مجلة الرسالة/العدد 709/العجز قوة
→ لغة العبيد. .! | مجلة الرسالة - العدد 709 العجز قوة [[مؤلف:|]] |
في يوم المولد النبوي: ← |
بتاريخ: 03 - 02 - 1947 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
حينما أرى شيخوخة متهدمة فانية مدبرة الحياة تجرجر جسمها المتهالك كأنما تحمله حملا يبهر الأنفاس ويعيي الأوصال، في مزدحم طريق مكتظ بأجسام القادرين على الزحام من الرجال ذوي الألواح العريضة والأرجل الخفيفة والخطوات الماضية في خيلاء الشباب وطفور القوة وعزة القدرة على نيل الأشياء، وغرور الخدعة بالحياة، وقد احتدمت الحركة والجلبة ومضت (دواماتها) العنيفة بتلك الشيخوخة ترمى بها المرامي وسط هذا العباب الزاخر حينئذ اشعر أن هذا العجز يقبض على قلبي بقوة غالبة تجيش لها نفسي وتستجيب لها استجابة لا أحسها في كثير من الأحيان التي يطالعني فيها مشهد من مشاهد القوة والاجتياح.
وحين أرى طفلتي الصغيرة تبدأ حياتها منذ أن فصلت عن حياة الرحم وكل سلاحها للعيش وآلاتها في الكفاح هو الصراخ واستنجاد بقوى من يحيطون بها من الوالدين والأقربين، وتلك الغمزات الخفية على قلبي ألام والأب، غمز الرحمة لهذا الضعف في ي هذا الجسم الصغير الضئيل الطريح الذي لا يملك دفع الذباب والنمال عن نفسه ولا جلب غذائه، ومع ذلك فجميع من في البيت وما فيه من مسخر لرضاها والسهر على الدفاع عنها وجلب المسرة والمنفعة لها، اشعر كذلك ان العجز قوة يسخر لها هاد الأقوياء، واشرف ما في النفوس البشرية من أريحية كريمة هي التي تبني الاجتماع وتجمل الأخلاق وتعلو بمستوى الإنسان بل والحيوان.
ولقد أدركت من شيخوخة أمي رحمها الله في سنتيها الأخيرتين ما كان يثير في نفسي لوناً من الحنان الغامر والإشفاق والحساسية التي تبعث الدمع الهادئ اللذيذ حين كنت أرى ذلك العجز الذي طرأ عليها بعد قوة ولكنه مع ذلك سلحها بقوى جميع من في البيت، وسخرهم لها يخدمونها في لهفة ويكفونها كل حاجاتها في رضا ويسألونها كذلك الرضا.
وعجز الشيخوخة اشد إثارة للرحمة والشعور والعاطفة من عجز الطفولة؛ لأن يريك الهيكل البشري في هالة من تاريخ قوته، فتشعر انك معه إزاء طلل لبناء عزيز كان عامراً فأضحى غمراً، تعفيه الرياح، وينال منه الإمساء والإصباح، ويدبر منه ما كان مقبلاً.
وقديماً بكى الشعر على الأطلال وبحث في أصباغها الناصلة وشواخصها المائلة عن الأشباح التي كانت تعمرها والصور والظلال والأصوات والذكريات التي وقعت عليها والنفس إزاء عوامل الفناء اشد حساسية وإرهافاً منها إزاء عوامل الحياة، لأن النفس من عالم الوجود فليست عوامل الحياة غريبة عليها غربة عوامل الفناء.
وعوامل الحياة تمدها بالطمأنينة والأمل والشعور بالاستمرار والامتداد، أما عوامل الفناء فتأخذ منها الطمأنينة وتعطيها الرهبة والشعور بالنهاية وتقفها على حافة المجهول الذي مضى إلى هاويته كل ما كان ويمضي إليها كل ما هو كائن.
والعجز هو مدخل الإيمان وحجته الهادئة التي لا جدال معها لمنطق. فهو إن كان يثير اشرف ما في النفس وأعظمه أثرا في بناء روابط الاجتماع على أسس من الرحمة والعاطفة، فهو كذلك يثير اشرف ما فيها وأعظمه أثرا في بناء الإيمان وروابط الإنسان بالله على أسس من الفكر والإدراك. وقفة واحدة مخلصة من فكر الإنسان الضئيل المحدود وسط هذا الكون الجبار الحافل بالقوى ذات الهول والاجتياح والرحابة والدوام، والأجرام السماوية ذات الأحجام والأرقام الفلكية، كافية لأن تطلق من صدر الإنسان آهة عميقة فيها الإقرار بالعجز والاستسلام والإنكار لمزاعم القدرة والاستطالة، وصرخة وجلة دامية فيها طلب اللياذ والاحتماء في صدر كن رحيم حنون، وكنف قوى مأمون هو كنف (الذي) بنى هذا الكون الهائل العاقل من هذه القوى الجبارة العمياء المجنونة التي تسير في نظم ولجم تمسكها يد القهر فلا تفلت ولا تلتوي ولا تجمح!
وإذا كان غرور الحياة في بعض النفوس البشرية قد سول لها أن تزعم مزاعم الاستكبار والإنكار، فذلك لأنها نسيت عجزها وضعفها وسجنها في هذا الكون الذي لا يستطيع منه مهرباً إذ دخلته على غير اختيار وستحرج منه على كره.
وهؤلاء الذين يثيرون بمنطقهم وجدلهم وزخرف قولهم الشغب والثورة على حكومة الكون، ويعييك أن تقنعهم بالحجة الفالجة والحق الدامغ، تستطيع أن تراهم يسرعون إلى الدخول فيما دخل إليه جمهور الناس من إيمان إذا ما ضربهم الزمان بالعجز وقيدهم بقيوده وطرحهم مطارح يرون فيها أنفسهم كائنات تافهة لا تملك لنفسها نفعاً ولا عنها دفعاً ولا يحل بهم الليل والنهار، ولا تنظر إليهم السماء والأرض، ويرون أنفسهم تذهب كما تمضي ورقة جافة أو تبنه تافهة. . عندئذ يأخذهم العجز بقوته السالبة الغالبة إلى عتبات ربهم يطرحون عليها قلوبهم ويعفرون بترابها وجوههم ويبللونها بدموعهم ويقولون مع أبي نؤاس:
ذهبت جدتي بطاعة نفسي ... طلبت طاعة الله نضوا
ومن رحمة الله بالناس أن جعل الدور الأخير من حياة اكرهم فترة عجز وضعف وخمود يدركون فيها حقيقة حياتهم وحقيقة الحياة كلها ويخلصون فيها لأنفسهم، يصفون ما بها من غرور ويبصرون الطريق إلى الإيمان، وتصح أحلامهم ويرعوي بالحلم ويتركون ميادين النزاع والأباطيل ويقولون مع ابن المعتز:
أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام
وارعوى باطلي وبان حديث ... النفس مني وصحت الأحلام
ولو استمر شباب الجسم وعنفوانه يصحب الناس إلى نهاية حياتهم ما ارعوى باطلهم ولا خف طيشهم ونزاعهم، ولا صفت طباعهم من ثورة الأكدار التي تثيرها نوازع الشباب واحتداماته واندفاعاته؛ لأن السر في اندفاع الشباب انه يعتمد على ذخيرة من قوى الحياة التي تقتضيها آلات الجسم الصحيح والعيش الصحيح، ولأنه لم يبصر كثيراً من الأحكام الصحيحة على الحياة إذ هو مشغول بإحساسه بغيض الحياة ونشوتها الغامرة، فلم تترك له عجلتها الدائرة في جلبة وقوة ان يبصر الأشياء الثابتة، لأن حركة الحياة في نفسه تزيغ نظره عن الأوضاع الصحيحة. فإذا ابتدأت العجلة تهدئ من دورانها شيئاً فشيئاً استطاع المرء أن يبصر الأمور في ريث وهينة ويتملى في أوضاعها المختلفة فيحكم عليها حكماً صحيحاً.
فلنرد النفس في فترات إلى الشعور بالعجز وسط جبروت الكون، وهول الطبيعة وإصرارها على قوانينها، ودوامها في سلطانها، حتى تشعر دائماً إنها في الكون شئ ربما يكون غير مذكور ولنأخذ من العدل قوانين تعدل قوانين تعدل قوانين القوة والبطش التي لا يدين الناس لغيرها.
وليكن ما في العجز من ظلال عكسية لأوضاع القوة في الحياة سبيلاً لإيقاظنا إلى واجبات لا نراها إلا في الظلال، تلك الواجبات التي لا تسوقنا إليها القوة، وإنما تسوقنا إليها الرحمة.
عبد المنعم خلاف