مجلة الرسالة/العدد 709/أفراح الحياة وآلامها
→ أولياء. . . وأعداء | مجلة الرسالة - العدد 709 أفراح الحياة وآلامها [[مؤلف:|]] |
لغة العبيد. .! ← |
بتاريخ: 03 - 02 - 1947 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت من بغداد رسالة لصاحب التوقيع الفاضل جاء فيها: (. . . بينما كنت اقلب هذا السفر الحليل - يسألونك - وجدتني اقف أمام جملة في تعقيبكم على كتاب - مع أبي العلاء في سجنه - وهي:
(. . . ما زلت اعقد وازداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وان الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس لتي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى فالفرح اعمق من الحزن في رأيي ولا مراء. أما الفرح فهو القدرة والانتصار)
فهلا تفضل سيدي بشرح هذه العبارة. . . الخ.
الكاظمية
جعفر آل ياسين
والموضوع يستحق التفصيل؛ لأننا في الشرق لا نزال قادرين على الحزن عاجزين عن الفرح أو قادرين على التشاؤم عاجزين عن التفاؤل. وربما كن فرضاً اقرب إلى السلوب منه إلى الثبوت. فكثير من أفراحنا ناشئ من قلة الفكر وقلة المبالاة، وقليل منها ناشئ من فهم أسباب الكمال ومعارض الجمال في هذه الحياة.
والألم اسهل من السرور لأن أدوات الألم ميسرة للطفل والجاهل مقصورة على الإنسان.
وأدوات الألم هي الحواس الجسدية، وهي كافية لإشعار صاحبها بجميع المؤلمات والأوجاع التي يشتمل عليها عالم الحس المتسع لجميع الأحياء، ومنها الإنسان.
كل حي يستطيع أن يشعر بشوكة الوردة. لأن الشعور بها لا يحتاج إلى اكثر من جلد وأعصاب.
ولكن الجلد والأعصاب لا تكفي للشعور بجمال الوردة ونضرتها ومعاني الصباحة والحسن التي تتراءى بها للعيون والأذواق، وتتمثل بها فبعالم الخيال.
وكل حي يستطيع أن يرى ظواهر الأشياء ويسمع ظواهر الأصوات فإذا دخل هذ دار الآثار أو دار الفنون الموسيقية رأى وسمع كلما يرى بالعيون ويسمع بالآذان. ولم يجد في ما رآه أو سمعه مدعاة للسرور أو مدعاة إلى تكرار الزيارة باختياره.
ولكن إذا ملك من أدوات النفس فوق حاستي البصر والسمع - وهي حاسة الذوق - عرف مواضع الفرح فيما رآه وسمعه. ونظر في دار الآثار إلى جمال الصناعة ودلالة المعاني التاريخية الخالدة، وسمع في دار الفنون الموسيقية آيات التعبير المنسق وأسرار العاطفة الخفية التي تترجم عن نفسها بلغة الألحان.
كل إنسان يستطيع أن يخسر في الحياة، لأن الخسارة فيها مضمونة للعاجز الذي لا يحسن الفهم ولا يحسن العمل. فكل عاجز (قادر) على أن يأخذ نصيبه من خسائر الحياة بغير عناء، وقادر على أن يأخذ الألم مع الخسارة، لأنه يأتي معها بغير دعوة!
ولكن القدرة على الانتصار في الحياة لا تشيع بين الناس شيوع العجز والقصور.
نعم إن القادرين قد يخسرون والعاجزين قد يكسبون. ولكن هذا لا ينفي الحقيقة التي يعرفها القادرون والعاجزون وهي أن القدرة اندر من العجز وأن أدوات العجز ميسرة للأكثرين وأدوات القدرة لا تتيسر لغير القليل.
كل إنسان يستطيع أن يجد في تمثال المرمر وسيلة إلى الألم، لأنه يحصل على الألم بصدمة في الرأس، والقدم. ولكنه لا يحصل على السرور الذي يوحي به التمثيل إلا إذا أدرك محاسن الفنون وعرف صاحب التمثال وما عمله في حياته وما استحق به هذا التخليد بين قومه وقادري فضله وجهاده.
ولا يعنينا هنا أن تكون الأفراح في الحياة اكثر من الآلام أو تكون الآلام اكثر من الأفراح.
وإنما يعنينا أن أدوات الألم ميسرة للأكثرين، وأن الأفراح التي تحتاج إلى فهم غير فهم الظواهر حقيقة مقررة لا يدركها غير القليل.
وصحيح أن النفس إذا ارتفعت شعرت بآلام لا تشعر بها النفوس الوضيعة وأدركت مواطن للشر لا تدركها الطبائع المغلغلة والضمائر العمياء؛ ولكن هذا لا يغير الحقيقة التي أسلفناها! وهي أن الألم في جملته لا يحتاج إلى أدوات نادرة بين الأحياء، وأن كثيراً من المخلوقات تستطيع أن تتألم وهي في المرتبة الدنيا من مراتب الحياة، ولا تستطيع أن تفرح إلا إذا توافرت لها صفة (وجوبية) غير مسلوبة، وهي على الأقل صفة الصحة واعتدال المزاج.
ونعمم هذه الحقيقة فنقول إن المؤلمات سلوب وأن المفرحات ثبوت. لأن الألم يأتي من الفقد، والفرح يأتي من وجود شئ يفرح أو يصدر منه الفرح. ولا حاجة بالإنسان إلى أداة للفقد والخسارة، ولكنه يحتاج إلى أدوات كثيرة للإيجاد والتحصيل.
وقد مضى على الشرق زمن لم نسمع فيه غير الشكاية والحزن في شعره ونثره، وغير الشكاية والحزن في مواعظه وخطبه، وغير الشكاية والحزن في جملة أحواله وأعماله. ولم يكن ذلك الزمن الذي عمت فيه الشكاية والحزن زمن القدرة والعلم بل زمن الفقد والكسل. لأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلاء الحياة أعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى.
والطفل يبكي في اللحظة الأولى من حياته، ولكنه لا يعرف الابتسام قبل بضعة اشهر. لأنه في البكاء لا يحتاج إلى اكثر من صوت وهواء. ولكنه يحتاج قبل الابتسام أن يعرف وجه أمه وأبيه وان يدرك العطف بينه وبين أمه وأبيه.
وإذا تركنا شعور الضرورة إلى شعور المشيئة والاختيار تبين لنا أن الإنسان سريع إلى كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف المحاسن والمزايا. بل مغالط فيها بعد كشفها ومكابر في الشهادة بها لأصحابها.
فهو محجوب عن المحاسن باختياره وبغير اختياره:
محجوب عن محاسن الدنيا ما لم يتهيأ لها بأدوات الذوق والمعرفة وعمق البديهية وسمو الخيال.
ومحجوب عن محاسن الناس لأنه يحب أن يستأثر بالمحاسن لنفسه أو يحب أن يبالغ في تعظيم مزاياه وتصغير مزايا غيره. فلا يحتاج إلى اكثر من الأنانية العمياء يجهل فضائل الآخرين ومظاهر الكمال في المخلوقات؛ ولكنه يحتاج إلى النبل والإنصاف ورحابة الصدر ليعرف تلك الفضائل وينعم بعرفانها ويوفيها حقها من العطف والإعجاب.
فهو في معرض الدنيا معصوب العينين حتى ترتفع العصابة عن عينيه ليتعلم بعد جهل ويقتدر بعد قصور، ويغتبط بجمال من يراه بعد أن كان لا يراه.
وهو في معرض الحياة البشرية يضع كفيه على عينيه باختياره ولا يرفعهما حتى ترتفع عن ضميره عصابة الأثرة والجهود، وينفذ إليه شعاع النور من عالم الحق والإنصاف.
لهذا صح أن يقال إن أدوات الآلام اسهل واعم من أدوات الأفراح، وأن كثيراً من الناس قادرون على الشعور بالألم في اعم حالاته ولكنهم لا يقدرون على الشعور بجميع الأفراح ولا بجميع المرضيات.
وإذا طبقنا هذه الملاحظة على أبي العلاء وجدنا أنها تنطبق عليه وعلى زمانه، وتدل في حالته أيضاً على سهولة أسباب الألم وصعوبة أسباب الفرح بالنظر إليه وبالنظر إلى الزمان الذي عاش فيه.
فهو حسير كسير في عقر داره، وزمانه زمان الفتن والحروب وزمان التقلب والنفاق، وغاية الأمل فيه أن يسلم من الشرور أو يتغلب عليها بشرور أكبر منها وكلاهما بلاء على الكريم وبلاء على اللئيم، وقضاء يلوذ منه الحائر بالقبوع أو بالقنوع.
وبعد فيكفي أن نعلم أن الإنسان مطالب بتحقيق أسباب الفرح وغير مطالب بتحقيق أسباب الألم، لنعلم أن افرح محتاج إلى الأداة وإن الألم لا يحتاج إلى أداة، بل إلى نجاة!
عباس محمود العقاد