مجلة الرسالة/العدد 71/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 71 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 12 - 11 - 1934 |
منذ أحد عشر عاماً في سان مالو
للكاتب الشهير بانيت استراتي ?
ترجمة علي كامل
في اليوم الخامس عشر من أغسطس الماضي كان قد مضى خمسة عشر عاماً على نشر قصتي الأولى (كيرا كيرالينا) في مجلة (أوروبا).
لقد كنت في ذلك الوقت رجلاً سعيداً. فقد كانت صحتي أولاً خيراً مما هي اليوم، ولم أكن أحمل هذه المشاغل التي تسحقني سحقاً. كذلك كنت أشعر بالسعادة لأنني كنت قد انتهيت من كتابة قصتي (كيرا) وأنا أشتغل مصوراً فوتوغرافياً متنقلاً أنعم بالحرية والمرح. وكنت أعتقد أنني قد (فتحت ثقباً في السماء) كما يقولون في رومانيا. وأخيراً كنت سعيداً لأنه كان لي صديقة صغيرة من الألزاس أرادت عن طيبة خاطر أن تشاركني مصيري كمصور فوتوغرافي متنقل وليس هذا بالأمر اليسير.
كان الشهر شهر يوليو عندما اتخذت أولاً طريق بانيول دولورن، وقد تسلحت بجهاز فوتوغرافي جديد وجميل تجاورني رفيقتي الباسلة. على أنني لم أقم إلا مدة قصيرة في هذه البلدة المتعبة للأعصاب حيث شراب السدر الرائع، والغابة الممتدة الأطراف، ولم يكن شراب السدر هو السبب في قصر مدة إقامتي، بل السبب هو تلك الغابة التي بها، ذلك أن صديقتي كانت تحبها حباً جماً. وا أسفاه! لقد كانت تحبها على الخصوص حين تسبب لها الآلة الفوتوغرافية الضيق والعصبية فتخلق تلك المشاجرات المحبوبة التي هي فتنة الحياة البوهيمية وبهجتها. ولكي تسري عن نفسها كانت تختفي في الغابة حيث كان من العسير علي أن أجدها حتى بعد مسير كيلومترات وساعات من الصياح. ذلك الصياح الذي كان يبح صوتي ثلاثة أيام. وعندما يهبط الليل كانت رفيقتي تؤدي لي من الخدمات وهي نادمة مفعمة بالحب لي أكثر من أي وقت آخر، وذلك مما كان يغمرني بالسعادة والنعيم.
وبعد أسبوع قلت لنفسي: ماذا يهم! يحب أن أذهب لأجرب آلتي في أماكن عارية مكشوفة يمكن فيها رؤية رفيقتي من بعيد عندما ترغمها الضرورة على الهرب من أجل تهدئة خاطرها.
وانتقلنا فعلاً إلى بونتورسن ثم إلى جبل سان ميشيل. ولما كنت قد رحت ربحاً عظيماً في بانيول دولورن اعتزمت سكنى الجبل نفسه برغم ارتفاع أجره، وعلى الامتناع عن العمل مدة يومين، زرنا خلالها آثار المكان التاريخية، وأكلنا (عجة الأم بولارد) وتأملنا ملياً في مد البحر وجزره أثناء النهار والليل. وبعد هذين اليومين حملت آلتي وابتدأت أصور الإنجليز الذين يريدون أن يحتفظوا بصور تذكارية لمرورهم بجبل سان ميشيل.
ففي اليوم الأول كان كل شئ على خير ما يرام، فصورت عشر صور في مقابل مائة فرنك. وفي اليوم الثاني انتابت فتاتي أزمة عصبية فتركتني بقسوة وحيداً ابتداء من الظهر، فكنت مضطراً إلى أسرع في عملي دون احتياط كي أستطيع إنجازه، على أنني لم أحاول أن أغضب، بل كنت أتابع بنظراتي من قمة الجبل وجه صديقتي الرقيقة التي كانت تهدئ من حسرتها بالتطلع إلى الأماكن الرملية العارية في ذلك الإقليم الرائع.
كنت أقول لنفسي:
- آه! ليس لك هنا غابة تختفين فيها. إنك مرغمة على أن تحومي حول ناظري كسمكة في إناء زجاجي.
وكنت أفكر أيضاً في شراء منظار مقرب لأرى من بعيد ما الذي تفعله امرأة غضبى وهي وحيدة في صحراء واسعة.
ولكن في اليوم الرابع من وصولنا عندما غضبت صديقتي للمرة الثانية وابتعدت عن الجبل إلى أبعد مما تبصره عيناي لفت نظري راهب كان يهتم بسعادتي المنزلية إلى الرمل المتحرك المشهور به ذلك الإقليم، والذي تتعرض لخطره فتاتي إذا داومت على نزهاتها الخالية من التبصر حول الجبل أثناء المد والجزر.
لقد ملأني هذا التحذير رعباً وفزعاً، ففي اليوم الثاني تركت الجبل وذهبنا إلى سان مالو حيث لا توجد لا غابة ولا رمل متحرك، بل ساحل عظيم أو بالحري ساحلان أو ثلاثة تمتد من بارانيه إلى دينار، وتجمع من الناس أغربهم طباعاً، فهناك ينتقل المرء من مكان إلى آخر لأتفه الأسباب، فليس هناك غرض يدفعه إلى هذا التنقل إلا إفهام الذين يبقون في أماكنهم أن من يغادر بلده بعد ثلاثة أيام فإنما يكون ذلك لأنه غني يسعى وراء التغير والتجول.
ونزلنا في فندق صغير في باراميه، وحاولنا أن نجرب حظنا على ساحل البحر، ولكننا لم نصادف نجاحاً، فقد كان هناك كثير من المصورين وقليل من الزبائن، ولم أستطع طول هذه الأيام أن أحصل على نفقات الغرفة والطعام التي كانت باهظة. وأكثر من ذلك أنه كان يمر تحت المنزل تماماً ترام كأنه فيل ميكانيكي هائل، فكان يهز المدينة بأجمعها هزاً مرعباً كلما تحركت أطنان الحديد المخيفة المركب منها. وكنت أعود في المساء يقتلني التعب والإعياء من حمل آلتي الثقيلة على كتفي من أول ساحل البحر حتى منتهاه، وكنت أستيقظ مبكراً لكي أقتنص زبوناً من بين المستحمين المبكرين، فكانت حاجتي إلى النوم تسحقني سحقاً عندما ألقي بجسمي في السرير بعد العشاء. على أنه لم يكن هناك سبيل إلى النوم قبل الساعة الواحدة صباحاً حين تقف حركات ذلك الجسم البشع الثائر.
وعندما انتهى الأسبوع الأول من إقامتنا انتقلنا إلى الطرف الآخر من المدينة نبحث عن الهدوء تحت أسوارها العالية. على أننا لم نجد مسكناً معتدل الثمن، فاضطررنا أن نقنع بغرفة ممتلئة بالأثاث المتراكم فوق بعضه بدون نظام، وكنا ندفع أجرها عشرة فرنكات كل ليلة، نعم كل ليلة لا كل يوم، فقد كان لزاماً علينا ألا ندخلها إلا في المساء وأن نخرج منها في الساعة التاسعة صباحاً على الأكثر. وكان محرماً علينا أن نستخدم باب الغرفة لأن في ذلك إزعاج لأصحاب الدار، فكنا ندخل إلى الغرفة ونخرج منها من نافذة تطل على الفناء.
وانتظرت ما سوف تكون عليه صديقتي في حالاتها المختلفة، وكنت أنظر والحسرة تمزق قلبي إلى سور المدينة الشاهق. ذلك السور الذي سوف لا تتأخر رفيقتي عن اختياره مكانا تختفي فيه انتقاماً مني. والذي كانت تتحطم في أسفله جماجم كثير من الناس الذي كانوا يتنزهون فوق سطوحه العالية. ولقد بلغ مني العجب مبلغاً كبيراً إذ لم يحدث شئ مما كنت أتوقع. فقد كانت رفيقتي دائمة السرور والابتسام، وكانت تجد مجالاً واسعاً للسخرية والهزء في غرابة أطوار صاحب الدار الذي سمح بتأجير آخر غرفة (معدة للإيجار) لديه على أن يدخل المستأجر إليها ويخرج منها من النافذة!
ولكي أثير حب استطلاع فتاتي التي كانت تعجب بقصص المهربين؟ قلت:
- إنه يبدو لي تماماً أن هذه المدينة كانت موطناً لقرصان البحر القدماء.
فارتعدت صديقتي عندما تذكرت أننا نعيش تحت سقف أحد أحفاد القرصان وقالت:
- هل يؤذي الناس أولئك الرجال؟
فأجبتها:
- إنهم لا يؤذون النساء ولا المصورين المتنقلين، وقضيت أسبوعاً في العمل متمتعاً بالهدوء. إنني لم أكن أربح كثيراً ولكن سعادتي في ذلك الوقت كانت في التصعلك مع رفيقتي المحبوبة دون أن يقع بيننا نزاع. لقد كنت مغموراً بالنعيم طوال ذلك الأسبوع، وكنت أعتبر نفسي مديناً بهذا النعيم إلى صاحب الدار حفيد القرصان.
نعم لقد كان يبعث السرور إلى قلب صديقتي عندما كان يرغمنا على تسلق النافذة في الساعة العاشرة مساء، ثم يدخل من باب المطبخ ليطلب الإيجار اليومي لغرفته، ثم يغادر الغرفة بمجرد حصوله على العشر فرنكات. ولكن في هذه اللحظة القصيرة كان جسمه الضخم يحرمنا من المتر المكعب الوحيد الذي سمحت لنا به الأربعة (دواليب) التي كانت تملأ غرفتنا الصغيرة، وكانت رفيقتي تقول وهي غارقة في الضحك كمجنونة بعد أن غيرت رأيها في حفيد القرصان:
- ماذا يكون حالنا لو شرع حفيد القرصان يقص علينا ذات ليلة أعمال أجداده. إننا سوف نموت بالاختناق!
وهكذا كنا نظل حتى منتصف الليل في الضحك والتنادر ولكن لكل شئ نهاية. ففي ذات ليلة بعد أن أدخل حفيد القرصان كتفيه بصعوبة ماداً ذراعه ليتناول نقوده نظر إلى فتاتي بعينين مفترستين وقال:
- إنك تضحكين كثيراً أيها السيدة!
كانت هذه العبارة القصيرة هي كل ما قاله، ثم خرج، ولكنها كانت كافية لأن يسود السكون التام في غرفتي.
قالت صديقتي وهي تنظر إلى باب الغرفة وقد انتابه شحوب شديد:
- إذن ليس مسموحاً للمرء أن يضحك في سان مالو، بينما يرغم على الدخول في داره من النافذة كي ينام في سرير أشبه بتابوت ميت مدفون تحت أربعة دواليب؟
لقد كان لها حق فيما تقول. وكذلك كان لحفيد القرصان. ولم يبق إلا أنا الذي رأيت واجباً على أن أستسلم كالعادة مرة أخرى وأرضى بألا يكون لي كلمة في منزلي.
ولقد بذلت جهدي في أن أحصر الضرر، فوعدت صاحبتي أن ننتقل من الغرفة سريعاً. ولسوء حظي هبت عاصفة على البلدة في اليوم التالي لتلك الحادثة فامتنعت علي الوسيلة الوحيدة لكسب قوتي، إذ أن الرياح التي كانت تبعث السرور إلى نفوس المستحمين كانت تهدد آلتي في كل لحظة بالانقلاب، ولكي أقاوم ساعتين على ساحل البحر من أجل التقاط اثنتي عشرة صورة، كان لا بد لي أن أحمل من الصبر ما لا يمكن أن أتطلبه من فتاتي. فقد كانت فتاة رشيقة برغم أنها خياطة بسيطة. وكانت تحب أن تكون نظيفة وقوراً حسنة الهندام، فلم تكن تستطيع العمل معي، لأن الرياح كانت تعبث بشعرها وتضرب رداءها (الفوال) بقطع الملح فتغطيه ببقع صفراء، ذلك أن عملها كمساعدة لي تغسل الصور وتجففها وتسلمها إلى أصحابها، كان هذا العمل يدفعها إلى البحث على ساحل البحر وفي الفنادق. لذا لم تقم لي بمساعدة ما، وتركتني وحيداً أقوم بكل مراحل الحرفة التي نعيش منها.
قالت لي:
- تصور مركزي عندما أكون أقذر النساء البوهيميات. ليس لي هنا ما أفعله. سأذهب لأبحث عن عمل. . . في الخياطة أو غيرها. فإذا وجدت فاعلم يقيناً أنني لن أعود مطلقاً!
تركتني عند الظهر وكان في جيبها الصغير خمسة فرنكات، ولم تكن قد تناولت بعد طعام الغداء، فجلست على شاطئ البحر محطم القوى وعدتي على ذراعي، أنظر إليها وهي تغيب عن عيني، وقد ملكها الألم وأوشكت أن تنفجر بالبكاء. ولقد كان مظهرها يحمل حقاً كل معاني الطهر والصفاء مما أفعم قلبي بالحزن والحسرة من أجل هذه المرأة الصغيرة الجميلة.
ولم أتناول أنا أيضاً طعام الغداء، فقد تراكمت علي الحسرات وكانت كل ثروتي عشرين فرنكاً، أي عبارة عن أجر ليلتين عند حفيد القرصان.
وبعد أن أعدت أدوات عملي خرجت أجوب المدينة. وكانت الريح تدوي دون انقطاع، فكنت أسائل نفسي: ما الذي يؤول إليه حالي إذا لم أوفق إلى جمع الثلاثين فرنكاً التي هي أقل ما يمكن أن أحتاج إليه يومياً. وكنت أعرف تماماً أن صديقتي لا يمكن أن تنفذ كل تهديداتها لأنها كانت مثلي تبغض العمل أثناء النهار، ومع كل ذلك فإن منظرها وهي تتركني بقي ماثلاً أمامي، وكان يمزق قلبي تمزيقاً. وكان حبي لواجهات المحلات التجارية يحبسني أحياناً بطريقة آلية، على أنني كنت أتطلع إلى الواجهات دون أن أرى شيئاً، لأن فكري كان يتابع صورة فتاتي التي ظهرت لي وكأنها قد انتزعت منها كل فتنة، فبدا لي الشعر مهملاً، والرداء مرقعاً، والوجه مستسلماً يائساً.
وفكرت ثانية في مصيري. ذلك المصير الذي دفعت ثمنه غالياً لأشعر يوماً بشمس الحرية تدفئني، ومثلت أمامي مرة واحدة فكرة بعثت الشرر في عيني. فقد وجدت نفسي أمام منضدة مكتبة. وفي الوسط أمام عين الناظر، رأيت مجلة (أوروبا) وكان غلافها الأصفر محاطاً بغطاء أخضر، ولم يكن مكتوباً عليه غير الموضوعين الأولين من موضوعات المجلة وهما:
جوركي البلقاني بقلم: رومان رولان
كيرا كيرالينا بقلم: بانيت استراتي
شعرت بأن ساقي قد خارت قواهما، ودخلت في المكتبة وأنا أكاد لا أستطيع السير، ورأسي يطن طنيناً كأن بداخله بحراً هائجاً، واشتريت المجلة وضممتها إلى قلبي المضطرب، وذهبت كالمجنون إلى شرفة مقهى كبير وطلبت نوعاً من الشراب، وسجائر فاخرة، وقرأت ثم قرأت مقال (جوركي البلقاني) وأنا أذرف الدموع الحارة الصادقة على عبارات ذلك الرجل الذي كان مقاله هذا ضربة حديدية صارمة غيرت مجرى حياتي ومصيري. وبعد ذلك أرسلت رسالة تلغرافية إلى الناشر. وفي ظهر اليوم التالي وصلني بالتلغراف الأربعمائة وعشرون فرنكاً وهي حقوق تأليف قصة (كيرا) التي احتوت على اثنتين وأربعين صفحة من مجلة (أوروبا) نشرت في الخامس عشر من شهري أغسطس وسبتمبر عام 1923.
وفي الليلة التي تلت هذا الحادث العظيم في حياتي كنت مريضاً لما انتابني من النعيم والسعادة فلم أنم مطلقاً، وأطبقت ذراعي في صمت، ناسياً رفيقتي التي لم تكن تفهم شيئاً لا حالتي ولا (جوركي البلقاني) وساءلت قلبي وهو خير أصدقائي وأكبر أعدائي قائلاً:
إلى أين نحن ذاهبون؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ لم نذهب إلى أي مكان. . ولقد صدق رومان رولان حين قال لي يوماً من الأيام:
(إن الإنسان في هذا العالم لا يحدث في عمله أو حياته تغييراً كبيراً).