مجلة الرسالة/العدد 706/الأمير شكيب أرسلان وحركة الإصلاح
→ إلى اخْوتنا في أعالي الوادي | مجلة الرسالة - العدد 706 الأمير شكيب أرسلان وحركة الإصلاح [[مؤلف:|]] |
يا ليل. . .! ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1947 |
للأستاذ رفائيل بطي
فقد العرب والمسلمون في هذه الأيام شخصية متوهجة جبارة من الشخصيات التي عرفها عصر النهضة الحديثة عند العرب، فقامت بنصيبها من العمل الكبير في نواحي التحرير السياسي، أو إيقاظ الرقود، وبعث الهمم في النفوس، أو إبراز عبقرية هذه الأمة في العلوم والآداب والفنون، بحيث انبثق من هذه المساعي. المشتركة والمتواصلة فحر الانبعاث الذي ينير لنا طريق المستقبل للناطقين بالضاد.
ومما يؤسف له أن هذا الطراز من رجال العلم والعمل قد قل في العهد الأخير فصرنا كلما فقدنا واحداً منهم لا نجد من يشغل مكانه أو يسد الفراغ الذي أحدثه فقدانه. ولاسيما هؤلاء النوابغ الذين دفعتهم علو همتهم وأسعفتهم مواهبهم فجمعوا إلى التبحر في اللغة والتمكن من أسرار البيان فحولة في النظم والنثر، ومعرفة واسعة بما يتصل بقومهم وعشائرهم ودينهم من تاريخ، وخبرة بشؤونهم العامة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، يتوج كل هذه القابليات حماسة في الكتابة والتأليف، حبا بأن يشارك القراء الكاتب أو الباحث في صنوف المعارف التي تفيض بها صدورهم. ولعل فقيد العروبة والإسلام الأمير شكيب أرسلان خير مثال لهذه الطبقة من أعلام اليقظة.
تعددت مجالي النشاط الذي أخذ به أمير البيان لتنوير الأذهان، وبعث الأمجاد الخالية، وتوجيه الأفكار نحو طرق النهوض والإصلاح، فقد عنى في أول نشأته باللغة والأدب فنشر (الدرة التيمية) لابن المقفع من أول عهد شدا فيه الأدب قبل نحو خمسين سنة. ثم عالج الشعر فنظم في أبوابه المنوعة وجرت له مساجلات ومراجعات في القصيد مع بعض شعراء جيله، منهم محمود سامي باشا البارودي، الذي انعقد له لواء الزعامة في تجديد ديباجة الشعر العربي البليغ بعد أن أخلقت وعفى عليها الزمن بالركاكة والغثاثة. ومع أن الأمير لم يتفرغ للنظم لتوزع قريحته في أمور ومسائل متعددة بحيث كان مصليا في حلبة الشعر، فإن ما خلفه من القصائد الحسان يعبر عن سليقة خصبة، وطبع سليم مؤات لجيد المنظوم.
واستحكام أواصر المودة بين أمير البيان وأمير الشعراء، مما سجله قلم الكاتب العظيم ف كتابه: (شوقي أو صداقة أربعين عاما) يدل على تجاوب روحي بين هذين العلمين النيرين.
ولما اشتد ساعد شكيب ونضج فكره، دفعه حب الاستطلاع وروح الغيرة المتقد في ذهنه، إلى الاتصال بالصفوة المختارة من رواد النهضة والإصلاح، ولاسيما السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ طاهر الجزائري، فاقتبس من أنوارهم، وثقف من مبتكراتهم، وتطلع إلى سعة آفاقهم، ما أنشأه هذه النشأة الحافلة فظل حياته مهموما بدراسة علل تأخر العرب والمسلمين، وسر تقدمهم في العُصر الخوالي، ووسائل إنهاضهم من كبوتهم. وكم جرى قلمه بمقالات وبحوث، ووعت تواليفه من آراء وخطط تجري في هذه المسالك الرشيدة، والمتابع لسيرة الرجل يجد أنه لم يقصر همه على الكتابة والتأليف في السعي مع الساعين لخلق النهضة الجديدة، إنما خاض غمار مداولات مع رجال الدول والممالك، واتصل بهيئات وجماعات مختلفة الأجناس والمنازع جرياً وراء هذا الهدف القومي السامي.
وقد كان الأمير حريصاً على المكاتبة طويل النفس في المراسلة يمده روحه الحائر العالق بأهداب المجد، بالجلد والمواظبة على هذا الجهد، فلا يقف عند الكتابة، والتصنيف في الموضوعات التي يهواها.
وأمر واحد لم يشتهر به شكيب أرسلان هو الخطابة، فلم يؤثر عنه مواقف خطابية ذات خطر، والعل لانقضاء أمد طويل عليه يطوف في البلدان، ويتنقل في المهاجر، حاملا رسالة البعث العربي الإسلامي وفي قلبه إيمان راسخ، وفي يده قلم عسال، مما احتسبهما لخدمة بني أمه خدمة نصوحاً، جعله أن يبقى بعيداً عن المنابر.
والميزة التي اشتهر بها الفقيد الجليل وستخلد آثاره على وجه الزمن هذه الإحاطة المدهشة بأحوال العرب وشؤون المسلمين تحت كل كوكب، ومن شواهد هذه الخصيصة تعليقاته على كتاب: (حاضر العالم الإسلامي) لستودارد الأمريكي، فإن حواشيه وشروحه والفوائد التي علقها على متن مترجمة الأستاذ عجاج نويهض للكتاب تستوعب مجلدين كبيرين من كتب اليوم وفيها من صفة ديار العرب والمسلمين وأوضاع أهليها ما قلما تعثر عليه في مظنة أخرى. وفي هذا السفر صفحات لامعة كتبها علامتنا في الترجمة لجماعة من زعماء الشرق عرفهم وخبرهم بنفسه ما يكشف عن مغاليق حياتهم ويوجد مفتاح شخصيتهم، كما شحن الكتاب بذكريات له عن أطوار في سياسة الشرقيين، ووثبات التحرر والانعتاق في ربوعهم.
ومما ألح في هوايته في سنيه الأخيرة وقد ساقه إليه شغفه بحب قوميته وإعجابه بحضارة أمته في الأعوام المطوية (تاريخ الأندلس) بعد أن خلبت لبه آثارها الباقية في بلاد المجد المفقود عندما وقف على مشاهدها فانصرف إلى تأليف كتابه النفيس: (الحلل السندسية) الذي طبع منه بضعة أجزاء ولما يتمه.
وشاء أن يسجل رحلته إلى البلاد المقدسة في رسالة ممتعة هي (الارتسامات اللطاف). وحفزه وفاؤه لإخوانه وبره لأصدقائه إلى وضع كتاب: (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين عاما). تقف في تضاعيفه على مراحل فكرة الجامعة الإسلامية والثورة العربية، وكثير من مناورات دول أوربا وألاعيب الاستعمار في هذه لرقعة من الشرق.
إن مخلفات الأمير شكيب وتصانيفه الخالدة كثيرة، لا تستوعبها هذه الكلمة، فحسبي أنني أشرت إلى بعضها، وعندي أن من واجب أصحاب المروة، وأعوان الفضل، والمقدرين للرجال أن تتألف منهم جماعة (لتخليد ذكرى أمير البيان) وأول عمل تتوجه إليه، لإشادة بناء هذا التخليد البحث عن كتاباته ودراساته ورسائله التي لما تطبع، فتطبعها في كتب يتيسر اقتناؤها إحياء لذكراه، وإتماماً لرسالته وتعزيزاً للفكرة العليا التي اهتدى بها الراحل الهمام في جهاده.
ومن رسائله الطريفة التي تحمل فكرته الإصلاحية ما نشر بعنوان (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) وهي فصول كتبها المصلح الإسلامي جواباً على اقتراح من الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوه)، بأن يكتب لمجلة (المنار) في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة، فكتب شكيب رأيه، وطبع في كتاب مرتين بعد أن أذاعته المجلة الشهيرة.
يعتقد الامير الكاتب في بحثه التحليلي هذا أن عز المسلمين قام أول الأمر بالتمسك بأهداب الإسلام الصحيح، والاهتداء بهدي القرآن الكريم، فلما فقد العرب والمسلمون هذا الحماسة وانحرفوا عن التعاليم القوية ضعفوا وهانوا، فلم يبق لهم اليوم سخاء الإفرنج في المشروعات العامة، والمفاداة في الذود عن حياضهم ببذل الدم والمال، وإن من أول أسباب تقهقرهم في العصور المتأخرة فقدانهم كل ثقة بأنفسهم رغماً عن مقدرتهم على العمل، واستشهد على هذه القدرة على العمل بمشروعي إنشاء خط الحجاز الحديدي ونبوغ طلعت حرب باشا في تشييد بنك مصر والأخذ بمصانعه ومعامله الناجحة.
والسيد الارسلاني يؤمن بان العلم كفيل ببعث الامة، العلم القائم على ركنين: العلم الطبيعي وعلم الدين. ومحصل نظريته في نهضة الشرق العربي والأمم الإسلامية، أن الأمة لا يتم لها النهوض والغلبة إلا بالتضحية أو الجهاد بالمال والنفس، فإذا تعلمت هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف، وإن المضطلعين بالإصلاح غير محتاجين إلى أن يكونوا من كبار رجال العلوم والفنون بل يكفي إذا أوتوا العقل السليم والإرادة النافذة، والتوجه نحو الأعمال، لا الاكتفاء بالتمني والآمال.
وبين ثنايا الكتاب لشواهد وفرائد عن أحوال الناطقين بالضاد وأتباع محمد بالقياس إلى أمم أوربا الناهضة ما يقنع القارئ ويوري زناد الفكر عند من يطلع فيدرك فيتأثر.
وفق الله الامة، لتعمل بإرشاد رجالها المصلحين، فتفوز وتسعد.
رفائيل بطي