر الأمراء تجرب في استغلالها كفايتك وإرادتك وحظك؟ إنك إذا فعلت عصمت نفسك من رق الوظيفة، وخلقك من فتنة الحكومة، وعلمك من آلية العمل، ورزقك من تحديده بالمرتب، وقدرك من قياسه بالدرجة. فأجاب وفي عينيه سهوم العجب من هذا الرأي: مالي أدفع بنفسي في هذه المغامرة المجهولة، والوظيفة تضمن حاضري بالمرتب، وتؤمن مستقبلي بالمعاش؟ والقليل المتصل خير من الكثير المنقطع، والموضع المتطامن المتماسك، أصلح للقرار من الرفيع المترجح. . .

فقلت له: ذلك كلام لاكته الألسن حتى تفه، وتقبلته الآذان حتى سمج، ولقد كان له مساغه وبلاغه يوم كانت المدارس معامل لتخريج الكتبة والحسبة للحكومة؛ فأما اليوم وقد امتد أفق التعليم، واتسع نطاق المنهج، وانفسح مجال العمل، وتحققت الحرية للفرد، وتيسر الارتجال للشباب، وحان الحين ليسترد المصريون جماعات ووحداناً مرافق بلادهم وموارد أرزاقهم من الأجانب، فإن الإخلاد إلى المقاعد الأميرية إخلاد إلى العجز، واطمئنان إلى الهون، وانخزال عن تحرير الوطن.

قال: ولكن فريقاً من الشباب ارتجلوا بعض الأماني الاقتصادية الجماعية في التجارة والزراعة والملاهي، فوردوا عن خسارة وصدروا عن فشل. فقلت له: إن هؤلاء فاروا عن حرارة وفتية، وثاروا عن ريح عابرة، فاعتسفوا الأمر قبل أن يخبروه، وزاولوه دون أن يفرغوا له، واخطئوا تقدير المنافسة الأجنبية فأخطئهم التوفيق؛ ومالك تقيس أمرك بهذا المقياس المختل وأمامك المقاييس العليا تتواثب في عينيك من كل مكان؟ ألم تر إلى اليوناني أو الطلياني كيف يفد عليك من غير رأس مال، ولا شهادة جامعة، ولا توص وزير، ولا تعضيد جمهور، ولا تحميس صحافة، فيحترف وضائع الحرف، ويحتمل مكاره الفوز، ويتفرع معالي الأمور في روية وصبر، حتى بلغ به نشاطه أن يدير عمارة المدينة، ويصرف تجارة القرية، وينثج زراعة العزبة، فيبيع عليك غلة أرضك، ويستعبدك بربا مالك، وأنت جالس جلسة الأجير على مكتبك الحقير، تكنس لنعليه الطرق، وتشق لعينيه الحدائق، وتكفل لمتاجره الأمن، وتدبر لمزارعه الماء، وتتقبل على ذلك كله دغل الصدر وقسوة اللسان وقحة النظر!

رأى صديقي الفتى أن لهجتي لا تلائم همه الغالب، ومنطقي لا يساير منطقه اليائس، فتولى عني غير راض ولا مقتنع، وتركني أحدث نفسي، وأقارن بين يومي وأمسي، فأجدني بين عملي المقيد الذي انصرفت عنه، وعملي الحر الذي انصرفت إليه، أشبه بالسجين المقيد يعمل برأي غيره، ولحساب غيره، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمر، ولا يسير ولا يقف إلا في نظام، وهو يأكل حين لا يشتهي، وينام حين لا يريد، ويستيقظ حين لا يحب، وتتعطل ملكاته حتى يصبح كالإنسان الصناعي: قوة محركة وآلة، ثم يدركه لطف الله فتتفكك عنه السلاسل وتتفتح له الأبواب، فيجد عقله في النور، وخلقه في الطبيعة، وحريته في الجو، ووجوده في المجتمع! فينبت الريش الناسل، ويخفق الجناح المهيض، وتتكشف الآفاق الجديدة!

إن أولى الناس بالرثاء لأولئك الذين سلبوا جوهرة الحياة وحرية العيش، وعاشوا في ظلام الوجود مكبين على مكاتبهم، مغلولين عن الحركة، مكمومين عن الشكوى، يستقطرون الرزق من شق القلم، ولا يصيبون من أجورهم سداداً من عوز ولا غنى من فاقة.

يدخل الموظف الديوان وهو ابن عشرين، فيودع عاماً ويستقبل عاماً حتى يأخذ بِمُخَنَّق الستين وكأن لم يحدث في العالم شئ! يختلف الليل والنهار، وتتبدل الأحوال والأطوار، وهو على مكتبه الضيق في غرفته المظلمة، يعمل ساعة ويجتر أخرى، دون أن يشعر بدوران الفلك، أو يفطن إلى حركات العالم.

يدخل الديوان وهو طرير الشارب، أثيث الجمة، ريان من الشباب والقوة والأمل؛ ثم يودعه وهو مخدد الوجه، أشيب الشعر، متداعي الجسم، فقير من المنى والذكر والمال، لا يصلح إلا عموداً في مسجد، أو منضدة في قهوة. وربما أقصدته المنون لانقطاعه بغتة عما ألف من عادة شديدة، وحياة رتيبة، وأعمال واحدة، في ساعات لا تختلف ولا تتبدل.

أيها الموظفون! إن لابتغاء الرزق موارد غير هذا المورد الناضب، ولخدمة الأمة مواقف غير هذا الموقف الكاذب، فتجافوا بأنفسكم عن هذه المقاعد، فإنها مواطن الذل والملق، ومساكن الفقر والجهل، ومكامن الخمول والموت، واقرأوا على أبوابها ما كتبه (دانتي) على أحد أبواب الجحيم:

((قوضوا حصون آمالكم، وأضمروا اليأس من مآلكم، أيها الداخلون!))

احمد حسن الزيات