مجلة الرسالة/العدد 708/إمام الحرمين بين المتقدمين والمتأخرين
→ على هامش محاضرة: | مجلة الرسالة - العدد 708 إمام الحرمين بين المتقدمين والمتأخرين [[مؤلف:|]] |
يا ليل. . .! ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1947 |
للأستاذ الأب قنواتي
النضال بين المتقدمين والمتأخرين نضال قديم ساير الاجتماع على ممر الأجيال. فكل جيل طموح ونزعات تجعله ينظر إلى الجيل السابق بعين الاستخفاف بل العدوان. . . ولئن أردنا أن نقيم دليلا على هذه الحقيقة البسيطة وجدنا التاريخ حافلا بالأمثلة العديدة الشائقة في الميادين المختلفة من مذاهب أدبية أو فنية أو سياسية ونظريات علمية ومناهج تاريخية. . . الخ، وقد يرجع هذا النضال إلى طبيعة الإنسان وشغفه بالجديد. . . (سنة الله في خلقه). . . ولكنه قد يرجع أحيانا إلى التقدم الحقيقي والتعمق في البحث. فقبل أن يكتب النصر للجديد المتأخر لابد له من مقاومة القديم وإقناع مشيعيه، وهناك تغيرات واتجاهات لا تخلو من الخطورة على إخفائها وقلة ظهورها في الخارج يجدر بالباحث أن يحاول إماطة اللئام عن سرها وإبرازها بوضوح لأنها كثيراً ما تكون (مفتاحاً) لفهم تطورات أخرى ضخمة. ونريد اليوم أن نقف برهة عند نضال كان له أثره الخطير في تكييف علم الكلام، ونحن نعني طريقة المتأخرين التي حلت محل طريقة المتقدمين في القرن الخامس الهجري.
يقول أبن خلدون في مقدمته إن أول من كتب في الكلام على طريقة المتأخرين هو الغزالي، وقد ردد هذا الرأي كثيرون ممن أرخوا لتطور علم الكلام ولا سيما الشيخ محمد عبده. ما هي في رأي أبن خلدون، هذه الطريقة؛ وكيف تتميز من طريقة المتقدمين؛ وهل أصاب أبن خلدون في رأيه: تلك هي النقط التي أحب أن أعرض لها اليوم على صفحات (الرسالة).
أما طريقة المتقدمين فقد يراها أبن خلدون متحققة في الأخص
عند الباقلاني (المتوفي سنة 4031013). فبعد سرد الظروف
التي هيأت لعلم الكلام نشأته والتكلم عن الأشعري أخذ يقول:
(وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من
بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بك الباقلاني فتصدر للأمانة في طريقتهم ووضع المقدمات العقلية
التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر
الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى
زمنيين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه
القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك
الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول.
وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية
والعلوم الدينية، إلا أن صور لأدلة تعتبر بها الأقيسة ولم تكن
حينئذ ظاهرة في الملة. ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ
به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية
بالجملة). إننا - والحق يقال - لا نجد في هذا النص ما يشفى
غلتنا. - فما هو محور طريقة المتقدمين؟. . أهو استعمال
العقل في شرح العقائد؟ هذا لا يكفي، إذ العقل سيظل مستعملا
في طريقة المتأخرين بل سيكون ركنها الركين. هل هو عدم
الاكتراث بالمسائل الفلسفية؟. . ولكنا نجد الباقلاني وهو بلا
شك من المتقدمين يتكلم في الجوهر والعرض الخ فلنواصل
قراءتنا في مقدمة أبن خلدون. يقول مؤرخنا الشهير إن المتكلمين أخذوا على مر السنين يفرقون بين علوم المنطق
وبين علوم الفلسفة إلى أن قال: (ثم نظروا في تلك القواعد
المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين
التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام
الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، فلما سبروها بمعيار المنطق
ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان
دليله كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة من
مصطلحهم متباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين).
ففي رأي أبن خلدون يرجع الفرق الحاسم بين الطريقتين إلى
هذا: يعتقد المتقدمون أن بطلان الدليل يؤدي إلى بطلان
المدلول ويرفض المتأخرين هذا الزعم.
وأقر بكل بساطة، مع احترامي لأبن خلدون وسعة اطلاعه، بأني لم أرتض هذا الرأي لأني حاولت أن أطبقه على كتابي إمام الحرمين - الإرشاد والشامل فلم أعثر على المبدأ الذي يقول به المؤرخ العربي الشهير. كما أني لم أجد في كتب الغزالي الخاصة بعلم الكلام - على القدر الذي أعرفه - دحض هذا الرأي الذي يظهر فساده من أول وهلة. ومن يدرس عن كثب المناقشات الطويلة التي وردت في (الشامل) لا يلبث أن يتحقق أن الأمر خلاف ما ذهب إليه أبن خلدون. ولقد تبادر إلى ذهني أن الفرق الحاسم بين الطريقتين قد يرجع إلى نوع المنطق المستعمل فيهما، أو بالأحرى إلى مدى استعمال المنطق اليوناني فيهما. والذي هداني إلى هذا الرأي هو حدوث شبيه هذا المظهر في القرون الوسطى عند المسيحيين؛ فقد كان يوجد في العالم العلمي الأوروبي حتى القرن الحادي عشر منطق أرسطو في مختلف أقسامه، وكان يستعمل في المناظرات اللاهوتية ولكن من الوجهة الجدلية فقط. فعندما ترجمت كتب أرسطو الأخرى وخاصة كتابه ما بعد الطبيعة أحدثت في كهان علم اللاهوت انقلاباً عظيما. . . أصبح القياس الأرسطي محور البحث الديني نفسه، والمبادئ الأرسيطة - بقدر ما تكون غير مخالفة للعقائد - القالب العلمي لتقديم العقائد وربط بعضها ببعض والدفاع عنها والتعمق في مضمونها. ولقد تساءلنا عما إذا لم يحدث ما يشبه ذلك في علم الكلام عند المفكرين المسلمين. فلا شك أنهم عرفوا أرسطو منذ القرن الثاني للهجرة فقد كان بعض المعتزلة يقرؤون كتبه ويستفيدون منها. ومن المحتمل بل من المرجح أن مبادئه المنطقية أخذت تتسرب رويداً رويداً إلى علماء الكلام عن طريق المجادلات والمناظرات مع الفلاسفة أو الملحدين، وأخيراً اندمج في علم الكلام نفسه وأصبح من آلاته الأساسية.
ولقد تحدثنا مع الأستاذ الكوثري في هذا الموضوع، فتفضل
وأرشدنا إلى مخطوط لتلميذ للباقلاني أبو جعفر محمد بن أحمد
السمناني (المتوفي سنة 4441052)، وعنوان المخطوط:
(آليان عن أصول والكشف عن تمويهات أهل الطغيان)
يحوي هذا المخطوط باباً خاصا (بالفرق بين الأدلة الصحيحة
وبين فاسدها وذكر أقسامها)، يمكننا أن نعتبرها أنموذجا
خالصا لطريقة المتقدمين، فلا ذكر هنا لقياس أرسطو، ولا
ذكر لإبطال المدلول بأبطال الدليل الذي جعله أبن خلدون
معيار طريقة المتقدمين، بل يكتفي السمناني في القسم الأول
من الأدلة بذكر (حجة العقول التي نبه الله عليها بقول تعالى
لقوم يعقلون، ويتذكرون أفلا يتدبرون) وهذا القسم يقع الاحتجاج به من وجوه:
الوجه الأول: أن يقسم الشيء في العقل إلى قسمين أو أكثر من ذلك، ومحال أن تكون كلها صحيحة أو كلها فاسدة، فمتى أفسد الدليل أحد القسمين أو كلها إلا قسما واحداً ثبت صحة القسم الباقي.
الوجه الثاني: أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة، فيجب القضاء على أن كل من وصف في الغائب بتلك الصفة وثبت له ذلك الحكم فإنه لأجل مثل تلك العلة ما يستحقه.
الوجه الثالث: أن تعلم أن الذي يصحح الحكم والصفة إنما هو وجود المصحح، فيجب القضاء لكل من له تلك الصفة أن يكون مصححها مثل ذلك المصحح.
الوجه الرابع: أن تعلم أن حقيقة الشيء هو صفة له، فيجب الحكم بمثل تلك الحقيقة لمثل تلك الذات في الغائب، وكذلك الحد.
الوجه الخامس: أن تستدل بصحة الشيء على صحة مثله وما هو بمعناه، وباستحالة على استحالة مثله وما هو بمعناه.
هذه هي الحجج العقلية التي يبني عليها علماء علم الكلام المتقدمين براهينهم، وهي على ما أظن لا تتجاوز الدلائل العقلية المستعملة في أصول الفقه، ولا صلة لها صلة أساسية بالمنطق اليوناني.
أما الأقسام الأخرى من أقسام الأدلة التي يذكرها السمناني فهي الاستدلال بموجب اللغة، والاستدلال بظهور المعجزات على صدق من ظهرت على يده، لأنها تجري مجرى الشهادة له بالقول، والاستدلال بكتاب الله، والاستدلال بقول الرسول، وإجماع الأمة من أهل كل عصر، والقياس على الكتاب والسنة، والإجماع في الأحكام الشرعية التي لا مجال للعقل فيها بحال.
ومما جعلنا نؤمن بصحة نظريتنا مطالعتنا لرسالة الأستاذ علي محمد جبر من علماء الأزهر: (إمام الحرمين وأثره في بناء المدرسة الأشعرية). فقد درس الأستاذ إمام الحرمين درسا وافيا، راجعا إلى مؤلفاته: (البرهان ولمع الأدلة والشامل والإرشاد) وإلى مخطوطات أخرى مثل (المطالب العالية للرازي وإبكار الأفكار للآمدي). فتمكن من إبراز شخصيته العقلية والاتجاه الجديد الذي أعطاه لعلم الكلام. وقد انتهى الأستاذ جبر إلى أن إمام الحرمين هو رأس المتأخرين، وأن التمييز بين المتقدمين والمتأخرين يرجع إلى ناحيتين:
أولا: بالنسبة لطريقة الاستدلال على العقيدة، فقد يخالف إمام الحرمين الأشعري والباقلاني، إذ هو جعل الاستدلال على العقيدة بطرق ثلاث: السبر والتقسيم المنحصر بين طرفي النفي والإثبات، وقياس الخلف الذي يثبت الشيء بإبطال نقيضه، القياس المستقيم. والأشعرية قبله لم يستعملوا قياس الخلف ولا القياس المستقيم بل كانوا يستعملون طرقا خطابية تارة وقضايا مسهورة أخرى والسبر والتقسيم بقسميه المنتشر والمنحصر.
ثانيا: بالمسبة لبعض الموضوعات الكلامية مثل الكلام على الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب والسنة. فطريقة الأشعرية قبل إمام الحرمين هو عدم التأويل وعدم بيان المراد منها. أما إمام الحرمين فقد أول وبين المراد مهنا. ويقول الأستاذ جبر إن إمام الحرمين هو أو من جعل الأبحاث الكلامية مثل البحث في الجوهر والعرض والكون والطفرة والجزء الذي لا يتجزأ وسيلة وطريقة تؤدي إلى الغاية المطلوبة من نفس علم الكلام وهو إثبات الله وصفاته ونفي القدم عن سواه أكان قدما ذاتيا أم زمنيا.
وليس يتسع لي مجال هنا لمناقشة الأستاذ جميع نتائجه فهذا يستحق بحثا على حدة، غير أني أوافقه في جعل إمام الحرمين ممن أثروا تأثيرا حاسما في توجيه علم الكلام توجيها جديدا. ولو أني أميل إلى وضعه لا في رأس المتأخرين كما يفعل الأستاذ بل في محل وسط بين الفريقين، وكحلقة اتصال بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.
ومهما يكن من أمر، فإني على يقين أننا لا نزال محروم التفاصيل الشافية فيما يخص تاريخ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وذلك للعدد الضخم من المخطوطات التي لا تزال مطوية في أجواف المكاتب، ولو كان لي أن أقدم رجاء فهو أن يهتم شبابنا المثقف من أزهريين وجامعيين (بمعاونة الأزهر والجامعة معاونة روحية ومادية) بنشر النصوص الفلسفية والكلامية القديمة، فد حان الوقت في هذا الميدان أن نطير بأجنحتنا كما يقول الغربيون وألا نظل إلى الأبد عالة على المستشرقين.
إننا نلفت نظر من يهتم بتاريخ الفلسفة الإسلامية والمسيحية في القرون الوسطى إلى ثلاثة كتب قيمة ظهرت حديثاً في هذا الموضوع: أولا - كتاب مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان واليهود، وهو للأستاذ بينسي وقد عربه الأستاذ أبو ريده تعريباً دقيقاً.
ثانيا - كتاب إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية والفلسفية للأستاذ أبو ريده (الذي يستحق كل الثناء لما بذله في ميدان نشر الفلسفة الإسلامية).
ثالثاً - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط للأستاذ يوسف كرم وهو لا يقل تركيزاً وتعمقاً من كتابه في تاريخ الفلسفة اليونانية.
الأب قنواتي