الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 707/داود باشا ونهضة العراق الأدبية

مجلة الرسالة/العدد 707/داود باشا ونهضة العراق الأدبية

مجلة الرسالة - العدد 707
داود باشا ونهضة العراق الأدبية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 01 - 1947


في القرن التاسع عشر

للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى

- 2 -

ومن آثاره الجامع المسمى باسمه في الكرخ قرب مقام الخضر، والشارع الذي وسعه والباب الذي فتحه في الرصافة بالقرب من رأس الجسر القديم بجانب الثكنة (القشلة) وقد نقشت فوق رتاجه هذه الأبيات:

آثار داود آثار بها لبست ... بغدادُ حسناً يروق العين واضحه

تشكو الرصافة قدماً ضيق مسكلها ... ويكره الضيف غاديه ورائحه

فأُمْنِحتَ بطريق لازحام به ... وباب جسر حُسبىِ بالنصر فاتحهُ

يخاطب الملكَ الأعلى كأن به ... شوقاً إلى المشتري يبغي يصافحهُ

أعيا أبا جعفر المنصور حين بنى ... حظُّ أبو يوسف المنصور رابحهُ

داود من أُيدت بالنصر دولتهُ ... وعن لسان الثنا سارت مدائحه

لا زلت تسمع خيراً من مؤرخه ... بابٌ وداود ربُّ الفتح فاتحهُ

1241 هـ

ومن آثاره أيضاً الجامع القائم بسوق الهرج الذي شيد معالمه بعد درسها وقد كتب فوق بابه ما يلي:

ذا جامع كان قدماً لا شبيه له ... في حسن بنيانه والدهر غيرَّهُ

وكم وزير أتى الزوراء ثم مضى ... ولا لغير خيام الجند صيرهُ

حتى أتى ذا العلي داود آصفنا ... من حك بالسبعة الأفلاك مفخره

فشاد أطنابه من بعدما انهدمت ... للعابدين ووشاه وصوره

وحين ثم غدا الداعي يؤرخه ... ذا جامع بالندى داود عمره

1242 هـ

اهتم داود باشا اهتماماً عظيماً بتوسيع نطاق التجارة والزراعة وترقيتهما فكرى وشق الريح ومنها نهر عيسى المعروف اليوم باسم أبي غريب الواقع في الجانب الغربي من بغداد، وقد نظم الشيخ صالح الخيمي قصيدة عامرة الأبيات مطلعها:

لو نهر عيسى يحاكي فيض محبيه ... لصير الماء في أعلى روابيه

نهر عليه ظباء الوحش عاكفة ... دهراً فعادت ظباء الأنس تأويه

ولم تم كري نهر عيسى شرع في كري نهر النيل الواقع في لواء الحلة، فأمر بحشد خمسة آلاف فاعل، وقد أنجز حفره عام 1242هـ، فأكثر الشعراء من مدح المترجم بقصائدهم ومنهم الشيخ صالح الخيمي الشاعر المطبوع القائل في مطلع قصيدته هذه:

دع نهر عيسى وحدثني عن النيل ... واجر الحديث بإجمال وتفصيل

نيل ولا مصر لكن في جوانبه ... نضارة لم تكن في مصر والنيل

ومن مآثره اهتمامه بفتح المدارس وإنشاء المعاهد العلمية والأدبية وقد بلغت في زمن ولايته نحو ثلاثين مدرسة بين عالية وابتدائية ومنها المدرسة المعروفة باسمه وقد نالت شهرة واسعة.

شعره

كان صاحب الترجمة يحسن العربية ويجيد قواعدها وشواردها وله وقوف على آدابها، وقد نظم قصائد عديدة، ودبجت براعته رسائل كثيرة بعث بها إلى أصحابه وإخوانه؛ غير أن آثاره الأدبية فقد معظمها ولم يثبت منها سوى الشيء النزر في بطون الدواوين وعلى صفحات المهارق، وقد ورد في سجع الحمامة وهو ديوان بطرس كرامة ص324 ما نصه: وقال مخمساً والأصل بيتان لبعض شعراء العراق شطرهما داود باشا وإلى بغداد سابقاً:

زند الأسى بين الجوانح قدوري ... لما تأخر ذو الإمام إلى ورا

أين الوفا والغدر قد عم الورى ... ولقد يشق على النواظر أن ترى

ذاهمة في ذلة وصغار

أضحى النبيل الفرد منفصم العرى ... مما يؤمل جاهداً فوق العرا

يا لهف نفس مرة مما عرى ... ما كنت أوثر أن أشاهد أو أرى

كبراء قوم في أكف صغار

فالدهر خصم إن بدا إطراقه ... وإذا الزمان تراجعت أخلاقه سلب الرئاسة من يد الأحرار

لعب الزمان بنا فليس يغادر ... شهماً يميز عاذراً من غادر

يا طالباً شمساً بليل غادر ... ماذا تؤمل من زمان جائر

جعل الخيار بقبضة الأشرار

ومنها قصيدته المعروفة بالدرع الداودية، فقد وجدت في خزانة جرجس بك صفا، أوقفه عليها الأمير سعد حفيد الأمير بشير الشهابي الكبير، وهي من مخلفات شعر جده بطرس كرامه، وها نحن أولاء ندرجها كلها لأننا لم نقف على غيرها من نظم ذلك الوزير الشاعر:

الدرع الداوودية

أما آن للأحباب أن ينصفوا معنا ... فزاغوا وما زغنا وحالوا وما حلنا

نعم هجروا واستبدلوا الوصل بالجفا ... وخانوا عهوداً ماضيات وما خنا

رعينا حقوقاً لا علينا نعم لنا ... عليهم حقوق سالفات ولا منا

وفينا ولم نغدر فكان جزاؤنا ... جزاء أم عمرو فافهم اللفظ والمعنى

وإنا لقوم نحفظ الود غيرة ... ونرعى ذماماً إن حضرنا وإن غبنا

وإن جيشوا جيشاً من الصد والجفا ... بنينا من الصبر الجميل لهم حصنا

هم زعموا أن كل برق يخيفنا ... فخابوا بما قالوا وقلنا وما خبنا

إذا ضيعوا حقي فهم يعرفونني ... إذا هبت النكباء كنت لهم ركنا

وإني أبيُّ أن ألم برببة ... وأستعطف الخب اللئيم أو الأدنى

وما كان عيبي عندهم غير أنني ... إذا بيعت الأرواح لا أدعي الغبنا

وإن قام سوق الحرب إني أشدهم ... لأعدائهم بأساً وأكثرهم طعنا

وأثبتهم جأشاً وأطولهم يداً ... وأوفاهم عهداً وأكبرهم سنا

وأحكمهم عقداً وأمعنهم حمى ... وأصدقهم قولاً وأوسعهم مغنى

أجامل أقواماً ولا لامهابة ... فيزعم قوم أننا منهم خفنا

وأسكت إيفاء لود علمته ... وعندي مقال يحطم الظهر والبطنا

ولو وقفوا يوم الرهان مواقفي ... لأهديتهم روحي ومالي وما يفنى

فيا أسفي ضيعت عصر شبيبتي ... بكل خفيف القدر لا يعرف الوزنا فإن وصلوا حبلي وصلت حبالهم ... وإن قرعوا سني جدعت لهم أذنا

إذا همُ في إسعادنا لملمة ... ألمت بنا قد أسعفونا فلا عشنا

وظنوا بأن الآل يشفي من الصدى ... فخاضوا به للورد جهلاً وما خضنا

وقد بدلوا الغالي الذي تعرفونه ... بصفقة لهم تبت يدا كم وما أغنى

صحائف عندي غيرة قد طويتها ... ولو نشرت يوماً لقوا لها ذقنا

أجول بطرفي في العراق فلا أرى ... من الناس إلا مظهر البغض والشجنا

فخيرهم للأجنبي وقبحهم ... على بعضهم بعض يعدونه حسنا

وشبانهم شابوا المودة بالجفا ... وشبنا وما للصفو في كدر شيئا

حضرنا متى غابوا بموقف حربهم ... وإن حضروا في موقف للخنا غبنا

سمرنا مع السمر العوالي ليالياً ... وهم سمروا في ذكر سعدى وفي لبنى

جفوا فوصلنا حبلهم بعد قطعه ... فدع منهم يبدو الجفاء ولا منا

ألا نخوة منهم فيصغون للذي ... أيادي سبأ قد لاعبت ذلك المغنى

ألا حازم للرشد شد حزامه ... لداهية ينسى بها الطائر الوكنا

ألا مرشد منهم عن الغنى قومه ... فيوقفهم منه على السنن الأسنى

ألا رافع عن قومه بني ظالم ... إذا فقدوا في الحرب من ينطح القرنا

وكان إذا أبدى التشاجر نابه ... يفرون مثل الجمر عنه وما كنا

لقد حملوا ما يثقل الظهر من خنى ... كأنهم من ماله حملوا سفنا

متى تعتذر أيامنا من ذنوبها ... وهيهات من غدر لمومسة لخنا

فكم طحنت قوماً بجؤجؤ صدرها ... وما أصلحت يوماً دقيقاً ولا طحنا

وعصبة لؤم قد تناجوا لحربنا ... فياويحهم ماذا يلاقونه منا

تراموا وحاشا المجد أن يتقدموا ... علينا وهاموا بالأماني وما همنا

وطاشوا ببرق لا أبالهم ... وسلوا علينا المرهفات وما خفنا

فقل لي بماذا يفخرون على الورى ... إذا عدت الآباء أو ذكروا إلا بنا

فهبهم على مجد الأثيل تسمنوا ... ألا يعلمون المجد بالقول لا يبني

ألا غيرة تدعو الصريخ إذا دعا ... ليوم عبوس شره يوقظ الوسنى وطينا عن الزوراء لا در درها ... بساطاً متى ينشر نعد به طعنا

وإني وإن كنت ابنها ورضيعها ... فقد أنكرتني لاسقاها الحيامزنا

إلى الله أشكو من زمان تخاذلت ... وصار الكريم الحريستر فد القنا

ألا مبلغ عني سراة بين الوغى ... وأقيال عرب كيف صبرهم عنا

أهم بأم الحزم في حومة الوغى ... ومن ناهز السبعين أنى له أنى

إذا كفى اليسرى أشارت لناقص ... قطعت لها زنداً وألحقتها اليمنى

وأنا إذا صاح الصريخ لحادث ... أجبنا ولبينا لمن فيه أنبأنا

على الكرخ في الزوراء مني تحية ... وألف سلام ما بها ساجع غنى

صحبتهم طفلاً على السخط والرضى ... وشبت فلا سيفي أفاد ولا أغنى

وبعد مضي أربع عشرة سنة على ولايته في بغداد سولت له نفسه أن يستقل بالقطر العراقي ويسمى أميره كما فعل محمد علي باشا والي مصر، غير إنه لم يفز بوطره إذ فشا على أثر خروجه على الدولة العثمانية طاعون شديد الوطأة في بغداد وما جاورها من البلاد بحيث ثبط عزمه وشتت شمل جيوشه. فلما انتهى إلى الآستانة خبر عصيانه أرسل السلطان محمود خان نحو عشرين ألف مقاتل يقودهم علي رضا باشا وإلى حلب لكبح جماح الوالي المتمرد، فباغت قائدهم مدينة بغداد وشدد عليها الحصار بينما كان أميرها المستقل منهمكاً في تحصين أسوارها وتقوية حاميتها، وبعد مناوشات عديدة وهجوم ودفاع رأي أن لا طاقة له على القراع والكفاح لموت معظم جنوده بالوباء، فأذعن لخصمه وسلم نفسه أسيراً، فأرسل على الفور إلى الآستانة مخفوراً، وقد برح عاصمة العباسيين قاصداً القسطنطينية عام 1247هـ - 1831م حيث عفي عنه، ولقي مزيد الحفاوة والإكرام لكثرة خدماته السابقة للدولة، وبقي مشمولاً بالرعاية والالتفات، مدة إقامته في عاصمة المملكة.

لقد جمعت المترجم لحمة الأدب بالشاعر بالفلق المعلم بطرس كرامة الذي أتحفه بقصيدته الخالية التي بعث بها إلى طائفة من أدباء وشعراء بغداد وطلب منهم أن ينسجوا على منوالها ويباروا صاحبها وهاك مطلعها وبعض أبياتها:

أمن خدها الوردي أفتنك الخال ... فسح من الأجفان مدمعك الخال

وأومض برق من محيا جمالها ... لعينيك أم من ثغرها أومض الخال رعى الله ذياك القوام وإن يكن ... تلاعب في أعطافه التيه والخال

ولله هاتيك الجفون فإنها ... على الفتك بهواها أخو العشق والخال

مهاة أفتديها ووالدي ... وإن لام عمي الطيب الأصل والخال

أقترح صاحب الترجمة على الشيخ عبد الباقي العمري أن ينسج على منوال خيالة بطرس كرامه فعارضها بقصيدة غراء مطلعها:

إلى الروم أصبو كلما أومض الخال ... فأسكب دمعاً دون تساكبه الخال

وعن مدح داود وطيب ثنائه ... فلا القد يثنيني ولا الخد والخال

وقد ختمها بهذين البيتين:

وإني وإن كنت الرديف نظامه ... لمسبوقة حسن الردى لها الخال

فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة ... يعارضها حتى يصاحبه الخال

(يتبع)

رزوق عيسى