مجلة الرسالة/العدد 705/خنازير تدس أفواهها في وضوء المسلمين
→ المجدد المنتظر. . . | مجلة الرسالة - العدد 705 خنازير تدس أفواهها في وضوء المسلمين [[مؤلف:|]] |
تسبيحة الرمال. . ← |
بتاريخ: 06 - 01 - 1947 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
خبرت كثيراً من الهيئات الإصلاحية، فوجدت فيها نوعاً من الناس يشترك في توجيهها مع أنها لم تنشأ إلا لتطيره هو أو تطهير المجتمع منه! فكيف تأتي لأمثال هؤلاء أن يتسربوا إلى منابع الطهر ومناطق الإصلاح؟ إنها لا شك غفلة وعبث ومجلبة للأضرار حيث تلتمس المنافع، وإنها خدعة لها ما بعدها من انتكاس الحال وازدياد الفساد وانعكاس القصد وضياع الجهود هدراً، وإنها لفجيعة أن تلتمس لوجهك طهوراً فإذا به نجس!
وأنا أفهم أن الإنسان قد يلبس بعض الشر والضعف الخلقي ويقترفه وهو مؤمن بالفضيلة محب للصلاح والصالحين يدعوا الله أن ينفعه وينقذه بهم وأن يمن عليه بسلوكه مسالكهم ومع ذلك يبتعد عنهم كي لا يلوثهم أو يعطلهم أو يؤثر على توجيههم للناس، ولكنني لا أفهم أن يقترب منهم ويشترك في إرشاد الناس معهم مع أنه يعلم رأي الناس فيه وقلة بضاعته في سوق الهدى والتوجيه.
إن المريض بمرض نفسي ينبغي له ألا يزاول التطبيب فيه، إلا إذا كان له من الشجاعة ما يجعله يقدم نفسه دليلاً وحجة على فساد عكس ما ينصح الناس به، وما يجعله يضرب نفسه مثلاً مجسماً أمام الجماهير، يقول بصدقه وصراحته قولاً بليغاً في نفوسهم؛ لأنه حينئذ يكون كذلك النوع النادر من الأطباء الذين يقدمون أنفسهم قرابين للعلم وفداء للناس بتعريض أجسامهم للأمراض الفتاكة ليخبروها ثم يخبروا الناس عن نتائجها.
ولكنا نجد كثيراً من مرضى النفوس وضعاف الأحلام، ومثال الأنانية، لا يجدون مجالاً لعرض أمراض نفوسهم وضعف أحلامهم وجلو شهرتهم إلا في جبهات الإصلاح يتطرقون إليها في جرأة، ويتدسسون فيها في خبث واستغلال، حتى لتبدوا للناقد الفاحص كأنها جبهات إفساد لا جبهات إصلاح!!
وإن السماح لهذا التسرب الخطر هو نوع من الصد عن سبيل الله، لأن الدرهم الزائف يطرد الدرهم الصحيح من السوق ويجعل طابع التعامل هو الغش والخداع، ويحمل الجماهير على الشك في صحة الدعوة الإصلاحية، بل الشك في جوهر الفضيلة ذاتها. . . وهذا أمر في غاية الخطورة على أمة تلتمس لنفسها السلاح الوحيد لإنقاذها وإنهاضها، الإيمان بالقيم الخلقية والعقائد التي تثير أعظم ما في الطبائع البشرية وتوجههاً نحو المجد والقوة والفوز ولعل هذا الأمر هو السر في أننا نجد كثيراً من تلك الجبهات الإصلاحية لا تلبث أن تنهض حتى تنهار، ولا يلبث رجالها أن يتعارفوا حتى يتناكروا ويختلفوا وتظهر أعراض اختلافهم وتناكرهم على عيون الأشهاد، وهذا من طبيعة الأشياء إذ كيف يتأتى أن تجتمع الأضداد والمتناقضات من غير احتراب وشقاق؟ وأي بذرة أو نواة استطاعت قوانين الحياة والنماء أن تخرج منها نخلة أو شجرة فارعة مثمرة إذا كانت عوامل السوس والفساد قد تسرب إليها وهي في طور النمو الأول؟ إن الله تعالى يحافظ على مناطق النمو في النبات والحيوان ويلففها بأقمطة ولفائف ويقيم حولها حراساً أيقاظاً تدرأ عنها عوامل الفساد وتحفظ فيها عوامل الحياة ولا تسمح لسوسة أو نملة أو جرثومة مخربة ضئيلة أن تتطرق إليها وتزعم أنها من عوامل التكوين والنمو. تلك هي سنة الله القادر العالم الحفيظ الغيور على ما يصنع حين يكون المصنوع في دور الضعف دور النشوء، حتى إذا قوى واشتد وصار قادراً على احتمال الصراع بين عوامل الحياة وعوامل الفناء تركه يبرز قواه الذاتية وأسراره الخفية في الحرب الأبدية بين الخير والشر. فلماذا لا يصنع محبو الإصلاح المخلصون ما يصنع الله ويسترشدون بسننه وقوانينه؟ أم هم يظنون أنهم قادرون على تبديل سنن الله ما داموا يتكلمون بحذق ومهارة؟ إن الأمر في إنشاء جيل على الصلاح ليكون أساساً لأجيال بعده، أعظم من أن يكتفي فيه بتزاويق الكلام وتحابيره. إنه يلخص في أمر واحد. عمل مجسم صامت في جوانب الحياة لا يعلن عنه أصحابه وإنما يتحدث عنه غيرهم!
وما ينبغي أن يخدعنا الكلام بعد أن وعينا عبرة الأيام التي هي عبرة العمل وحده في الأمم التي تحب العمل. . .
لقد وجدت بعض الملحدين الفاسقين يحسنون القول في الإيمان أكثر من إحسان المؤمنين الصادقين. . .
ووجدت بعض المجرمين يجيدون القول في احترام العدالة والقوانين أكثر من إجادة الطائعين الخاضعين للنظام. . .
ووجدت بعض الضعفاء يعظمون القول في القوة ة والسلطة أحسن من الأقوياء المسلطين.
ووجدت أعداء الحق والفضيلة والصلاح إذا حملتهم المناسبات على القول في أضداد ما يقترفون: أتوا بالقول الساحر والبيان الخالب، طلباً لتصفيق الجماهير البلهاء، لا لوجه الله. . .
ووجدت الجماهير البلهاء أسرع إليهم وأشد احتفالاً بهم من احتفالها بالعاملين الصادقين المحسنين. . .
لقد وجدت هذا. . . فصرت لا أخدع بالكلام. . . وعلمت لماذا كان العمل هو الأمر الوحيد الذي جعله الله ميزان القلوب ومعيار الحساب. . . وعلمت السر في حديث (محمد) سيد المصلحين المخلصين - ﷺ - في وصف الدجالين الذين يدسون أفواههم في دعوات الإصلاح كما تدس الخنازير أفواهها في وضوء المتطهرين المسلمين: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان: مالك! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهي عن المنكر وآتيه).
عبد المنعم خلاف